الخميس 21 نوفمبر 2024
بعد أكثر من عامٍ ونصف، من اندلاع الحرب في السودان بين الجيش السودانيّ وقوات الدعم السريع، في منتصف أبريل/ نيسان 2023، نتساءل عن واقع الإعلام السودانيّ وسط هذا النزاع المسلّح؟ وكيف توّرط في إظلام الأزمة إعلاميًا؟ وما مدى مساهمته في ظهور الفجوة الاعلاميّة التي تعرضت لها الحرب في البلاد؟ وكيف انعكس الضعف والهشاشة التي يعرفها على ممارسة السلطة الرابعة لوظائفها؟ وهل سيحوّل الصحفيون السودانيون سياق الأزمة إلى فرصةٍ واسعة للنهضة والتطوير واستدامة الصمود في أوقات النزاعات المسلحة؟.
حتى بعد مرور 500 يوماً من اندلاع الحرب، ما تزال الفجوة الإعلامية تجاه الأزمة السودانيّة قائمًا، وتلوّح مؤشرات تصاعدها عالياً وبوضوحٍ صارخ ومقلق. فالتغطية الصحفيّة المحلية منها والعالمية، لجوانب النزاع لا تزال خجولة، ولم ترق إلى مستوى حجم وعمق الأزمة الشاملة والكارثيّة التي خلّفتها هذه الحرب، على المدنيين بشكل خاص. ورغم اعتراف العالم بحجم المأساة وتأثيراتها، لكن لا يزال بعيدًا عن تحريك ثباته ونكوصه لفعل شيء حيالهم، بل يوماً بعد آخر يؤكد، مع استمرار الحرب وتفاقم الأزمة نحو مستويات أكثر كارثيّة، أنه لم يراوح موقف المتفرج عن بُعد، وكأنه يستمتع بعمق الفظائع والأوجاع التي تزداد سوءًا وفجاعة مع مرور كل ثانيّة. كل هذا وسط جملة تعقيدات تتشابك باطرادٍ وعنف على المستويين الإقليمي والعالميّ، وليس المحلي بمعزل.
بعد سقوط نظام البشير في 11 أبريل/ نيسان 2019 باحتجاجات شعبية، بدأت في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2018، حاول الصحفيون على غرار بقية الفئات المهنية، مثل الأطباء والمحامين والمهندسين، الانفكاك من قبضة السلطة، ومحاولة التحرر من رواسب ومخلفات نظام الإنقاذ الذي سيطر على البلاد لثلاثين عاماً.
بعد مقاومة شرسة وجهود جبارة، وذهاب دماء ثمينة في طريق الانعتلاق، استطلاع أصحاب مهنة" المتاعب" استرجاع جهازهم الوظيفي المهني إلى أحضانهم. حيث قاموا بتأسيس نقابتهم في أغسطس/ آب 2022، ثم إجراء انتخابات وصفت بأنها ب"الحدث التاريخي"، وتلقت إشادات إيجابية واسعة محلياً وإقليميًا ودولياً، لكونها أقيمت رغم الأوضاع المعقدة والشائكة والخطيرة التي تشهدها البلاد. بارك الكثيرون خطوة الصحفيين تلك باعتبارها نموذجا حيويا وواقعيا في المقاومة القوية والمثابرة، في سبيل التحرر من قيود الأنظمة القمعية والفاسدة، في سياق حالة عامة حرجة؛ حيث حالة الفترة الانتقاليّة المضطربة التي جاءت بعد مخاض احتجاجات ديسمبر العسير، وانتهت بانقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
قاومت الصحافة السودانيّة، منذ الاستقلال، بشدة كل الأنظمة والحكومات التي حكمت سواء بقوة السلاح أو بأصوات الانتخابات. وكانت فترات حكم كل من نظام عبود 1958 ونميري 1969 والبشير 1989 الأكثر مقاومةً، وكانت فترة نظام البشير الأشد معاناةً؛ حيث كان مستوى تعرض الممارسة الصحفية إلى القمع والتنكيل، وتقييد الحريات والسيطرة على مؤسسات المهنة وأجهزتها واسع النطاق والتعقيد، ما أدى إلى إضعاف الأداء كماً ونوعا الأمر.
مع اندلاع حرب 15 أبريل/ نيسان 2023، تكشفت بوضوح صارخ مستوى هذا الضعف؛ إن على مستوى التغطية وجودتها أو حالة الانتهاكات بمختلف أشكالها التي ما يزال الصحفيين والمهنة يعانيان منها بشدة. لقد أثرّت تراكمت تلك العقود على قدرة الإعلام السوداني على أداء دورها بفعاليّة وكفاءة خلال هذه الأزمة المستمرة، وساهم في تآكل مصداقيته ومهنيته وموضوعيته أيضا، ما أدى إلى توّرطه في متاهات التلاعب بالمعلومات، وتدويل الأخبار الكاذبة والمضللة، وسط فجوة إعلامية مركبة ومعقدةٍ تعيشها الأزمة السُودانيّة عن غيرها من الأزمات، مثل: الحرب في غزة وأوكرانيا واليمن.
تصدر الصحفيون السُودانيون قائمة الفئات المستهدفة من طرفي الحرب في إطار محاولتهم قتل التغطية الصحفية للكارثة، وإسكات صوت صاحبة الجلالة عن النطق بأهوال المواطنين خلال الأزمة، ونقل فظائعها للعالم عنهم. فضلا عن تعرض المؤسسات الصحفية لتدمير، والإضرار المتعمد بها.
يتعرض الصحفيون لمختلف أشكال الانتهاكات وجرائم الحرب، سواء أثناء ممارسة مهنتهم، أو التآمر والكيد بالاعتقال من منازلهم ،وحتى الاعتداء على عوائلهم. وقد سجلت النقابة هناك، خلال فترة 500 يوماً لاندلاع الحرب، أكثر من 438 حالة انتهاك موثقة،. يأتي القتل في مقدمتها، حيث قُتل 10 صحفيين من بينهم صحفيتان. إضافة إلى 10 اعتداءات جسدية، من بينهم أربعة صحفيات. وتم تسجيل 52 حالة اختفاء قسري واعتقال للصحفيين، ضمنهم سبعة صحفيات.
كما هناك بلاغات النشر التي يتم تدوينها لكميم أفواه الصحفيين وإرهابهم، فقد تم رصد ست حالة بلاغ نشر على الأقل. وتم توثيق 30 حالة انتهاك لأفراد وأسر الصحفيين بالقتل وإطلاق النار، من بينهم 10 صحفيات. فيما سجلت 55 حالة تهديد شخصي، من بينهم 24 صحفية.
فضلا عن مجموعة من القرارات والحملات التي تشكل تهديدات عامة للإعلام، ومجملها 12 حالة تهديد عامة. وهناك انتهاكات أخرى كتدمير المنازل والسرقات والمداهمات، واحتجاز للصحفيين في أماكن عملهم، وحدث ذلك بشكل كبير في الفترة الأولى للحرب. وتسببت الحرب في تدمير نحو 95٪ من البنية التحتية للإعلام في السودان، ما أدى إلى فقدان الصحفيين والصحفيات لوظائفهم، وباتوا نازحين أو لاجئين في شتى بلدان العالم، لا سيما في دول الجوار السُوداني.
يعاني الإعلام والصحافة السودانية خلال الحرب الحاليّة في البلاد من تراجع ملحوظ في قدرتهما الكليّة على القيام بواجباتها الوظيفيّة، وتحقيق أهداف المهنة المتوقعة؛ حيث تقديم معلومات دقيقة وموضوعية وموثوقة، وإجراء تغطيات شاملة متكاملة لمختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بشتى فنون العمل الصحفي بمهنية واحترافيّة كافيّة.
يرجع ذلك لعدة أسباب، منها ما يتعلق بعوامل ذاتيّة تخصه كمهنة، مثل ضعف البنية التحتيّة ونقص الموارد الماليّة وضعف الأطر المؤهلة والأدوات اللوجستيّة؛ إذ أدى النقص الكبير في مصادر التمويل إلى تقليل وتسريح الصحفيين عقب اندلاع الحرب مباشرةً دون استيفاء لحقوق التوظيف. فضلاً عن أن تمركز الاعلام لوجستياً في ولاية الخرطوم أدى إلى شلل المهنة، وتوقفت أكثر من 80٪ منها عن العمل ،بعد اجتياح عاصمة البلاد، وتم استهدافها بشكل كامل. إضافة إلى ظهور فجوة التأهيل والتدريب في المؤسسات الإعلامية لكوادرها بشكل صارخ، والتي تمثلت في الغياب التام للمراسل الحربي المتخصص الذي يقوم بالتغطية من الميدان مباشرةً.
فيما ترتبط الأسباب الأخرى بعوامل موضوعيّة خارجيّة، ذات تأثير مباشر وغير مباشر، مثل تراكم الاضطراب السياسيّ وتعقيداته وتواتر الأزمات الاقتصاديّة، ونقص في مؤسسات الإعلام وضعف أجهزتها المهنية التي تعزز الممارسة كماً ونوعاً، بجانب ضعف تفعيل قوانين حرية الصحافة والتعبير وتعزيزهما.
نجح طرفيّ الحرب في فرض حصار قاسي على وسائل الإعلام المستقلة والخاصة، مما أدى إلى إظلام شبه تام لسياق الحرب في البلاد إعلاميًا. ذلك ما أفضى إلى ظهور حالة تكرار المحتوى، نتيجة صعوبة الوصول إلى المعلومات من الميدان، بسبب التحديات الأمنية والقيود المفروضة، ناهيك عن انقطاع الكهرباء وخدمات الاتصالات والإنترنت. ما يفسر النقص الحاد في التنوع الإخباري، وعدم القدرة على الابتكار، ونقص انتشار المصادر في المناطق البعيدة.
إن تحليل المحتوى الذي تقدمه وسائل الإعلام السُوداني، سواء المرئية أو الصوتية أو المقروءة، خلال الحرب من حيث دقته وجودته، ومدى موثوقيته، وكذا مستوى احترافيته، يظهر بجلاء مؤشرات هذا التراجع، إلا من نماذج نادرة جداً، والذي وصل في كثير منها درجة نشر ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي عشوائيّاً وكيفما اتفق. وتعتمد على الأخيرة بشكلٍ كبير في انتقاء ورصد المعلومات، وجمع الشهادات والبيانات، بل إن بعض التغطيات كانت وما تزال تستقي موادها مما تنشره أطراف الحرب من صورٍ وفيديوهات وتسجيلات صوتيّة دون تقديم تحليلات معمقة رصينة محكمة، ما أسقطها في فخ التضليل الإعلامي، وجعلتها تتوّرط في تدويل الأخبار الكاذبة والمضللة، ما يساهم في إذكاء خطاب الكراهية والانقسامات السياسيّة والاثنية والمناطقيّة.
لقد ساهم ذلك في إضعاف ثقة الجمهور فيها، وفي قدرتها على القيام بدورها الوظيفي والأخلاقي، فأصبح غالبية الجمهور، كما تشير بعض الدراسات الحديثة، يتلقى الأخبار والمعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من اعتماده على ما تبثه وسائل الإعلام الرسمية والمؤسسيّة.
ساهمت الحرب بطريقتها الخاصة في تعرية الإعلام والصحافة السودانية، كاشفة مدى ضعفه ومستوى الهشاشة التي يعاني منها، سواء من الناحية النظريّة أوفي الممارسة العملية أو كلاهما معا. كما كشفت أيضا مدى غرق الإعلام السوداني وممارسيه في المحليّة، والتناول التقليديّ من حيث المنظور والتقنيّة. وذلك ما يظهر في غياب الربط الصحفي بين تطورات الحرب بتعقيدات السياسة السُودانية الخارجية، وتأثير أجندة دول الجوار والمؤسسات الإقليمية والدولية فيها ،سواء في التناول الإعلامي أو في التحليل الحواري، مما كان من الممكن أن يشكل ضغطاً على الجهات الأخيرة، ويعرّي تأثيرهم في الأزمة للعالم.
كما كشفت الحرب عن ضعف بين في التعاون المهني على المستوى الإقليمي والدولي، بجانب ضعف التشبيك مع المنظمات الحقوقية والإنسانية المحلية والدوليّة والإقليمية، فقد ظهرت تداعيات هذا الضعف المركبّ في مدى ضعف ومحدودية التغطية الصحفية للأزمة، ولو بالتعاون مع المؤسسات الدوليّة مثل BBC، CNN، مجموعة العربية، سكاي نيوز، نيويورك تايمز... أو حتى أن يستغل الصحفيون السودانيون تواجدهم في هذه المؤسسات للدفع بالتغطية الإعلامية للأزمة السودانيّة نحو المستوى المناسب والمستحق، أملا في تقديم صورة شاملة وحقيقية للعالم عن جحم وعمق الأزمة، وخاصة على المدنيين، مما يساهم في رفع الوعي الدولي تجاه الوضع وخلق مناصرة مناسبة حياله.
علاوة على ذلك، أظهرت الحرب مدى هشاشة البنية الأخلاقيّة للمؤسسات الإعلامية، وهي ما تجلت في ضعف الالتزام بأخلاقيات المهنة، مثل المهنية والموضوعيّة، فقد ظهر الانحياز الواضح والانقسام الأيديولوجي للصحفيين السُودانيين تجاه طرفيّ الحرب، ودعمهم لهما بمختلف أشكال المناصرة والتأييد، ما أفضى إلى إذكاء خطاب التخوين والكراهية، وزادت مساحات انتشار الشائعات والمعلومات المضللة والبروباغندا والأخبار الكاذبة، ما انعكس في النهاية على منسوب الثقة لدى الجمهور تجاه ما تنشره المؤسسات الإعلامية الرسمية من أخبار ومعلومات.
ساهم حرب 15 أبريل/ نسيان، وإن بطريقةٍ قاسيّة، في تقديم الصورة الحقيقية لواقع وسائل الإعلام السُودانيّ، وحقيقة حضورها في السياقات العنيفة. فقد أدت جملة التحديات والتعقيدات والمخاطر إلى تعرية كل النقائص، وكشف الإشكالات التي كانت وما تزال تعاني منها.
كل ذلك وضع أصحاب المهنة، بشكل مباشر، أمام المرأة لرؤية أنفسهم ممارسين لها بشكل أكثر وضوحاً، ما يؤدي إلى تضافر الجهود والسعي لتقييم جاد وصادق وحقيقي لوضعيّة الصحافة كماً ونوعا. ليبقى السؤال هل سيستغل الصحفيون السودانيون هذه الفرصة التي قدمتها الحرب بشكل إيجابي ومثمر، فيحوّلون هذه الأزمة إلى مساحةٍ مسؤولة للمراجعة الجادة، بُغية التطوير والنهضة واستدامة الصمود في سياقات العنف أم أن الفرصة ستذهب أدراج الرياح يوماً؟