الأربعاء 13 نوفمبر 2024
تبدو خطوات أوكرانيا الأخيرة في طريق عودتها إلى القارة الأفريقية أكثر جرأة وتأثيرًا في مجريات السياسة الأفريقية، بدءًا من الدعم الاستخباراتي واللوجيستي الذي قدمته لجماعات عسكرية مناهضة للحكومة العسكرية في مالي، وتنسيق الأدوار مع الحلفاء الغربيين للتدخل في عدد من الملفات الملحة، بل وتعويض الانسحابات العسكرية الأمريكية من عدد من دول الساحل، وصولًا إلى تفكيك موقف جنوب أفريقيا الداعم لروسيا، وإثارة الخلافات داخل "حكومة الوحدة الوطنية"، مع انتقاد الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوسا لقرار ليون شريابر، وزير الشؤون الداخلية، الذي ينتمي لحزب التحالف الديمقراطي المشارك في السلطة مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، يوم الأحد 27 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت منح تأشيرات مجانية للدبلوماسيين الأوكرانيين لدخول البلاد، واصفًا أوكرانيا أنها "حليف مهم"، إذ وصفت الرئاسة إعلان الاتفاق بأنه تم "دون تصديق رسمي من الرئيس".
كانت أنجولا محطة أولى (24- 25 أكتوبر/ تشرين الأول) في جولة وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيها الأفريقية، قبل توجهه إلى مصر (26 أكتوبر/ تشرين الأول)، ثم جنوب أفريقيا (27-28 أكتوبر/ تشرين الأول)، وجاءت في توقيت كانت فيه ترتيبات لزيارة "تاريخية" يقوم بها الرئيس الأمريكي جو بايدن منتصف الشهر الفائت، لكنها أُجلت ولم يحدد لها موعدٌ بعد.
لا يخفى ارتباط التقارب الأوكراني الأنجولي بالتنافس الأمريكي الروسي في الدولة الأفريقية، فعلى سبيل المثال واكبت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لأنجولا، مطلع العام الماضي، قيام وفد أوكراني رفيع المستوى بقيادة يوليا سفيريدينكو، نائبة رئيس وزراء أوكرانيا ووزيرة الاقتصاد، بلقاء الرئيس الأنجولي جواو لورنزو خلال وجودهما في البرازيل، لحضور حفل تنصيب الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا. وبَنَت سفيريدينكو وقتها على دعم أنجولا الواضح للموقف الأوكراني في الأزمة لتعميق التعاون الاقتصادي بين البلدين، واستفادة كييف (حسب بيان رسمي) من العلاقات بين أنجولا والبرازيل "لمواجهة العدوان الروسي"، وتعميق التعاون الاقتصادي الأوكراني مع الدول المختلفة عبر الأطلسي.
ركزت زيارة سيبيها للواندا على التباحث في مبادرات كييف لتعميق العلاقات بين البلدين في مجالات محددة، مثل سلامة الغذاء والأدوية البيطرية وصحة الحيوانات (وفق خطط تم وضعها بالفعل منذ العام 2017 دون منجزات مرتفعة السقف). كما تباحث الجانبان الأوكراني والأنجولي في سبل التوصل إلى اتفاق لتفادي الازدواج الجمركي، واتفاق حول حماية الاستثمارات وبروتوكول للتعاون بين الأكاديمية الدبلوماسية الأوكرانية ونظيرتها في أنجولا.
استهدفت هذه الأدوات القانونية بشكل خاص تقوية الصلات المؤسساتية، وخلق بيئة ملائمة للاستثمار (في أنجولا بطبيعة الحال)، وتبادل المعرفة بين البلدين. فيما عبر المسؤولون الأنجوليون عن أملهم في تحقيق تقدم في الشراكات الاستراتيجية مع أوكرانيا، وأكدوا موقف بلادهم الثابت، منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهو "المطالبة بحل سلمي وتفاوضي" للصراع، واحترام سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، وفقًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي كرره في أكثر من مناسبة الرئيس الأنجولي، حسب بيان الخارجية الأنجولية. من جهتها، سعت كييف، في الأسابيع الأخيرة، لإعادة تنشيط مذكرة التعاون حول المشاورات السياسية الثنائية بين البلدين، الموقعة في العام 2001، باعتبارها أساس المشاورات المنتظمة بين وزارتي الخارجية في البلدين.
يبدو أن أوكرانيا ستحقق حضورًا مهمًا في أفريقيا الجنوبية في الفترة المقبلة في ضوء تمتين علاقاتها مع أنجولا، ونشاط مرتقب لأوكرانيا في سياق الاستثمارات الغربية الضخمة المقرر ضخها في الإقليم، في مشروع ممر لوبيتو، حال دفع إدارة ترامب الجديدة في مسار تنفيذه بمعدلات أسرع، مما كان مقررًا من قبل إدارة جو بايدن التي تمضي أسابيعها الأخيرة بالفعل، كما يتضح في غموض مصير زيارة الأخير لأنجولا.
قادت بريتوريا، لاعتبارات متنوعة مثل السعي لتوازن علاقاتها الخارجية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا، وانتهاج دبلوماسية أفريقية رائدة، وتنويع قواعد الاقتصاد الجنوب أفريقي، توجهًا أفريقيًا واضحًا في تبني موقف محايد تجاه الأزمة الروسية – الأوكرانية، وهو ما اعتبرته كييف تحيزًا أفريقيًا ضدها. لذا، فإن تحركات أوكرانيا الراهنة للتقارب مع جنوب أفريقيا، لاسيما بعد تكوين حكومة جديدة لا يملك فيه حزب المؤتمر الوطني السلطة المطلقة، تعد منطقية تمامًا في سياقات العودة الأوكرانية لأفريقيا.
كان توقف وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيها في زيارة لجنوب أفريقيا ليومين، ومقابلته نظيره الجنوب أفريقي رونالد لامولا، خطوة في هذا المسار من باب تقوية العلاقات الثنائية، وضمان موقف جنوب أفريقي داعم لخطة السلام التي تتبناها كييف (في الصراع مع روسيا)، ومن ثم استمالة أكبر كتلة ممكنة من الدول الأفريقية خلف مواقف بريتوريا، التي كانت بالفعل آخر محطة في جولته الشرق أوسطية والأفريقية، شملت مصر وأنجولا.
يتضح من جدول أعمال سيبيها في جنوب أفريقيا حرص كييف على تنشيط العلاقات الاقتصادية مع القطاع الخاص (الفاعل القوي في الاقتصاد الجنوب أفريقي)، حيث التقى الأول بعدد من رجال الأعمال إلى جانب خبراء مهمين في جامعة بريتوريا، وعرض وجهة نظر بلاده في سبل تعزيز التعاون بين البلدين، والتأكيد على أن المبادرة الأوكرانية للسلام هي الطريق الوحيد لسلام شامل وعادل ومستدام.
أثارت جهود أوكرانيا بالفعل مواقف متناقضة داخل جنوب أفريقيا، ربما في نجاح أولى يمكن تعمقه في إحداث شقاق أكبر في موقف بريتوريا الثابت -حتى اللحظة- تجاه الحرب الأوكرانية الروسية نحو اقتراب أكبر مع المواقف الأوكرانية الغربية؛ لاسيما بعد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وإرهاصات ممارسته استراتيجيات الضغوط القصوى في العديد من الملفات.
كما أن استشراف كييف للفرص الاقتصادية مع جنوب أفريقيا يتقاطع بشكل حتمي، وبالأساس، مع سيناريو المواجهة الاقتصادية المرتقب بين الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر شريكين اقتصاديين لجنوب أفريقيا، وهي مواجهة تأتي في صلب الاستراتيجيات المشار لها، مع ملاحظة ضعف تأثير الحرب نفسها المباشر على الاقتصاد الجنوب أفريقي، حيث لا تتجاوز روسيا وأكرانيا مجتمعتين حاجز 1 ٪ من قيمة تجارة بريتوريا الخارجية مع العالم، حيث قدرت عام 2021 بحوالي 3 بليون راند فقط (حوالي 173 مليون دولار تقريبًا) مقارنة بحجم تجارة مع الصين التي اقترب من 55 بليون دولار، ومع الولايات المتحدة التي تجاوزت21 بليون دولار عن العام نفسه.
إن انفتاح القطاع الخاص الجنوب أفريقي على فرص التجارة مع أوكرانيا، وهو انفتاح متوقع بشكل شبه قاطع، في ضوء طبيعة هذا الاقتصاد، وغلبة أدوار الشركات متعددة الجنسيات فيه، سيمثل أداة قوية في يد كييف للتأثير في مواقف بريتوريا السياسية تجاه الحرب في أوكرانيا- روسيا، وضمان أداء "متوازن" لبريتوريا التي ستترأس مجموعة العشرين في العام 2025، ومن ثم دفع عدد لا يستهان به من الدول الأفريقية (لاسيما في الجنوب الأفريقي) للاقتداء بمواقف بريتوريا.
لعبت أوكرانيا بالفعل في العامين الأخيرين تحديدًا دور متعهد تنفيذ السياسات الأمريكية والغربية في أفريقيا، كما يتضح من نشاطها الأمني والاستخباراتي في إقليم الساحل الأفريقي بالتزامن مع تراجع الوجود الأمريكي- الفرنسي به. لكن ثمة مؤشرات واضحة منذ إعلان فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، متبوعًا بتحقيق الحزب الجمهوري انتصارات قاطعة في مسار تأمينه أغلبية مطمئنة في مجلسي النواب والشيوخ، على عودة أمريكية قوية لحسم الكثير من الملفات العالقة، ومنها مواجهة النفوذ الصيني في أفريقيا (أو تحييده واحتوائه وفق السياسة الأمريكية التقليدية)، وإعادة توظيف أدوار القوى الأوروبية في القارة بشكل أكثر فعالية؛ وعلى سبيل المثال أعلنت بريطانيا، في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، فرض عقوبات جديدة على روسيا بسبب "الحرب في أوكرانيا وأنشطتها الخبيثة في أفريقيا"، وشملت العقوبات 56 شركة وفردا في دول مختلفة، أهمها الصين وكازاخستان، وعلى خلفية ما وصفته صحف بريطانية بارتباط أنشطة هذه الأهداف بأعمال مرتزقة في أفريقيا؛ وجاء ذلك بالتوازي مع تقارير تفيد احتمال اضطلاع بريطانيا بقيادة عمليات عسكرية مباشرة في الحرب مع روسيا.
تشير الأولوية القصوى التي يوليها ترامب للملف الأوكراني؛ حيث حضر ملف الدفاع عن أوروبا وأوكرانيا بالفعل في قلب محادثات مبكرة، أجراها ترامب في 8 من الشهر الجاري مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى تعزيز أمريكي- أوكراني متبادل للأدوار في القارة الأفريقية لتحقيق مكاسب مشتركة مثل إدارة الأوضاع الأمنية في إقليم الساحل، والدخول في شراكات استثمارية أوكرانية مع دول أفريقية (مثل أنجولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا ومصر)، وتنشيط رافعة صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفريقيا (التي يعاني عدد كبير من دولها من أزمة أمن غذائي مستحكمة) بدعم أمريكي مصحوب بتمكين أكبر لأدوار القطاع الخاص في القارة.
بدت مؤشرات عودة أوكرانيا القوية إلى القارة الأفريقية، والتي ربما تتضمن دوافع انتقامية بعدما اعتبرته كييف تخاذلًا أفريقيًا عن دعمها دبلوماسيًا في الحرب مع روسيا، مصحوبة بتغيير سياسي مرتقب في واشنطن يحمل في طياته الكثير. وفيما يخص الدول الأفريقية التي حافظت على توازن أو حياد في مواقفها من الحرب الروسية- الأوكرانية فإن هذه العودة المشار لها، والتي ستكون مصحوبة بلا شك بتدخلات أوكرانية "عنيفة" في ديناميات الأوضاع في تلك الدول الأفريقية، ستؤثر بقوة على مجمل الأوضاع في القارة.
وليس أدل على ذلك من مواجهة حكومة الوحدة الوطنية الجنوب أفريقية تهديدات بمزيد من الانقسام الداخلي في موقف بريتوريا من الحرب الروسية الأوكرانية، ومؤشرات تبني موقف أكثر "اعتدالًا" (بالابتعاد عن الدعم الضمني لروسيا)، ستقود حتمًا إلى تغييرات كبيرة في وضع جنوب أفريقيا الإقليمي والدولي سواء ضمن مشروع "الجنوب العالمي"، أم كدولة إقليمية رائدة في القارة الأفريقية في مواجهة "الهيمنة الغربية"، على الأقل شكليًا، لصالح عودة إلى خطوط سابقة داخل ديناميات الاقتصاد الغربي وسياساته، وفي ضمنه الدور الأوكراني بأبعاده الأمنية والعسكرية والاقتصادية حتى لو من باب "الوكالة" الأمريكية.