الخميس 21 نوفمبر 2024
لم تتعدَ الحرب في السودان شهرها الثالث، حتى ملأت سرديات الجوع والعطش والمرض والبؤس أسماع العالم، عبر قنوات الاتصال المختلفة، وبطريقةٍ كأنها ظواهر جديدة - قبل الحرب كان واحد من بين ثلاثة أشخاص يعانون من سوء التغذية - ظهرت للتو في بيئة خصبة، وهي منذ زمن بعيد، جاذبة لتوالد مثل هذه الكوارث والأزمات. كانت لسرديّة "المجاعة" والخطابيّة الإيديولوجيّة التي التصقت بها، النصيب الأكبر من التكرار والترويج وصك المخاوف حولها، لدرجة استحوذت معها مفردة "المجاعة" على عناوين الأخبار، وسيطرت على المشهد العموميّ للتداول المعلوماتي بين الناس. يتناقلون في مختلف حيواتهم، قصة معاناة إنسانيّة محبوكة بإتقان إعلامي؛ فحواها أن موجة "جوع حاد" ستضرب السودان في أي لحظة، وستقضي على كثير من الأرواح التي هي مهددة بالموت أصلاً - تأثيراً - منذ الحرب الأهلية الأولى (1955 - 1972)، والثانية (1972 - 2005) في الجنوب، والثالثة (2002 -2021) في غرب السودان.
من حينها إلى أن اكملت الحرب عامها الأول، لم تغيب سرديّة "شبح المجاعة" عن "لحظة" كل تغطية - مع قلتها وضعفها - إعلاميّة لأخبار البلاد. ومع ذلك، لم نلاحظ أي حركة فاعلة من "المجتمع الدولي" للتدخل بأي شكل من الأشكال، بل ظلت حبيسة مكاتبها، تستقبل أرقام الضحايا ومدى معاناتهم في صمت وسكون؛ تشاهد ما يحدث بتجرد وبرود، في ظل تركيز تلك التغطية المحدودة على جانب كارثيّة المأساة - على غرار محنة جنوب السودان عام 2017، ومجاعة الصومال الأخيرة عام 2011 على الأقل - ومن زاوية عذاب الضحايا، واستمرار ما يعانون من جحيم مستعير من البؤس والفقد والشدّة.
ركزت وسائل الإعلام التي اهتمت بالمحنة لأسباب ايديولوجيّة وأهداف سياسيّة، تخصها في المقام الأول، وما يزال يتمحور تناولها، على هكذا سوداوية الحدث؛ وكأنها وجدت في هذه القتامة وانكسارية الصورة وسلبية المفردة وظلامية العبارة، ضالتها المهنية. لقد عثرت على كنزها المفقود؛ ووجدت مادتها الدسمة للتناول والكسب على أساسها. وهذا الكلام ليس غريباً عليها (بالنسبة للإعلام السياسيّ والصحافة الصفراء خاصةً)، إذا تتبعنا سيرورة الحروب والكوارث حديثاً في اليمن وسوريا وغزة وأوكرانيا، وبعض المناطق المأزومة في إفريقيا. ظلت مركزة على ذلك فقط، دون أن تحاول كشف وتغطية الجانب الآخر للمشهد؛ صمود السودانيين وسط المحنة، وأمام الرصاص، وحالات البطولة التي أظهروها في المقاومة، ناهيك عن المبادرات الفريدة التي قاموا بها، وحملات التضامن والتعاطف الإنساني، ومدى القوة وعمق صبرهم أمام قسوة الحياة المعيشية، ونزعتهم النضاليّة التي لم تراوح لحظة مختلف حيواتهم.
يدلل على ما يمكن قوله، بأن وسائل الإعلام (ليست جميعها طبعاً) أصبحت في العقود الأخيرة - وبشكلٍ صريح ومباشر - لاعباً رئيسيّاً في "لعبة" نسج الظواهر ومحاولة تثبيتها؛ مساهمة بصورةٍ كبيرة في خلق الأزمات، والاستمرار في إعادة إنتاجها؛ بل تحوّلت لشريك أساسي في الترويج للصورة السوداء في حيوات البشر وبكثافةٍ صارخة، وباتت تتغذى على ذلك، بشراهةٍ فاضحة. فالسرديات كالمجاعة والوباء والأزمة والمأساة صارت مواداً دسمة للتناول الإعلامي الغربي (اليمينيّ وصحافة المال الأسود خاصةً)، لدرجة أصبح وجودها "المدهش" مهنياً، يقوم على هذه السلبية - مع بقية العناصر والأطراف - في إنتاج الشرور والأحزان والدعاية لها.
لماذا لم تبعث وسائل الإعلام العالمية مراسلين لها إلى السودان، لمداومة تغطية أحداث الحرب، وتطوراتها التي لم تكف عن التحديث يومياً؟ لماذا لم نر لقنوات مثل: CNNوفرنسا 24 وART24 الروسيّة و BBCونيويورك تايمز والوول ستريت وذا إندبندنت وواشنطن بوست ولوموند الفرنسية، حضوراً كبيراً بقدر كارثية الحرب؛ كأن ترسل "وفوداً متكاملة" لتغطية المأساة؟ لماذا غابت التغطية المتواصلة والكثيفة والمعمقة والحملات الإعلامية الضخمة عن فضاء المحنة السودانيّة، كما ما تزال تنالها مأساة غزة أو محنة سوريا واليمن أو الحرب الروسية الأوكرانية مثلاً؟ لماذا لم نرى أي حضور لصحافة التحقيقات الاستقصائية حتى هذه اللحظة؟ لماذا اختصرت تغطية المأساة في شكل "شذرات" مستعجلة، تأتي على هامش ترتيب الأحداث في نشرات الأخبار؟
إن الأجوبة عن هذه التساؤلات كامنة في بواطنها؛ مستقرة في ناصية أن وجود أسئلة ما دليل على وجود كل النواقص والثغرات والإشكالات التي تتحدث عنها وتستفهمها. في الواقع، تكمن الإجابات، في أن هناك جملة تعقيدات سياسية، وتقاطعا للمصالح، وتناقضات في الأجندة (على المستوى الداخلي والخارجيّ)، تضافرت وتجادلت، سلباً وايجاباً، لتجمع في لحظة على معامِلة المأساة السودانيّة بهذه الطريقة؛ وأن يكون الموقف العام على هذه الشاكلة؛ أن ينال السودانيون في محنتهم القليل من الاهتمام، والضعيف من التغطية الإعلامية، والمحدود من القلق، والبسيط من الرعاية، والفُتات من الغوث إذا وُجِد.
لذا كان من المحتمل جداً، أن تأتي السرديّة على هذه الصورة. فغياب الحدث إعلامياً يدل بشكلٍ صريح على مدى إهماله وتجاهله، من قِبل قوى السلطة والمال والعكس صحيح؛ فما تتناوله وسائل الإعلام دليل على أنها ذات القضايا والأحداث التي تشكّل أولويات دهاليز السياسة؛ وهي ذاتها التي تقلق الحراك الاقتصاديّ وشروطه. فكأن ديدن هذه الثلاثية (الإعلام والسياسة والاقتصاد) التماهي التام علائقياً، والتنسيق المثاليّ وجوديّاً. فما تظهره وسائل الإعلام هو ما يهم رجل الدولة ويشكل رقما في البورصة، وما يقوم به هذا الأخير هو ذاته الذي تغطيه الأشكال الصحفية.
يتضح أن ثمة بنية علائقية متماسكة بين المؤسسات الإعلامية وهيئات المساعدات الإنسانيّة والدوائر السياسيّة الحكومية، فهي المتحكمة في تشكيل الصورة وبناء السرديات. وعليه، يجب تفكيكها وتذويبها، حتى ينال الضحايا حقهم في الغوث والرعاية والمساعدة المستحقة؛ وحتى تتوقف جهود هذه الأطراف "الماكرة" في صناعة الكوارث والأزمات والاستثمار فيها. لكل ذلك، يمكن القول بأن الطريقة التي عُوملت بها المأساة السودانيّة (احتلت موقع المهمل والمهمش) ليست سوى انعكاس طبيعي لتأثير شروط هذه "البنية الفاسدة".
هكذا نصطدم بحقيقةٍ مؤداها؛ أن السودانيين تعرضوا بالفعل لخذلانٍ كبير من قِبل المجتمع الدولي، كما تعرضوا أيضاً لما يمكن تسميته بسقوط مهني لوسائل الإعلام، بممارسة عنف هيكلي (نوعية السياسة التحريرية، وشروط الممولين والمعلنين، ونمط النظام السياسي للدولة) تجاه المحنة السودانيّة؛ فخذلتهم هي الأخرى، بشكل لا يُغتفر في القريب المنظور. تعامل العالم بمكر وبرود، أضافت عليه وسائل الإعلام (مع التنويه بعض الصحف والمواقع والقنوات في إسهامها المقدر في التغطية) هالةً (بالمعنى السلبي) من التهميش الحارق، والتجاهل اللافت الذي لا يمكن السكوت عليه.