تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 20 سبتمبر 2024

سياسة

مأساة السودانيين المضاعفة

4 يونيو, 2024
الصورة
الحرب السودانية
أدت الحرب السودانية التي بدأت في أبريل 2023 إلى أكبر أزمة نزوح في العالم. (تصوير: سالي هايدن / عبرGetty Images)
Share

وصلت أزمة النقص الحاد في تلبية الغذاء والدواء والماء، إثر الحرب الطاحنة بين الجيش السودانيّ وميليشيا الدعم السريع، التي ظلت وسائل الإعلام وتقارير المنظمات والمبادرات الإنسانيّة والحقوقيّة تدق ناقوس خطرها، مراحلاً خطيرة وصادمة للغاية في البلاد، وقد تمظّهّرت أكثر فأكثر، لدرجة وصولها إلى مستوى "المجاعة"، على مستوى الإقليم الغربي (دارفور)؛ أكثر المناطق تأثراً بالحرب الدائرة، بشكلٍ فعليّ واضح؛ حيث تفيد الأمم المتحدة وجود أكثر من 2.5 مليون نازح جديد، فوق الأرقام السابقة التي يزخر الإقليم بها.

لقد أصبح ما كان تحذر منه الهيئات الإنسانية واقعًا يعيشه السودانيون، رغم المناشدات والنداءات المتكررة، المرفقة بصور ومشاهد وإحصاءات مرعبة، أبدعت وسائل الإعلام التي اهتمت بالمحنة في تصوير قتامتها، بأسوأ ما يمكن من منظور إنسانيّ وحقوقيّ. إنها "المجاعة" بكل أنيابها الكارثيّة، ومحتواها المأساويّ، تضرب بقوة أكثر المناطق المأزومة، وأكثرها ضعفًا وهشاشة؛ حيث مخيمات النازحين واللاجئين، وذلك بسبب "التقاعس والتهاون بأرواح النازحين واللاجئين" على الأقل، كما تقول الإدارة العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في أحدث تقاريرها.

معاناة إضافيّة فوق وضع النازحين واللاجئين الظرفيّ الإنسانيّ المحزن والمؤلم، ومأساة جديدة تُضاف إلى ذاكرة ضحايا الحروب السودانية، المتخمة بالمآسي أصلًا، وتئن بفظاعةٍ من العنف المرّكّب الذي يتجسدّ بوضوح في استغلال النُخب والأنظمة والحكومات التي تعاقبت على حُكم البلاد، لتحقيق أجندة سياسيّة وأهداف إيديولوجيّة واقتصاديّة، والتي أفضت بشكلٍ مباشر إلى إنتاج حروب أهليّة (حرب 1955-2005 في الجنوب، حرب 2003 - 2020 في الغرب) ونزاعات قبليّة، وممارسة الفساد بمختلف أشكاله ومستوياته، لدرجة الزج بالبلاد الآن في واحدةٍ من أسوأ وأعنف الكوارث الإنسانيّة في تاريخ السودان المعاصر. وذلك على غرار المجاعة الأولى في السودان 1984، والإثيوبية 1983، الصوماليّة في 1992 و2011، الجنوبسودانية في 2017. فهناك من باتوا يتناولون قشور الفول السودانيّ وفتاته الذي يُطعم البهائم بها، وأوراق الشجر، وحفر بيوت النمل، طعاماً للنجاة من الموت فضلًا عن شرب مياه المستنقعات­.

تؤكد تقارير الأمم المتحدة، أن 60% من التعداد الكلي للسُكان، بينهم 14 مليون طفل، في حاجة مباشرة إلى المساعدات الإنسانيّة، و49.75% من التعداد في حاجة ماسة للعون الغذائيّ. بينما تتجلى حالة "المجاعة" في كل أنحاء البلاد بنسب مختلفة؛ حيث نسبة المدنيين المتأثرين بالنقص الغذائي الحاد؛ 60% في ولاية غرب دارفور، و55% في ولاية الخرطوم، و48% في ولاية جنوب كردفان، و43% في ولاية كسلا، و31% في ولاية الجزيرة. مع الإشارة إلى أن الحدّ المطلوب لإعلان حالة المجاعة هو نسبة 20% من السُكان.

يؤكد المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا لليونيسيف، والتي تعمل في السودان منذ أكثر من 27 عامًا، أن هذه الحرب تشكّل أزمة إنسانيّة مضاعفة، بعدما صارت الآن أزمة معقدة، حيث "أن الوضع الإنساني كان كارثيًا حتى قبل الأزمة الحاليّة، حيث كان هناك 15.8 مليون شخص في السودان بحاجة إلى مساعدات إنسانيّة، من ضمنهم 8.5 مليون طفل، وأن 11 مليون شخص بحاجة إلى خدمات المياه الصالحة للشرب والإصلاح البيئي، وبات "الأطفال في السودان يتلقون مكملات غذائية لعلاج سوء التغذية"، هذا ناهيك عن حالة النساء الحوامل والمرضعات والأطفال ما دون السنتين، والذين هم بحاجة إلى حمية خاصة كي يبقوا بصحة جيدة، وأي نقص في المواد الأساسية مثل الغذاء والدواء والماء سيعرضهم إلى خطر مضاعف، فضلاً عن الضغوط النفسيّة الحادة التي تسببها الحرب، والتي تتجسد في أصوات الرصاص وقصف المدافع والطيران ودوي القنابل. تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر "ICRC" أن "النزاع دمر مرافق الرعاية الصحيّة في مناطق الحرب، مما ترك الملايين دون الحصول على الرعاية الصحيّة الكافيّة".

وقالت منظمة الصحة العالمية إن "ما يقرب إلى 70% من المرافق الصحيّة باتت خارجة الخدمة، وتعاني من نقص حاد في المعينات الصحيّة والأدوية المنقذة للحياة. وهناك تزايد في تفشي الأمراض، في ظل انقطاع خدمات الصحة العامة الأساسية، بما في ذلك مراقبة الأمراض، ووظائف مختبرات الصحة العامة، وفرق الاستجابة السريعة. ويفتقر حوالي 65% من السكان إلى إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحيّة، كما أن ما بين 70 و 80% من المستشفيات في المناطق المتضررة من الحرب توقفت عن الخدمة". وتم الإبلاغ عن حوالي 10500 حالة يشتبه بإصابتها بالكوليرا، بما في ذلك 292 حالة وفاة". كما تؤكد منظمة اليونيسيف على أن "تعطيل التعليم أصبح يهدد بإخراج مستقبل 19 مليون طفل في سن الدراسة عن مساره التعليمي".

ومع رفض السلطات السودانيّة حتى الآن إعلان حالة "المجاعة" في البلاد - رغم واقعيّة الظاهرة، وفق إحصاءات وتقارير ومشاهد من واقع الأمر، يفيد تقرير سابق لمنظمة "أطباء بلا حدود"، أن طفلًا واحدًا على الأقل يموت كل ساعتين في "مخيم زمزم" للنازحين، بولاية شمال دارفور، بسبب النقص الحاد في الغذاء في المعسكر، حيث يتواجد قرابة 300 ألف نازح. وقبلًا، أعلنت السلطات المحليّة في ولاية وسط دارفور، أن الولاية منطقة منكوبة بالمجاعة، حيث فعموم المواطنين يعانون من نقص شديد وحاد في تلبية احتياجاتهم الأساسيّة من الغذاء والتطبيب والموارد المائيّة.

هكذا، تبقى المجاعة حقيقة موجودة بكل تمظهراتها، وخاصةً إذا حاصرناها بمعايير النظام التصنيف الدوليّ المتكامل (IPC) الثلاثة رغم تقنيّتها، والذي أطلق عام 2004، وطُبق عليها، والتي تنحصر في: أولاً؛ أن يواجه ما لا يقل عن 20% من الأسر في منطقةٍ معينةٍ نقصًا شديدًا في الغذاء. ثانيًا؛ أن يعاني أكثر من 30% من الأطفال دون سن الخامسة في مجموعة العينة من سوء التغذية الحادّ. ثالثًا؛ أن يموت شخصان على الأقل من بين كل عشرة آلاف شخص يوميًا، لأسبابٍ تتعلق بنقص الغذاء.

 المفارقة، أن السودان يُلقب "بسلة غذاء" العالم، منذ زمن بعيد، بسبب تمتع البلاد بموارد وثروات طبيعيّة هائلة. لكن مع ذلك، ظل حتى قبل هذه الحرب واحدًا من بين ثلاثة سودانيّين في البلاد يعانون من سوء التغذيّة، وظل ثلث سكان السودان بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وقد ارتفع العدد بعد الحرب إلى ما يقرب من 28 مليون شخص، ما يمثل زيادة بنسبة %57. وطالت الحرب المورد السودانيّ بشريًّا وماديًّا، وأصابته في انهيارٍ شبه تام.

لا يخفى أن الحرب تسببت في إرهاق الاقتصاد السودانيّ، بمختلف موارده ومصادره، المأزوم من الأساس، بشكل أدى إلى تداعيه، وانهياره بصورةٍ شبه كاملة. كما تسببت الحرب في تناقص مساحة الأراضي المزروعة هذا 2023 إلى (37%) بالمقارنة مع الأعوام السابقة، فيما تناقصت المساحة المزروعة بالقمح بنسبة 70% على الأقل. إضافة إلى توقف عجلة الدخل المحليّ بمحدوديته، وتوقف العمل الرسميّ للدولة في أكثر من خمس ولايات، تعتبر من مرتكزات الاقتصاد (جنوب وغرب دارفور والجزيرة والخرطوم)، فقَد غالبية الشعب السودانيّ أموالهم ومدخراتهم وممتلكاتهم، سواء بالسرقة والنهب أم بالتخريب والدمار والحرق، الذي طال مساحات واسعة من مصادر الإنتاج وكسب المال، مع فقدان موسمين زراعيْن. 

يتوقع صندوق النقد الدولي "أن ينخفض الناتج المحليّ الإجمالي الحقيقي للسودان بنسبة 18.3% عام 2024، ويقول البنك بأن "الاقتصاد السودانيّ انكمش بنسبة 12% عام 2023؛ أي أضعاف انكماش اقتصادات اليمن وسوريا؛ حيث أدى الحرب إلى توقف الإنتاج وتدهور الاقتصاد، وتدمير رأس المال البشري وقدرات الدولة". وشكل ارتفاع أسعار السلع والخدمات والبضائع الحياتيّة فوق عرضها في السوق السوداء وارتفاع معدل التضخم، والندرة الحادة في النقد الماليّ، كارثة مضاعفة على المواطن السودانيّ، والتي تجسدت بشكل واضح في النقص الحاد في توفير الاحتياجات الضرورية للحياة.

وأدى هجوم ميليشيا الدعم السريع على ولاية الجزيرة إلى تعطيل زراعة مليون فدان من المحاصيل الزراعيّة، وتدمير البنية التحتية للصناعات الغذائيّة، ما أفضى تلقائيًا إلى زيادة المعاناة الإنسانيّة، وإضعاف كارثيّ لمستوى المعيشة، مع استمرار انهيار الاقتصاد بشريًّا وماديًّا ومعنويًّا، كلمّا بزّغ صباح يوم جديد، وازدادت أكثر فأكثر على المدنيين المتأثرين بالحرب كلمّا طال أمد الحرب.

أمام هذا الواقع الصعب الذي يعيشه السودانيون، وبشكل خاص المتواجدون في مخيمات النزوح واللجوء بالخارج، يستمر طرفيّ الحرب استغلال "الوضع الإنسانيّ المأزوم"، وتحديدا "حالة الجوع" التي يعانيها السودانيين كبطاقة ضغط في لعبة الصراع، ووسيلة سياسيّة لصناعة فرص ما، وخلق نقاط تقوّي موقفهما العسكري أو السياسي في معركتِهْما.

دوليًا، نادت الأمم المتحدة لجمع مبلغ إجمالي قدره 4.1 مليار دولار، لتلبية الاحتياجات العاجلة للمدنيين واللاجئين، ولم يدفع سوى أقل من ثلثه. ما يؤكد بوضوح عجز وغياب الإرادة الدوليّة في إنقاذ السودانيين، ولا يعكسها سوى العجز الماليّ الذي يحاول الغرب أن يبرر به ضعف حالة الاستجابة السريعة والمسؤولة للأزمة. واضح أيضا أن المبادئ الإنسانية الأربعة السامية (الإنسانيّة، الحياد، عدم التحيز، والاستقلالية) التي تعارف الجميع على أن تحكم العمل الإنسانيّ، لم تذهب أدراج السياسة ومعادلاتها في الحرب السودانية فحسب، بل أفقدته معانيه بشكل تام.

يأتي هذا الاستسهال والتراخيّ القاسي في المحنة السودانيّة، في سياق حقيقة أن المعونات الإنسانيّة "الغربيّة" التي توزع أغلبها عبر وكالات ومنظمات المنظومة الأمميّة، والتي تُقدم لدول الجنوب في لحظات الكوارث، كانت وما تزال تتسم بالفساد، وبالنظرة الدونيّة، ومزاج عقليّة "الشمال العالمي". فضلًا عن التواطئ مع الأنظمة الاستبداديّة والحكومات والجهات التابعة، لدرجة يمكن معها القول بأن الأدلجة والتسيس أفسدت الحقل الإنسانيّ بشكل كبير، وشوهتا صورته حتى أوشك على فقدان روحه بالكامل. ما جعل الكثيرين من قادة السلام من الجنوب العالمي ينادون، بضرورة إعادة ضبط هذا الحقل، وإعادة ترتيبه وفق قواعد ومعايير جديدة أكثر إنصافًا وعدالة وعقلانيّة.

مع دخول الحرب السودانية عامها الثانيّ، تطحن المجاعة ضحاياها بلا رحمة، في مقابل تعامل المجتمع الدوليّ والإقليميّ غير المسوؤل وغير الجدّي تجاه الأزمة السودانيّة؛ سياسيٍّا وإنسانيًّا ودبلوماسيًّا. وهنا يطرح وبإلحاح أكثر سؤال مصير السودانيّين من جديد؟ وكيف يتشكّل تجاه محنتهم الإنسانيّة، وعلى وجه التخصيص معاناة من هم في مخيمات النزوح واللجوء، والذين بدأوا يتساقطون إلى الموت والهلاك ليس لسببٍ سوى نقص الغذاء وانعدام الأدوية وندرة الماء؟