تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الأحد 6 أكتوبر 2024

حوارات

حكيم آدي: التاريخ أداة للتغيير، وأفريقيا لا تزال أسيرة "دولة الاستعمار"!

21 سبتمبر, 2024
الصورة
xakiim
Share

حفل نشاط البروفيسور البريطاني الأفريقي حكيم آدي في الأسابيع الأخيرة بزيارات مختلفة عقب الاحفاء بحصوله على جائزة التفوق في الدراسات الأفريقية في كمبردج مطلع سبتمبر الجاري ثم مشاركة هامة في الاحتفال بمئوية مولد الزعيم الراحل أميلكار كابرال في كيب فيرد قبل توجهه إلى القاهرة لإطلاق الترجمة العربية لكتابه Pan-Africanism: A History (2018)  ومشاركته في عدد من الفعاليات ذات الصلة اختتمها بزيارة إلى مقر الجمعية الأفريقية بالقاهرة لحضور جلسة ثقافية رفقة مجموعة من الشباب الأفريقي، وكان هذا الحوار معه حول عدد من اهتماماته ورؤاه وأفكاره

بمطالعة أعمالكم يلاحظ أنه ثمة تأكيد على دور الشتات الأفريقي في صياغة مجمل تيار الأفريقانية، إلى أي حد يكتسب هذا الدور أهمية في الماضي وفي الوقت الحالي؟

حكيم: ارتبط أساس فكرة الأفريقانية بتصورين محددين في واقع الأمر وهما بدء تبلور تصور الأفريقي عن نفسه، الأمر الذي اتضح بشكل ملموس في عمل أولوداه إيكويانو Olaudah Equiano (المولود في نيجيريا 1745- ت. 1797 في لندن) بعنوان "الحكاية المهمة لحياة أولوداه إيكويانو، أو جوستاف فاسا الأفريقي، كما كتبها بنفسه"([1]) وسرده لمعاناة الأفارقة من تجارة الرقيق في النصف الثاني من القرن 18، وهو العمل الذي قدم فكرة معاناة الأفريقي وشخصيته بغض النظر عن قبيلته أو موطنه في أفريقيا؛ أما العامل الثاني فهو الثورة الأفريقية في هايتي (1791- 1804) والتي كان يقطنها نصف مليون أفريقي من مختلف أنحاء القارة ونجحت في تحقيق مظهر أفريقاني واضح وإرساء أسس المساواة بين كافة سكان الجزيرة سواء الأفارقة أم الأوروبيين أم المخلطين affranchis، كما مثلت الثورة نموذجًا أفريقيًا ملهمًا في القرن 19 بسبب تمكن الأفارقة من هزيمة الجيوش الإنجليزية والفرنسية، وعزز ثقة الأفارقة في أنفسهم في مواجهة مثل هذه القوى. وهذا يعني أن أفكار الأفريقانية، كتيار رئيس مثل النهر الذي تتفرع منه أفكار أخرى، قامت بالأساس في الشتات وبدأت في الانتشار في القارة نفسها في العقود التالية. ويلعب الشتات منذ قيام الاتحاد الأفريقي دورًا هامًا مع تمتعهم بوضع متميز داخل الاتحاد وديناميات عمله بشكل مؤسسي. 

بحكم تخصصكم كأستاذ في التاريخ الأفريقي ما هي جدوى دراسة هذا التاريخ الآن كسؤال بات ملحًا، لاسيما في أوساط الشباب، في ظل متغيرات متسارعة تجتاح القارة؟

حكيم: في رأيي أن دراسة التاريخ بشكل عام تستهدف أمرًا واحدًا وهو "التغيير"، وهذا التغيير في جوهره فعل فردي ومتكرر. وأنه من خلال حشد التجارب والإسهامات المختلفة يمكن تكوين وعي لدى الأفراد (الأفارقة) ومن ثم تعزيز قدرتهم على التغيير، كما نفعل حاليًا. كنت قبل وصولي للقاهرة في زيارة لكيب فيرد لحضور فعاليات الاحتفال بمئوية أميلكار كابرال (12 سبتمبر 1924- يناير 1973) ووجدت تساؤلات كثيرة حول جدوى الاحتفال بمئوية كابرال في ظل التغير السريع الحالي في إقليم الساحل وفي غينيا بيساو، وكان الرد واضحًا وهو أن أفريقيا لا زالت بحاجة إلى فهم أفكار كابرال، الذي اعتبره أبرز المفكرين الأفارقة في فترة "ما بعد الاستقلال"، لاسيما دراسته عن هوية وزعامة المستعَمَرين  في سياق حركة التحرر الوطني والوعي الطبقي والنظرية الماركسية، ورؤيته الهامة، التي نؤكد عليها حاليًا، بأن الثقافة هي العنصر الرئيس في تحقيق التحرر الوطني. ومن ثم فإن دراسة التاريخ تعزز ثقافة الأفراد وقدرتهم على التغيير حتى في حدود محيطهم الضيق. 

وفي حياتي الشخصية كان هذا البعد حاضرًا فقد كنت أسعى (قبل عقود) للعمل مدرسًا للتاريخ في مراحل ما قبل الجامعة لسنوات، وكان يتم منعي بشكل منهجي، حتى حصلت على درجتي دكتوراه في التاريخ وعملت بالجامعة وبت أول أستاذ أسود للدراسات الأفريقية في بريطانيا، وبعد ذلك تمكنت قبل نحو عشرة أعوام من إطلاق برنامج للمؤرخين الشبان Young Historians Project الذي يلتحق به حاليًا 20 باحثًا في درجة الماجستير يدرسون مختلف القضايا المتعلقة بأفريقيا والشتات الأفريقي، ورغم صعوبات التمويل واختيارات موضوع الدراسة والبحث فإن المشروع بات قائمًا ومهمًا وقابلًا للتوسع في دول أخرى في أفريقيا أو الكاريبي؛ وهذا نوع من التغيير الذي أزعم انني قمت به بعد سنوات من تجاهل دراسة تاريخ أفريقيا في بريطانيا من زاوية أفريقية بالأساس، وتعزز ذلك الموضوعات التي يختارها الباحثون ونتشاور بشأنها مثل قضايا السود في بريطانيا في القرن الخامس عشر مثلًا، وهي مسألة زادت الوعي وبات الكثيرون يتحدثون الآن عن مثل هذه الجوانب بشكل صريح وبحساسيات أقل؛ وهو تغير مهم نسبيًا بفضل دراسة التاريخ كأداة للتغيير. 

لكن بروفيسور، حالة دراسة التاريخ الأفريقي في الولايات المتحدة أو أوروبا وفي افريقيا تواجه إشكالات راهنة، هل هناك حاجة لمراجعة الحقل تمامًا؟

حكيم: المسألة معقدة للغاية، هناك مشكلات تتعلق بمنهجية دراسة التاريخ الأفريقي وفكاكه من أفكار المركزية الأوروبية بشكل كبير، وأضرب مثالًا على ذلك أن أغلب الكتابات التاريخية الأوروبية كانت تصنف حضارة مصر على أنها حضارة أوروبية (أو متوسطية ربما؟) حتى جاء جيل من المؤرخين الأفارقة أبرزهم شيخ أنتاديوب ليفكك هذه الفرضيات ويقدم أدلة على أن الحضارة المصرية أفريقية حتى النخاع وبأدلة قاطعة كانت محل إنكار وسخرية علماء المصريات وقتها، لكن بمرور الوقت اتضحت متانة ادلة ديوب وصحتها بشكل مذهل مقابل تهافت مقولات علماء المصريات الأوروبيين. غير أن أحد مشكلات التاريخ هو انتقال هذا الجدل "التاريخي" من (عالم بحجم) ديوب إلى شخصيات غير متخصصة في التاريخ مثل موليفي أسانتي الذي لا أصنفه مؤرخًا ولا يستحق أغلب طرحه سجالًا علميًا جادًا رغم ذيوع كتاباته المختلفة وحجم الجدل البالغ حولها منذ سنوات وحتى الآن، وهو يقول بالمركزية الأفريقية وهي فكرة أخرى لها عيوب أفكار "المركزيات" -centrisms بشكل عام (ومن ثم تعكس حالة دراسة التاريخ الأفريقي في الولايات المتحدة). أما في أفريقيا فقد لمست تراجع هذه الدراسة خلال زياراتي الأخيرة لنيجيريا ودولًا افريقية أخرى. ولا اتفاءل بفكرة مراجعة الحقل بشكل عام، هناك صعوبات حقيقية قد لا يمكن تجاوزها حاليًا مثل تراجعات التمويل وغياب الرؤية. 

على ذكر المركزية الأفريقية ما هي رؤيتكم للفكرة وجدلها؟ 

حكيم- ظهرت المركزية الأفريقية ضمن الفكر الأفريقاني بشكل متواتر وقبل أفكار ديوب وبالطبع قبل أسانتي؛ اعتقد أنه يمكن النظر للمركزية الأفريقية كتعبير عن رغبة أفريقية عارمة بنسبة الحضارة المصرية للقارة الأفريقية، وهي حضارة أفريقية بالفعل لاعتبارات كثيرة مثل الشواهد في بلاد النوبة ومناطق مختلفة في الصحراء الكبرى. هل تثير رغبة الأفارقة في الارتباط بالحضارة المصرية أو العكس حفيظة المصريين (على سبيل المثال)؟ لكن المسألة طبعا محل جدل، واتضح ذلك في تصوير الملكة كليوباترا على أنها أفريقية سوداء، لكن هناك تصورات مختلفة لكليوباترا هل هي أوروبية، مقدونية، مصرية، أفريقية؟ وما كان مهمًا في هذا الجدل هو مناقشة أفريقية مصر، ومدى نجاعة فكرة الهوية كمحدد جامد/ ثابت (غير تفاعلي تاريخيًا واجتماعيًا). ويمكن نقل الجدل على جهة مناقضة تتعلق بالتأثير العربي والإسلامي مثلًا في الأفريقيانية (منذ قرون مضت) وهو تأثير ظل محدودًا حتى مطلع القرن العشرين ومساهمة شخصيات مثل محمد علي دوس (الذي لا يزال هناك جدل حول انتمائه لمصر أو السودان) ثم شخصيات من المغرب العربي خلال فترات التحرر الوطني من الاستعمار الفرنسي على وجه التحديد، وهو ما يحيل إلى وحدة الأفريقانية كتيار عام تتفرع منه تيارات أخرى، لكنها معنية جميعًا بتقديم حلول جماعية للمشكلات التي تواجه القارة الأفريقية (وشعوبها). ما أقصده أن الأفريقانية لم تستبعد أو تقصي أية أفكار تعمل على تعزيز الوحدة، وأن المركزية الأفريقية ربما تكون أحد روافد الأفريقانية ولها قدر من الوجاهة. 

هناك فكرة يروج لها عن إعادة تكوين الجنوب العالمي، هل لأفريقيا دور كبير في هذه العملية؟

حكيم- أفريقيا حاليًا تواجه مشكلات على أكثر من مستوى؛ الحكومات ونظم الحكم نفسها موروثة من الاستعمار وسياساتها، ولا تعبر بشكل واضح عن مصالح الأفارقة، كما أنه ثمة مشكلات عميقة لا تزال على أفريقيا مواجهتها. وحسب السائد فإن الصين هي التي تقوم بإدارة هذه العملية، والصين لا تختلف كثيرًا عن قوى الاستعمار التقليدية وسياساتها في أفريقيا من حيث نهب الموارد والتحالف مع النخب الحاكمة التي لا تعبر عن شعوبها، ويمثل التكالب الصيني على القارة، تمامًا كأي تكالب استعماري آخر، خطورة بالغة في تكريس الوضع القائم، والحيلولة دون تغيير مسار التاريخ (الأفريقي). ويمكن في هذا السياق (لتوضيح الفكر) ملاحظة أن التحرر من الأبارتهيد في جنوب أفريقيا تم عن طريق النضال الوطني للشعب الجنوب أفريقي مدعومًا بنضالات أفريقية داعمة كما في زيمبابوي وموزمبيق بل وفي شمال أفريقيا مما قاد في النهاية إلى القضاء على النظام العنصري، وفي فلسطين نجد أن الصهيونية تدعمها دول مثل الولايات المتحدة وغيرها، وفي المقابل فإن تحرر فلسطين لن يتم بجهود الفلسطينيين وحدهم (قياسًا على التجربة الجنوب أفريقية) بل إنه ثمة حاجة لدعم تحرري من خارج فلسطين لصالح هذه القضية، ومن ثم فإن دور أفريقيا في الجنوب العالمي (أو في المجتمع الدولي ككل) لن يتم دون تكاتف أدوار الشعوب الأفريقية في المقام الأول وليس الحكومات التي لا اعتبرها جادة في فكرة الجنوب العالمي لأنها بالأساس نتاج الاستعمار وأفكاره. كما أنه لا يتوقع من الصين أن تقدم قروضًا ومساعدات للدول الأفريقية بدون مقابل، حتى لو كانت الفوائد أقل مما تفرضه قروض صندوق النقد الدولي والدول الغربية وجميعها من القوى الناهبة لأفريقيا دون استثناء. كما أنه لا يمكن أن تصور نموذج الصين بتقديم "مشاركة تنموية" سيكون بديلًا لفخ الديون الغربية لأن تلك الحال هي مجرد استبدال وحش بآخر. وأضرب مثالًا بطبيعة توجهات النخب الأفريقية تجاه فكرة الجنوب العالمي حيث حضرت قبل نحو عقدين اجتماعًا برعاية الاتحاد الأفريقي وخاطبنا الرئيس الأوغندي يوري موسيفني (كنا مجموعة من المثقفين الأفارقة) بتأكيده أنه كرئيس أفريقي يشعر أنه تلميذ في حضرة ناظر المدرسة عند مقابلته للرئيس الأمريكي، وهو خطاب لا يفصح بمثله موسيفني (الذي اعتاد في السنوات الأخيرة مهاجمة الولايات المتحدة والنظام الإمبريالي الغربي في السنوات الأخيرة) أمام شعبه أو في اجتماعات رسمية أخرى، وأعتقد هذا هو مستوى (أغلب) القادة الأفارقة، ومن ثم فإن المتوقع منهم قليل في واقع الأمر إذا تم قياس جديته وصدقه، كما أن الاتحاد الأفريقي نفسه يظل مجرد "منصة نيوليبرالية" a neo-liberal platform ولا يقوم بأي دور حقيقي لخدمة الشعوب الأفريقية كما في أزمات الكونغو والسودان وإثيوبيا والصومال وقبله في حالة ليبيا وعجز الاتحاد الذي أسهم في تأسيسه معمر القذافي عن اتخاذ أي موقف تجاه تدخل الناتو. 

هذا طرح راديكالي واضح ومفهوم في حالات كثيرة وربما يحيل إلى تصور حجم الأزمة المستحكمة التي تقع أفريقيا فيها حاليًا، إذن نحن في نفس مراحل الاستعمار الجديد؟

حكيم- بالتأكيد أفريقيا حاليًا ورثت الحدود بين دولها، وورثت النظم السياسية الغربية، وورثت نخبًا تابعة للمستعمر بشكل واضح، وأرى أن أفريقيا لم تصل حتى الان إلى عتبة "دولة ما بعد الاستعمار".

بروفيسور حكيم، ترى أن التغيير هو غاية دراسة التاريخ، ما جديدكم إذن الذي قد نتوقعه منكم؟

حكيم- كتاب أعتقد أنه مهم حول تاريخ أفريقيا لكن من زاوية إثارة جدل ثقافي- فكري بالأساس في تناول هذا التاريخ، قسمته مبدئيًا وتتضح معالمه رويدًا رويدًا لكن ما حسم بالفعل أول فصوله والتي ستتناول تاريخ مصر وإشكالاته الأفريقية، ثم السودان او النوبة والمناطق المجاورة، واتطلع لتناول موسع للقضايا المثيرة للجدل المتعلقة بتاريخ القارة الأفريقية في مختلف الأقاليم، لكن العمل لا يزال قابلًا للتطوير وقد يستغرق عامين أو نحوهما.    
 

[1] The Interesting Narrative of the Life of Olaudah Equiano, or Gustavus Vassa the African, written by himself (1789)