الأحد 10 نوفمبر 2024
كان عمره 12 سنةً، عندما اشتعلت الحرب بين الجيش (الحزب الحاكم)، ومتمردي الجبهة الثورية المتحدة التي بدأت في اجتياح جمهورية سيراليون؛ غرب أفريقيا، بين عامي 1991 و 2002.
إنِّه اسماعيل بيه؛ "اشمائيل"، هكذا ينطِقونها هناك، صاحب رواية "الطريقُ الطويل - مُذكِّرات صبّيٌ مُجنّدْ" التي أثارت الكثير من الشجن والحزن كما الجدل، فالرجل – الصبي المُجنّد سابقاً – الذي يعمل الآن عضواً في اللجنة الاستشارية لقسم حقوق الطفل في منظمة هيومن رايتس ووتش، كان قد نجا بأعجوبة من براثن الجبهة الثورية المتحدة (المتمردة) عندما قتلت أسرته، فوجد نفسه وحيداً هارباً إلى المجهول، تاركاً خلفه كل شيء حتى روحه، في بلدة ماترو جونغ بمقاطعة بونتي؛ حيث وُلّد عام 1980.
بلا روح، بلا أمل، بلا عائلة، وجد الصبي ابن الثانية عشر، نفسه في حضن جيش بلاده، فظن لأول وهلة أنه نجا، لكن بعد هنيهة اكتشف أنه كالمستجير من الرمضاء بالنار. فقد كان الجيش السيراليوني تحت ضغط المتمردين، وتقدمهم بحاجة إلى مجندين. لذا، كان الأولاد الذين صيّرتهم الحرب أيتامًا بلا جذور، هدفاً للتجنيد، وها هو اشمائيل، الآن جندياً، وهو في الثالثة عشر من عمره، بعد أن خضع لتدريب سريع، وغسيل دماغ وتغذية بالكراهية والحقد وبعض المخدرات، صار الآن مهيئاً للقتال.
في حرب السودان الراهنة، بالكاد ينتبه أحداً للأطفال المجندين، في قوات الدعم السريع، على وجه الخصوص، كما أن الجيش ليس بأحسن حال، فمنذ أن فرضت عليه جماعة الإخوان عقيدتها، ومع تواصل دعواتها في طلب الاستنفار الشعبي، بعد أن عجزه عن وقف تقدم قوات الدعم السريع التي باتت تسيطر الآن على معظم البلاد، ومع الفشل النسبي لهذه الدعوات، لجأت مؤخراً إلى ما أطلق عليه اسم "المقاومة الشعبية"، وصارت تمد المواطنين بالسلاح، بمن فيهم الأطفال، وتحفزهم على مقاومة من تسميهم "الأوباش" الأجانب القادمين من غرب إفريقيا، لاحتلال البلاد.
ما يعرفه الجميع، لكنهم ينصرفون عن الكتابة عنه، أو التنديد به، هو أن هؤلاء السياسيين العقديين الذين يسيطرون على قيادة الجيش، سيفرون مع أول رصاصة، كما هي عادتهم، ويتركون الأطفال يواجهون مصيرهم إزاء خصم غاشم، ربما جنَّدهم أيضاً، كما حدث لإشمائيل، ذاك الصبي السيراليوني الذي نحن بصدد روايته الحاذقة المبهرة.
يمكننا بطبيعة الحال، تصنيف رواية إسماعيل بيه بأنها مذكرات واقعية، ترصد حيثيات وقصص وتجارب وذكريات؛ الوقت الذي قضاه جنديا (طفل) خلال الحرب الأهلية السيراليونية التي استمرت عقداً كاملاً.
خلال السنوات التي أنفقها الصبّي (الطفل) تمكن بفضل درهم من حظ، فضلاً عن مهاراته وقوته العاطفية، من التغلب على المحن والصعاب التي واجهها بشجاعة نادرة وحيّل مبتكرة، فبقي على قيد الحياة داخل وخارج الحرب. وبعد ثلاث سنوات من القتال والمخدرات، أنقذته منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، وهو ابن السادسة عشر، وشرعت في إعادة تأهيله وربطته بأحد أفراد عائلته (عمه تومي).
فأنت على الأقل لم تكن تقتل الناس وتستنشق البارود، هكذا كانت طفولة إسماعيل بيه، صاحب رواية (الطريق). وهكذا هي طفولة عشرات آلاف الأطفال المنسيين رهائناً لطرفي الحرب الدائرة في السودان، إنهم الأطفال (الإسماعيليين)، إن نجوا من اللعنة الراهنة. هل تخيلتم الآن، كيف هو الجحيم؟
إذا لم تتمكنوا من تصور ذلك، فإن إسماعيل سيساعدكم، من خلال روايته "الطريق الطويل – مُذكِّرات صبّيٌ مُجنّدْ"، إنها قصة حرب مدمرة من خلال عيون جندي طفل.
الرجال يركضون بالبنادق في كل الاتجاهات، ويطلقون النار على بعضهم البعض بذات الطريقة، كأنما أصابهم جنون جماعي، لا يكتفون بذلك بل يعطون الأطفال المخدرات وبنادق (AK-47). إنهم الجنود المفضلون، فقد أجبر طرفا القتال في حرب سيراليون أكثر من 300 ألف طفل على القتال في صفوفهما، كان إشمائيل واحداً منهم، حيث ارتكب بدوره أعمالاً فظيعة، لقد كان جزء من الحرب.
يحدث ذلك الآن في ظل الحرب السودانية، وسيقاتل الأطفال علانية، كما حدث في سيراليون، فحرب الخرطوم، تتقدم كل يوم نحو التحول إلى قتالِ ضارٍ بين القبائل. هذا هو الخطاب السائد الآن، ما لم يجلس الطرفان إلى مفاوضات عاجلة. سيكون الأطفال والنساء ضحايا للحرب المقبلة، فالحرب الراهنة كانت محض فصل أول من الرواية السودانية المذهلة.
استمرت حرب سيراليون عشر سنوات (عشر ة فصول)، قالها إسماعيل بيه، ويقولها سودانيون كثر، يحذرون، لكن تحذيراتهم تصبح هباءً منثوراً، ليس بفضل العسكر والجنجويد والإخوان المسلمين فحسب، وإنما كذلك بالعديد من المثقفين الذين يدعمون الموت والحرب والدم.
في إفريقيا؛ والسودان ليس استثناءً، بل هو على رأس القائمة، إذ شرع في الحرب الأهلية منذ عام 1955، وهو أكثر بلدان إفريقيا قاطبة اجتراحاً لمثل هذا النوع من الحروب، بالأدلة القاطعة والشواهد الماثلة، يجندون الأطفال بعد أن يتلاعبوا بعقولهم أو يقهروهم بالمخدرات والكراهية، فيحولونهم إلى قتلة.
هذا ما حدث لإشمائيل أو إسماعيل، سيان، فينما هو هارب من البلدة، في بلاد مليئة بالحروب – كما السودان الآن – وقع، وهو مملتئ بالسعادة في حماية وحدة من الجيش الحكومي، حيث تعرض لغسيل دماغ، أجبر بعده على المخدرات، فحمل السلاح وقاتل وهو الهارب من القتل إليه.
تدور الحرب الآن على نطاق واسع، في السودان، بدءاً من الخرطوم العاصمة، وخمس ولايات في إقليم دافور (غرب) وأربعة في كردفان (غرب) والجزيرة (وسط)، وعلى تخوم شرق وشمال السودان، والنيل الأبيض والأزرق وسنار، لا جغرافية مُستناة من الحرب.
وفيما تتوغل قوات الدعم السريع، وتكسب أراضٍ جديدة، يتعرض سكانها المدنيين للنهب والسلب والتهجير، يوزع الجيش السوداني السلاح على المواطنين، ليقاتلوا نيابة عنه، ويحققوا له ما عجز عنه طوال 14 شهراً من الحرب الضروس.
وأنا أقرأ هنا رواية؛ إسماعيل بيه، أتخيل كما يرى الصاحي، ما يحدث لأطفال السودان في هذا الطريق الطويل.
ولد إسماعيل بيه في سيراليون عام 1980. وانتقل إلى الولايات المتحدة عام 1998، وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة الأمم المتحدة الدولية في نيويورك. ثم حاز على بكالوريوس في العلوم السياسية من كلية أوبرلين عام 2004 . وهو الآن متحدث في الأمم المتحدة ضد جرائم الحرب المتعلقة بالفظائع التي ترتكب ضد الأطفال، ويقيم في مدينة نيويورك.