الجمعة 15 نوفمبر 2024
تدقّ وسائل الإعلام العالمية ناقوس خطر مجاعة وشيكة في القرن الأفريقي، ستقضي على الملايين في غضون أسابيع. وهو عنوانٌ يتكرّر على نشرات القنوات الإخبارية؛ تبدأ اللقطة بتصريحاتٍ أممية، تناشد المنظمات الإنسانية للتدخّل من أجل التصدّي لكارثة إنسانية على الأبواب، ومن ثم تتوالى تأكيدات (ومناشدات) مكاتب الغذاء العالمية في جنيف ونيويورك ونيروبي بمدى خطورة الظرف، وضرورة التبرّع على الفور للحيلولة دون وقوعها، مرفقة بسيلِ من الصور والإحصاءات المرعبة.
تحمل صورة الطفل العاري، حافي القدمين، ذي النظرات الباهتة، والعظام البارزة طاقة جذبٍ لا تنفد في وسائل الإعلام العالمية؛ ففي حين تمرّ في أجزاء من العالم أزمات غذاء حادة، وفقاً لتقارير لجنة الإنقاذ الدولية المتخصِّصة في رصد الكوارث الطبيعية ودرئها، إلا أننا لا نجد توظيفًا أيديولوجيًا لها مثل توظيف الأزمات الإنسانية التي لازمت دول القرن الأفريقي منذ المجاعة الإثيوبية عام 1983، ومجاعتي الصومال الكارثِيَّتَين عامي 1992 و2011. حيث عادة لا تشير وسائل الإعلام هذه إلى أسباب المجاعة؛ كأن تأتي على ذكر زيادة التغيرات المناخية بالجفاف وقلة هطول الأمطار الناتجة عنها، خصوصًا أن بلدان القرن الأفريقي تعتمد بشكل كبير على الزراعة ورعي الماشية، باعتبارهما رافديْن حيويَّين لاقتصاداتها، ودعامة أساسية لسُبُل عيش أكثر من 75% من سكانها، فضلاً عن التداعيات الكارثية لجائحة كورونا والأزمة الأوكرانية على اقتصادات دول القرن الأفريقي، سيما على صعيد النقص العالميَّ لإمدادات الحبوب والوقود، وارتفاع تكاليف الشحن وأسعار السلع، وتراجُع المساعدات الإنسانية الدولية.
وهذا الإغفال السخيف لأسباب الأزمة، وجنوح المنظمات الإنسانية إلى تضخيم أعداد الضحايا، واستسهال استخدام تصنيف المجاعة عملية غير بريئة، وتخدم سوقًا ضخمًا يتألف من المنظمات الإنسانية والخيرية ووسائل الإعلام التي تتغذّى باستمرار على هذه الكوارث. وقد فكّكت أدبيات كثيرة هذه الصورة المؤدلجة للمجاعة والكوارث، مثل كتاب مايكل مارين "الطريق إلى الجحيم" الذي وصف المساعدات والعمل الخيري في الصومال "كصناعة، وكدين، وكنظام يخدم نفسه، ولا يتورّع عن التضحية بحياة موظفيه والمستفيدين المستهدفين كي ينمو ويتضخم ويبقى".
يعمد هذا التناول إلى تقديم دول القرن الأفريقي مكانا طبيعيا لحدوث الكوارث بشكل متوقع، فعلى سبيل المثال، يُعد تصنيف المجاعة الذي تدقّ وسائل الإعلام ناقوس خطره تصنيفًا تقنيًا للغاية، وتحدّده ثلاثة معايير أساسية حسب نظام التصنيف الدولي المتكامل (IPC) الذي أطلق في عام 2004: أن يواجه ما لا يقل عن 20% من الأسر في منطقةٍ معينةٍ نقصًا شديدًا في الغذاء؛ أن يعاني أكثر من 30% من الأطفال دون سن الخامسة في مجموعة العينة من سوء التغذية الحادّ؛ أن يموت شخصان على الأقل من بين كل عشرة آلاف شخص يوميًا لأسبابٍ تتعلق بنقص الغذاء.
ماذا عن الوضع الحالي في الصومال؟ لا توجد إحصاءات حكومية أو دولية لتحديد المجاعة، لكن وسائل الإعلام والهيئات الأممية لا تتورّع في استخدام تصنيف المجاعة، وما يجعل الأمر مستساغا لديها أنه جرى الإعلان عن مجاعتين فقط منذ إطلاق التصنيف: وكلاهما في منطقة القرن الأفريقي: الصومال في عام 2011؛ وجنوب السودان في عام 2017. وثمّة مساحة للمناورة في نظام التصنيف، نظرًا إلى أنه يصعب جمع البيانات بحكم المراحل التي يحدّدها التصنيف. وبالتالي، يستسهل استخدام تصنيف المجاعة لجمع مزيد من التبرّعات.
لا يكفي أن تسارع المنظمات الدولية إلى إشغال الرأي العام العالمي بقيادة حملة عالمية لجمع التبرّعات في كل مرّة تواجه دول القرن الأفريقي الأخرى أزمات كارثية. وبطبيعة الحال، ليست الأزمة الغذائية محصورة فيها، بل هي مرتبطة بسياق أوسع يتعلّق بفشل التنمية في القارّة الأفريقية؛ فقد ذكر أحد التقديرات أن المساعدات للقارّة بلغت 1.2 تريليون دولار في العقود الثلاثة الأخيرة وحدها، حيث أنفق المانحون خلال تلك المدة أكثر من ألف دولار للفرد، إلا أن متوسّط دخل الأفارقة جنوب الصحراء زاد بمقدار 350 دولارًا فقط. حيث استهلك المانحون أنفسهم هذه الأموال. وعلاوة على أنه لم يتم توزيعها بشكل متساو بين دول القارّة، فإن عددًا محدودًا من البلدان الأفريقية حقّق النمو الاقتصادي السريع الذي شوهد في كثير من دول آسيا (كوريا الجنوبية، والصين، وفيتنام، وإندونيسيا، والهند) في الفترة نفسها
.
ويبقى السؤال هنا: لماذا تفشل المساعدات في تحقيق التحوّل الاقتصادي الذي تحقّق في أماكن أخرى؟ وهل عزّزت المساعدات الغربية التنمية المحلية أم أعاقتها؟ يخلُص جريج ميلز مدير مؤسسة Brenthurst؛ الجنوب أفريقية في كتابه "الفقر الباهظ: لماذا تفشل المساعدات وكيف يمكن أن تحقّق نتائج إيجابية (2021). إلى ثلاثة أسباب أساسية وراء فشل المساعدات في تحقيق التحوّل المتوقّع في أفريقيا: ضعف مؤسسات الدولة، نتيجة للإرث الاستعماري التاريخي. استشراء الفساد بسبب عدم وجود أنظمة سياسية رشيدة وخاضعة للمساءلة. اهتمام المتبرّعين بالأهداف قصيرة الأمد.
ويبدو أن الصومال هو المكان الذي تتجسّد فيه هذه المعادلة أكثر من أي بلد آخر، فقد فشلت كل المساعدات التي قُدّمت منذ ثلاثة عقود في تحقيق أي فارق يُذكر (علاوة على الفشل الخارق لمشروع إعادة بناء الدولة من خلال تعويذة "الحرب على الإرهاب"). وهذا فشل سياسي في المقام الأول، ولا يتعلق بالاقتصاد أو بُندرة الموارد. فلا توجد، إلى اللحظة، في الصومال مؤسّسات حكومية تمكن مساءلتها أمام مواطنيها عن قرارات الإنفاق. وتشعر النخب السياسية الفاسدة المتحكّمة في ما تسمّى العملية السياسية أنهم قادرون على التصرّف بالأموال العامة والإفلات من المساءلة فور انتهاء فترة وجودهم في الحكم. وتتسم المعونات الإنسانية الغربية بتاريخ طويل من الفساد المتواطئ مع أنظمة الحكم في الصومال، بدءاً من نظام سياد برّي الاستبدادي. وصولا إلى نخب ما بعد الحرب، حيث يتّصف القطاع الإنساني بقدرٍ عالٍ من استشراء البزنس وبتواطؤ من الهيئات الدولية وأجندات الجهات المانحة. ويفاقم الصراع مع الجهاديين هذه المشكلات، لتكتمل حلقة الفساد، بحيث يجعل المانحين يختارون التركيز على مشاريع قصيرة الأمد. وبهذا، تخرج معظم الأموال من الباب بسرعة تحت مشاريع ورقية. وفي أحيان عديدة، تنتهي المساعدات في أيدي حركة الشباب، إما عبر فرضها أتاوات على الهيئات الإنسانية، أو عقد تسوياتٍ معها. وبالفعل، تورّطت هيئات دولية بتخصيص نسبٍ من المساعدات للحركة في مقابل تأمين الطُرق (الأمر الذي فشلت فيه القوات الأممية والقارّية الموجودة في البلاد) كما ذكره تقرير صدر عن مجموعة الأزمات الدولية أواخر 2018.
إذن، تكمن أزمة الصومال الحقيقية بغياب مؤسّسات حكم متماسكة، وآليات فعَّالة لتنسيق الحلول الإقليمية للتحدّيات المشتركة الفاعلة، فالمساعدات تمر عبر أجهزة الحكومات الفاسدة وهيئاتها في مقديشو، ولا تصل عادة إلى المتضرّرين في الأقاليم التي لا تحكمها بطريقة مباشرة الحكومة الصومالية المعترف بها دوليًا، والتي تتلقى المشورة من خبراء متقاعدين يثرثرون في مكاتبهم الفارهة، في نيروبي، بالتقارير والإحصاءات المبالغ بها. وهنا ينبغي إيجاد صيغة مناسبة للوصول إلى المتضرّرين الحقيقيين، في الأقاليم والأرياف، من قبيل التنسيق مباشرة مع الحكومات المحلية والهيئات الفاعلة في المجتمع المدني. ولا يقلّ الجانب الآخر من الأزمة إشكالية، وهو تناول وسائل الإعلام والمؤسّسات الإنسانية التي استمرأت الاستثمار في صناعة المجاعة وتضخيمها. وفي حال لم يتم تفكيك هذه البنية العلائقية في المؤسّسات الإنسانية والحكومية والإعلامية ستستمر الصومال ودول القرن الأفريقي تتصدّر أخبار الكوارث الإنسانية وكأنها قدر محتوم.