تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 20 سبتمبر 2024

سياسة

مذبحة "ود النورة" في السودان .. تتعدد الروايات والموت واحدٌ!

10 يونيو, 2024
الصورة
ود النورة
مقتل أكثر من (200) شخص جراء استخدام قوات الدعم السريع للأسلحة الثقيلة في الهجوم على قرية "ود النورة". (الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي)
Share

كان مشهداً مروعاً، مئات الجثث المسجيّة والمُغطاة بأكفانٍ بيضاء موضوعة على نعوشٍ متواضعة، يصطف خلفها الفلاحون الفقراء للصلاة والوداع الأخير. كانت تلك هي الصورة المأساوية للمذبحة التي اتهمت جهات عديدة، بينها مجلس السيادة السوداني وأحزاب سياسية محلية ووسائل إعلام ومنظمات حقوقية عالمية وإقليمية؛ قوات الدعم السريع السودانية (شبه الحكومية) بارتكابها 5 يونيو/ حزيران الجاري؛ في قرية "ود النورة"؛ بولاية الجزيرة وسط السودان، والتي تبعد حوالي 356 كيلو متراً تقريباً عن العاصمة الخرطوم، فيما تبعد عن مدينة المناقل العاصمة المؤقتة لولاية الجزيرة، بنحو 40 كيلومتراً، ويوجد بها مقر كبير للجيش والمتطوعين، ممن يُطلق عليهم المُستنفرين والمقاومة الشعبية. 

القصة من رواتها

إنها إحدى قصص الحرب السودانية، الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع التي أنشئت عام 2013، إبان نظام الرئيس عمر البشير، الذي أطاحت به ثورة شعبية في عام 2019، قبل أن يتم تقنينها عبر البرلمان، بقانون تمت الموافقة عليه بالإجماع، عام 2017. 

خلال مسيرتها البالغة نحو إحدى عشر عاماً، كانت قوات الدعم السريع تخوض العمليات القتالية "نيابة" عن الجيش، ضد حركات التمرد المسلحة في إقليم دافور غرب السودان. وقد ارتكبت منذ ذلك الوقت الكثير من جرائم الحرب، لكن ظل النظام السابق وذراعه السياسية؛ حزب المؤتمر الوطني يساندونها، وينافحون عنها، ويصنفون الأحزاب السياسية والمثقفين والمواطنين العاديين الذين يطالبون بحلها أو دمجها دمجاً كاملاً في الجيش بالخونة والعملاء، وبعد سقوط نظام البشير مضى المجلس العسكري الانتقالي برئاسة قائد الجيش، عبد الفتّاح البرهان؛ في ذات الطريق، بل أوغل فيه، فأتى بقائدها محمد حمدان دقلو، الشهير بـ(حميدتي) نائباً له في المجلس العسكري، ثم نائباً له في مجلس السيادة الانتقالي.

 هكذا أصبحت قواته تلعب أداوراً سياسية واقتصادية، بجانب الأدوار القتالية التي أُسست من أجلها، إلى أن وقعت الكارثة، عندما اختلف الجنرالان، عقب انقلابهما في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على حكومة عبد الله حمدوك، فقررا حسم خلافاتهما بالبندقية، وأشعلا الحرب الراهنة في 15 أبريل/ نيسان 2023. 

ليست المذبحة الأولى 

لم تكن مذبحة "ود النورة" الأولى من نوعها خلال الحرب؛ فقد سبقتها مذبحة أكثر بشاعة في مدينة الجنينة؛ كبرى مدن ولاية غرب دارفور على الحدود التشادية (غرب السودان)، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وصفتها بعض المنظمات الحقوقية بالإبادة الجماعية والتهجير القسري.

استيقظ السودانيون في 5 يونيو/حزيران الجاري، على مذبحة جديدة في ود النورة، هزت الضمير الإنساني في العالم كله، وقال شهود عيان وصحف محلية والناطق باسم الجيش السوداني، إن الدعم السريع اقتحمت القرية التي لا يوجد بها معسكر للجيش، وشرعت في قتل الأهالي، ونهب ممتلكاتهم وإصابة عديدين منهم، حيث  قُدِّر عدد القتلى، وفقاً لمصادر متطابقة، ما بين 150 و200 شخصاً، بينهم 35 طفلاً؛ بحسب كاثرين راسل؛ المديرة التنفيذية لمنظمة اليونسيف التابعة للأمم المتحدة. كما دان الاتحاد الأفريقي ما حدث، ووصفه بالمذبحة على لسان رئيس مفوضيته، موسى فكي، الذي أعرب عن انزعاجه البالغ من استمرار تدهور الأوضاع في السودان، محذراً من إمكانية حدوث مجاعة في البلاد. من جهته، اعتبر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، ما حدث صدمة كبيرة، مطالباً بمحاسبة المسؤولين عن ما سمّاه بالقتل غير المشروع، وإنهاء الحرب في أسرع وقتٍ مُمكن. 

رواية الدعم السريع

نفت قوات الدعم السريع من جانبها الاتهامات الموجهة إليها، واعتبرتها سياسية بالدرجة الأولى، وأن هناك معركة حقيقة جرت بينها وبين الجيش السوداني، مدعوماً بقوات أمنية وشعبية أخرى. وقال الناطق باسم الدعم السريع، المقدّم الفاتح قرشي، إنّ الأمر يتعلق بمعركة جرت في أطراف بلدة ود النورة بين عناصر الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية والمخابرات العامة وكتيبة من فلول المؤتمر الوطني.وأضاف: "ما جرى تداوله من قتل لعشرات المدنيين من سكان البلدة، وسلب ممتلكاتهم، ما هو إلا افتراء من صنع عناصر النظام القديم".

ونقل صحافيون ومحققون، منشورات ومقاطع فيديو منسوبة إلى صفحة خاصة بما تُسمى المقاومة الشعبية – ولاية الجزيرة، يديرها إسلاميون، يعود بعضها إلى فبراير من العام الجاري، تظهر وفداً للمقاومة الشعبية من قرية ود النورة برفقة أعيان، يعلنون في حفلٍ خطابي بمدينة المناقل، عن اكتمال استعدادات شباب القرية للمقاومة الشعبية والتضحية بأرواحهم، في سبيل محاربةوطرد قوات الدعم السريع من الجزيرة، وتحرير عاصمتها مدينة (ود مدني). 

يقول ناشطون مؤيدون لقوات الدعم السريع، إنّ من يُطلق عليهم المستنفرون، وجلهم من المنتمين للحركة الإسلامية السودانية، ظلوا يتحرشون بوحدات الدعم السريع، التي تقوم بين الفينة والأخرى بعمليات تمشيط واسعة النطاق في ولاية الجزيرة، ويرسلون رسائل سلبية تحمل تهديداً بالحرب، حيث ظلوا يعلنون دعمهم الكامل لقيادة الجيش، ويحرضون الناس على حمل السلاح الذي يحصلون عليه من الجيش نفسه، في وجه هذه الدعم السريع، ويتدربون على يد الجيش. هؤلاء يصنفون في أي حرب في العالم كأعداء، تجب مقاومتهم والقضاء عليهم، قبل أن يتكاثروا ويتمكنوا ويصبحوا خطراً حقيقياً.

في هذا السياق، يشير مؤيدو الدعم السريع إلى أن اللافت عدم وجود نساء بين القتلى، وأن حديث المديرة التنفيذية لليونسيف عن مقتل 35 طفلاً، كان عاماً غير مستند على دليل وإثبات، وأنها اعتمدت على رواية آحادية من قبل مؤيدي الجيش المنتمين إلى النظام السابق، رغم أن الصورة الوحيدة التي تم تداولها كانت لجثامين مغطاة بأكفان، لا تظهر وجوه القتلى، حتى يتم التأكُّد من صحة هذا الزعم. فقد كان بمقدور الذي التقط الصورة، أن يلتقط أخرى قبل تغطية وجوه القتلى، ليثبت ما إذا كان بينهم أطفالاً بالفعل.

بناءً على ذلك، تُشدّد قوات الدعم السريع أنها قتلت هؤلاء في معركة ضارية، دارت على مشارف قرية ود النورة، قبل أن يهرب من تبقى منهم، وتطاردهم إلى داخلها، ثم قامت بعملية تنظيف شاملة للمنطق، ولهذا السبب لم يكن بين القتلى نساء أو أطفال وفقاً لزعمهم.   

حرب السودان الأبديّة 

 إلى ذلك، وبين هذه الروايات المتناقضة، وهذا الركام المتعاظم من الدمار المادي والنفسي، يعيش الشعب السوداني، منذ أكثر من عام، حالة من فقدان الذات، وعدم الاستقرار واللجوء والنزوح والتشرد والجوع، كما لم يشهد من قبل، رغم أنه يعتبر الدولة الأفريقية الأكثر معاناة من الحروب الأهلية التي بدأت في جنوب السودان، قبل إعلانه الاستقلال بقليل بتمرد حركة أنانيا عام 1955، والتي انتهت باتفاقية أديس أبابا عام 1972. لكن لم يستمر الأمر طويلاً، فعاد الجنوب إلى الحرب مجبراً عام 1983، من خلال الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة جون قرنق، إلى أن انتهت الحرب بمفاوضات جرت في كينيا، وانتهت إلى ما عرفت باتفاقية السلام الشامل عام 2005، ثم وضعت حداً نهائياً لهذه الحرب، بإعلان الجنوب استقلاله عن السودان (الأم) عام 2011، عبر استفتاء صوّت خلاله شعب الجنوب على الانفصال، بنسبة بلغت أكثر من 99%.  

لكن كانت حروباً أخرى لا تزال قائمة، في غرب السودان وجنوبه الشرق وجنوبه الجديد، والمتمثل في جبال النوبة بمنطقة جنوب كردفان. إنها حروب أبدية، ما إن تتوقف في جزء من السودان حتى تشتعل في آخر، لا تهدأ ولا تنتهي. لكن الأخيرة كانت قاصمة الظهر، حيث تواجه فصيلين من الجيش داخل العاصمة، وانتقلت الحرب إلى جغرافيات أخرى ظلت تتمتع بأمن تام، وبعيدة عن حزام الحروب في أطراف البلاد القصية، إنها الحرب الأكثر شمولية. 

إلى ذلك، خلفت هذه الحرب في السودان، منذ اندلاعها في 15 أبريل/ نسيان 2023، نحو 15 ألف قتيلاً وحوالي 8.5 مليون نازحاً ولاجئاً، وفقاً للأمم المتحدة، كما لم تُجد وتثمر الوساطات المختلفة من قبل الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومة (إيغاد) والسعودية والولايات المتحدة الأميركية في الضغط على الطرفين، من أجل إبرام اتفاق سلام يضع نهاية لها، وقد دخلت عامها الثاني.