تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأربعاء 23 أكتوبر 2024

رأي

چيسكا: رافد جديد للإعلام المستقل في القرن الإفريقي

8 مارس, 2024
الصورة
geeska
Share

نطلق موقع جيسكا رسميّاً بحلّةٍ احترافية وجديدة، بعد سنة من إطلاق النسخة التجريبية، وبطاقم تحريري وإداري، وبإسهام متنوع وثري من أصوات من منطقتنا، لفحص تقاطعاتها كي يكون الموقعُ رافدًا جديدًا للإعلام المستقل في اللغات الصومالية والعربية والإنجليزية، وبمواد تختص بالثقافة والسياسة والأدب حول و/من و/عن القرن الإفريقي وإفريقيا بشكل عام.

بداية العام الماضي، حين أطلقنا النسخة التجريبية لجيسكا، لم تكن الأحوال في القرن الإفريقي، والمنطقة عموماً، بهذه القتامة—رغم أنّ إثيوبيا حينها كانت خارجةً للتو من حرب أهلية طاحنة، أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين—ولم نشهد أحداث لاسعانود التي عمقت الاستقطاب في النقاشات العمومية في الصومال وصوماللاند وحتى إيثوبيا على هذا النحو الخطير. ولم تندلع الحرب وقتها في السودان. لم يكن سديم المأساة قد اتّسع على هذا النحو المخيف الذي نشهده الآن. هنا زادت الحاجة لموقع يواكب هذه التطورات الجسيمة. وهي مواكبة نقدية ومعرفية، بالضرورة، يمليها علينا حسّنا الأخلاقي الممزوج بالإيمان بدورنا في مجتمعاتنا؛ وهو دور نحاول تفعيله من خلال  هذا الفضاء الحر والمستقل الذي نقدّمه باسم جيسكا.

ثمة حقيقة ملموسة حول القرن الإفريقي، وهي ضعف المصادر عنها. وهذه مشكلة نجدها في الكثير من بلدان المنطقة؛ فجلّ ما تجده هو أبحاث أكاديمية تعيش في عالمها الخاص، ولا تماسّ بينها وبين الشأن العام والنقاشات اليوميّة المحتدمة على أرض الواقع المعيش والملموس. وهنالك فئة خاصة طمرت الانقاسمات المحلية أصواتَها، وباتت وسائط التواصل الاجتماعي المساحة الوحيدة أمامهم للتعبير عن أفكارهم ورؤاهم، بكل الغوغائية التي تسمح بها تلك الوسائط، فكان الخيار منحصراً إما في السباحة في ذلك الوحل أو الانكفاء على الأبحاث الأكاديمية الجافّة. 

......................

في بداية الألفية، عرفت الأوساط الصومالية ظاهرة سُميت بـ «Fadhi ku dirir»،  وهو تعبير قريب من «كلام المقاهي»، وهو مرتع النخب السياسية ما بعد الحرب، ولحم جمهورها ومواقع عشائرها التي بلغت حد ثلاثمئة موقع في إحصائية تعود إلى عام 2003. يتداول فيه الكلام الذي لا مصداقية له، ويتعين عليك على الفور تصديق المعاكس تماماً لما يُنشر فيها. وسرعان ما لحقت تلك الظاهرة سطوة الجيوش الإلكترونية، التي باتت سمة لمرحلة هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تكون في مواجهة قوة هائلة لمنشور دعائي على وسائل التواصل، قد يُدعَم ترويجه بـ 100 دولار فقط من قبل صحفي هاوي، وينتشر بشكل مريع بين الناس. وكما عبر عن ذلك المفكر العربي عزمي بشارة ذات مرة ببراعة، فإن "دخول مجتمعٍ مرحلة وسائل الاتصال الاجتماعي دون المرور بمرحلة الصحافة المهنية قد يشبه انتقالاً من البداوة إلى الانحلال دون المرور بمرحلة الحضارة". لكن المثير أنها ارتبطت في السياق الصومالي بصعود الخطابات السياسية الشعبوية التي تربط بين الخطابات الوطنية ومقاومة التدخلات الخارجية—لأسباب تبيّن لاحقاً أنها سلطوية واستبدادية—ومن ثم تجيّش تلك النخب مئات الآلاف وربما الملايين في صفوفها، على نحو ما شهدناه في مرحلة الرئيس الصومالي السابق محمد عبد الله فرماجو.

في وسط ذلك؛ يحاول جيسكا شق طريقه بمثابة منبر صحفي موضوعي لمقاربة هذا الواقع المركّب. ويحيل اسم "جيسكا"، وهو المقابل الحرفي لكمة "القرن"، إلى القرن الإفريقي كمنطقةٍ جغرافية؛ يحاول استكشافها واستكشاف تقاطعاتها الكثيرة وهمومها المشتركة كما يرمز إليه شعار جيسكا. ثمّ إنه يهدف إلى تفكيك السرديات واللغة التي استُخدمت لمقاربة أحداث المنطقة، من خلال المقابلات  وأقسام الرأي والثقافة والتحليلات السياسية التي ينتجها أو تلك التي ينشرها الموقع.

......................

فرغم أن ضمير إفريقيا في المكان الصحيح فيما يتعلق بغزة وغيرها من القضايا العالمية العادلة، فإن جلّ المشاكل الملّحة تكمن في القصور عن التعمّق في الداخل. ومن شأن القراءة المقربة (zoom in)  أن تعزز صوت إفريقيا للعب دورٍ في تلك التحديات العالمية. فما نفع إفريقيّا فيما يتعلّق بالقضايا العادلة مثل الحق الفلسطيني في تقرير المصير طالما أن قرارها وسيادتها مرهونان لمديونيات خارجية؟ فكما يبيّن محمد طيفوري في مقالته في جيسكا عن المديونية الخارجية لإفريقيا، تضاعف الدين العام للقارة، منذ عام 2010، ثلاث مرات تقريبا ليصل إلى 1,8 تريليون دولار أمريكي عام 2022. 

ولا يمكن الرهان على الدور الذي يمكن أن تلعبه إفريقيّا في تلك القضايا الراهنة والأكثر سخونة في العالم، ما لم تعالج القارة نفسها، كما بيّنا في هذه المادة. وفي مقابلة أجراها جيسكا مع رسول محمد، سفير جنوب إفريقيّا السابق، والناشط في مناهضة الفصل العنصري والعضو في المؤتمر الوطني الإفريقي، حول ما تعنيه فلسطين لجنوب أفريقيا، وأكد في تصريح مهم يُضفي شرعيّة على مقاربة جيسكا بالقول: "هناك مجموعة من الاستعماريين، لذلك لا يودون فتح باب الإبادات الجماعية ضد نظام استعماري آخر. لا يمكننا توقع محاسبة أنفسهم بشأن هذه القضية، لأنها تفتح علبة الديدان. إنهم يدافعون عن المشروع الاستعماري، وأصبحت إسرائيل حالة الاختبار الحديثة. باعتبار البلدان الافريقية بلدانًا اضطرت لمجابهة الاستعمار بنفسها، من المهم أن نناصر مثل هذه القضايا لتمكين أنفسنا وإعادة تشكيل العالم".

يُموقع جيسكا نفسه ضمن هذه السياسة؛ ويجتذب العقول والأفكار لأجل تحقيق ذلك. ولذلك فكرنا في بناء جسر بين كتّاب المنطقة، باللغات الصومالية والعربية والإنجليزية، وهذا ما يَظهر جلياً في المواد المُنتَجة. ففي مقابلة مع إيمان محمد، وتعمل حالياً باحثة دكتوراة بقسم التاريخ بجامعة هارفارد، وتدرس في مشروعها للدكتوراة "تاريخ العمال في الصومال الإيطالي" والطرق التي شكلت بها فئات العمل مفاهيمنا عن روح معنى أن تكون صومالياً (Somaalinnimo)، تقول بتذمرٍ أن البعض يسألها على الدوام عن أهمية البحث في هذا الماضي الاستعماري، "خصوصاً والأمر يبدو أنَّ الحرب الأهلية قد وضعت نهاية لحقبة لاستعمار". بل وهناك آخرين يتذكرون باعتزاز ذلك الصومال الناطق بالإيطالية بعد الحرب المُدَمِّرة، وذلك عندما يتعلق الأمر بالوضع الحالي في الصومال بسبب إحداثيات الحرب.

وفي مقابلة أخرى مع البروفسور علي أحد، طُرح عليه سؤالٌ حول دور المثقف الصومالي في وقتنا الحالي، ويجيب متأسفاً عن الوضع الراهن، بأن المثقفين الصوماليين منحازون، مثل شعراء المجتمع البدوي، لعشائرهم، أكثر من كونهم يؤدون دورهم بوصفهم مثقفين يشعرون بالمسؤولية تجاه الكل. إن هذه النزعة لدى المثقفين الصومالين تجعلهم أعضاءً/ أفراداً في العشيرة المنحدرين منها، لا باعتبارهم قادةً، بل تُبّعاً عاجزين أمام ساسة  العشيرة وزعمائها. شُكّل ومُكّن هذا الدور خلال الحقبة الاستعمارية، واستخدمت السلطات الاستعمارية تأثير موضوع هذا الدور للهيمنة على البلد وشعبه".  وهو موضوع مثير في سياق ما تحدثه الذاكرة في أوقات الحروب الأهلية المفروضة على شعوبنا، والتي تصرف النظر عن الغوص في الأسس العميقة لوضعنا ما بعد الاستعماري في القارة، وفي عالمنا العربي كذلك.

......................

في السياسة؛ انقلب المشهد في القرن الافريقي، بعد توقيع مذكرة تفاهمٍ، في الأول من يناير هذا العام، بين إثيوبيا وصوماليلاند، ستمنح إثيوبيا وصولًا إلى ساحل خليج بربرة. عُدّ ذلك اختراقًا لكلا الطرفين، وبالطبع أثار غضبًا متوقعاً في مقديشو. وبهذا الخصوص حاور جيسكا الأستاذة جوتا بانكوي، التي تدرس النزاعات والتنمية وجيو-اقتصاديات الموانئ في شرق إفريقيّا. وأوضحت بانكوي لجيسكا ما تُمثّله الموانئ وما تُقدمه، ولمَ تسعى إثيوبيا إلى الحصول على إحداها. ولفهم السياقات الأوسع للموضوع؛ نشر جيسكا لأول مرة ترجمةً عربية وصومالية لمقالة مطولة نشرها الروائي الصومالي البارز نور الدين فارح، في عام 1978، حول السعي التاريخي لايثوبيا حول السيطرة على البحر الأحمر.  كما أفردنا متابعات تحليلية للموضوع لتوضيح العلاقات بين (الجمهوريات) الصومالية والصراع حول السيادة فيما بينهم.

بالرد على مذكرة التفاهم بين صوماليلاند وإيثوبيا، عرضت حكومة حسن شيخ محمود في مقديشو على تركيا السيطرة على موانئها لتوفر لها حمايةً من "العدوان االإثوبي"، وهو ما يحتم علينا فهمه من طرف الأتراك بأنفسهم، كما تناقشه هذه المادة. لكن كيف يمكن أن تنجح السيادة في دولة تسيطر بالكاد على أراضي عاصمتها؟

 كما أعددنا تقدير موقف حول الانتخاب في صوماليلاند. فمنذ اعتماد نظام التعددية الحزبية هناك في عام 2001، أجرت صوماليلاند العديد من الانتخابات التي عززت أوراق اعتمادها الديمقراطية. بعد أن تولى طاهر ريالي كاهين منصبه في أعقاب وفاة محمد حاج عقال في عام 2002، تعاقب في صوماليلاند رؤساء آخرون في نظام مختلط، يدمج السلطة العشائرية مع الديمقراطية التمثيلية، وهو ما أشاد به علي المزروعي باعتباره "درسًا عمليًّا" للأجزاء الأخرى من إفريقيا في كيفية موازنة التقاليد مع المؤسسات السياسية للحداثة. ورغم أن كل المؤشرات تذهب إلى أن الانتخابات ستمضي قدمًا في هذا العام، تواجه صوماللاند أسئلة مصيرية تحتاج إلى تعميق النقاش حولها، ومن بينها العلاقات المستبقلية مع الصومال، أخذًا بعين الاعتبار إحداثيات أزمة لاسعانود.

وأفرد الموقع مواد خاصة لمتابعة الحرب السودانية التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل العام الماضي على ظلال انتقال ديمقراطي متعثّر، فيدرس حسان الناصر مصير دولة متعدد الجيوش، في تأمل دقيق للعلاقات العسكرية-العسكرية في المرحلة الانتقالية السودانية. كما يفحص مصطفى أفندي دور الأخبار الزائفة في ظل الحرب الجارية بين الطرفين، وخصوصاً مع استمرار قطع الانترنت في أماكن كبيرة في السودان. كما تحفر مقالة محمد أبكر بؤر رأس المال الاجتماعي/ الرمزي لميليشيا "الدعم السريع" بغية كشف مصادر قوتها الرمزيّة ومعرفة قنوات دعمها المعنويّة من النواح الاجتماعيّة والسياسيّة.

......................

وفي باب ثقافة؛ نقرأ ترجمة للكاتبة الإيثوبية أبيبا بيرهاني عن فلسفة الأوبونتو الإفريقية، ونقرأ أيضا عن وشائج الأدب الإفريقي في غرب القارة، وعن الشاعرة الصومالية-البريطانية ورسن شيري، وتاريخ الاغنية الصومالية، وعن المخرجة الصومالية-الايطالية التي رحلت عن عالمنا مؤخرا كاها محمد، وعن تاريخ الهيب هوب في الصومال... في محاولة للاهتمام بالجانب الثقافي غير المعروف عربياً على نحو كاف.

يحاول جيسكا، إذن، رسم طريقٍ جديدٍ متعددِ الأوجه لمقاربة قضايا القرن الإفريقي بالانفتاح على السياقات القريبة والمشابهة، الإفريقيّة والعربية. فثمة محاولات جرت لعزل الصومالي عن محيطه؛ أكانت ديكتاتورية أو بسبب الحرب الأهلية، وانتقال الثقل الثقافي للمهجر، وتبعثره وتعدد لغاته.

ونحن نطلق هذا الموقع، يشعر فريق «جيسكا» بحماسة أكبر من قبل كي يكون نبع معرفة وتحليل وفهم لقرائنا. وكذا مساحة مستقلة لتبادل الأفكار والأراء حول الراهن السياسي وتبادل الخبرات حول الممارسات الثقافية في المنطقة.