الجمعة 22 نوفمبر 2024
ولد أفلاطون في عام 427 قبل الميلاد (أي: بعد أربع سنوات من بدء الحرب البلوبونيزية) وكان شابا في الثالثة والعشرين حين تقهقرت "الديموقراطية" في أثينا، وكان في الثامنة والعشرين حين أعدمت "الديموقراطية" المُستردَّة معلمه وصديقه سقراط. في عام 399 – وفور انتهاء محاكمة سقراط تقريبا – غادر أفلاطون أثينا، وتنقَّل على نطاق واسع في جميع أرجاء العالَم اليوناني. عقب عودته؛ أسس هذه المدرسة في أثينا التي سماها بالأكاديمية، من أجل تدريب وتعليم الفلاسفة ورجال الدولة والمُشرِّعين. عاش أفلاطون فترة طويلة، وبلغ الثمانين. وفيما عدا بعثتين إلى صقلية؛ حيث ذهب بناءً على طلب ديونيسيوس (قاضي محكمة أثينا العليا) للمساعدة في تأسيس ملكية فلسفية في مدينة سيراكيوز؛ فقد بقي أفلاطون في أثينا معلما وكاتبا، كتاب "الجمهورية" ينتمي إلى تلك المرحلة من حياة أفلاطون التي تلت عودته إلى أثينا بعد أن غادرها على إثر إعدام سقراط.
يقول أفلاطون في الرسالة السابعة عن دوافع كتابته للجمهورية: "حين كنتُ شابا شعرتُ مثلما شعر كثير من الرجال الشباب. شعرتُ في نفس اللحظة التي بلغتُ فيها سن الرشد أنه يتوجب عليَّ في الشؤون العامة. هنا ظهرت في طريقي مناسَبة أود ان أحدثكم عنها. تمّ إلغاء الدستور الديموقراطي، بعد أن انتقده بصوت عالٍ كثير من الناس، وقادة الثورة عينوا أنفسهم حكومة ممثَّلَة في 30 رجل بيدهم السلطة العليا (يتحدث أفلاطون هنا عن حكومة الطغاة الثلاثين) ويجب أن تفهموا أن بعضهم - أي الطغاة الثلاثين - كانوا من معارفي وأقربائي، بل إنهم قاموا بدعوتي للانضمام إليهم، كما لو كان ثمة تناغم بيني وبين السياسة. كنتُ صغيرا جدا وقتها وليس مستغربا أن أفكر بالطريقة التي فكرت بها. اعتقدت أن المدينة كانت تعيش حياة ظالمة نوعا ما، وأنه بإمكان حكومة الثلاثين ثني المدينة عن الظلم وإدارتها بشكل أكثر عدلا. ولذا؛ فقد تطلعتُ بفارغ الصبر لرؤية ماذا ستفعله هذه الحكومة. ولا بُدّ أن تعرفوا؛ أنه خلال تطلعي وبحثي؛ فقد رأيتُ أن هذه الحكومة جعلت الديموقراطية السابقة تبدو لنا في وقت قصير وكأنها عصر ذهبي"، يشير أفلاطون هنا إلى أقربائه؛ رجال من أمثال كريتياس؛ الذين حولوا السياسة الأثينية إلى سياسة مستبدة بشكل كامل، والتي جعلت ديموقراطية أثينا تبدو كما قال "وكأنها عصر ذهبي".
يقول أفلاطون أيضا: "تأملتُ في السياسة وفي الرجال الذين كانوا في السياسة وفي القوانين والأعراف، وكلما تقدمت في العمر وتأملت أكثر كلما أدركت صعوبة إدارة الشؤون السياسية بعدل، ولن تستطيع القيام بذلك دون أصدقاء ورفاق يمكنك الوثوق بهم، ومن الصعب إيجادهم، لأن المدينة - كما ترون - لم تعد تعيش على نمط وأساليب آبائنا. كنتُ في البدء متشوقا لخوض غمار السياسة، ووقفتُ على حقيقة أن الأمور كانت تأخذ مسارا غريبا دون توجيه أو إدارة، وانتهى بي الأمر إلى الإصابة بالدوار والتشويش. لم أتخلَّ عن اهتمامي بالسياسة ومحاولة اكتشاف كيفية تحسينها من نواحٍ مختلفة، وكنتُ على الدوام أنتظر فرصتي. لكنني في نهاية المطاف أدركتُ أن الدول القائمة حاليا جميعها تُحكَم وتُدار بشكل سيئ، وأن قوانينها في وضع سيئ جدا لا ينفع معه - تقريبا - أي علاج، إلا في حال حدوث معجزة ما! ولذلك كنت مضطرا للقول أنه يتوجب الإشادة بالفلسفة الحقيقية كعامل وحيد قادر على تمييز العدالة. وبناءً على ذلك قلتُ أن مشاكل دول العالم لن تنتهي حتى تستلم المناصب سلالة حقيقية من الفلاسفة، أو حتى يسعى الحكام نحو الفلسفة بأمر إلهي ما".
ماذا يتناول كتاب "الجمهورية" بالضبط؟ هذا السؤال حيَّر قُرَّاء "الجمهورية" على مر العصور وأثار جدلا واسعا بينهم. هل هو كتاب عن العدالة كما يلمِّح العنوان الفرعي للكتاب؟ هل هو كتاب عن علم النفس الأخلاقي والنظام الأمثل للنفس البشرية الذي يعتبر موضوعا بارزا تناوله الكتاب؟ هل هو كتاب عن قوة الشِّعر والأسطورة أو ما يُسمى بالإطار الثقافي الذي تتشكل فيه النفوس والمجتمعات؟ أم هل هو كتاب عن الميتافيزيقيا والهيكل النهائي للوجود كما يقترح العديد من الكتب التي تناولت "الجمهورية" لاحقا؟
نظرية "الأشكال" وصورة "الخط المقسم" وما إلى ذلك.. إلخ، يبدو أن "الجمهورية" يتناول جميع تلك الأمور وغيرها أيضا، لكننا في بادئ الأمر حين نقترب من الكتاب يجب أن نبقى على السطح، وألا نحفر عميقا انطلاقا من عبارة أحد القراء الكبار لأفلاطون ليو شتراوس: (سطح الأشياء فقط يكشف لنا عن جوهرها)، سطح "الجمهورية" يكشف لنا أنه عبارة عن حوار؛ لذا يجب أن تكون مقاربتنا لـ "الجمهورية" ليس باعتباره بحثا أو أطروحة علمية بل باعتباره عملا أدبيا أو تمثيلية مسرحية.
إن كتاب "الجمهورية" عمل يماثل إطار أعمال أدبية تعدُّ تُحَفا فنية، مثل مسرحية "هاملت" لشكسبير، ورواية "دون كيشوت" لميغيل دي سرفانتس، ورواية "الحرب والسلام" لتولستوي وغيرها. كتاب أفلاطون هو نوع من اليوتوبيا المتطرفة، ويقدم رؤية متطرفة في مثاليتها السياسية، ورؤيتها لدولة المدينة. النسق الموجِّه لكتاب "الجمهورية" هو المراسلات، والتناظر بين أجزاء المدينة وأجزاء الروح البشرية؛ حيث تكون النزاعات والفتن داخل المدينة كالنزاعات والفتن داخل الروح البشرية؛ ويتم اعتبار كليهما أعظم شر.
هدف كتاب "الجمهورية" هو إنشاء مدينة متناغمة؛ بناء على مفهوم عدالة - إن صح التعبير - يوائم بين الفرد والمجتمع. كيف سيتحقق ذلك؛ إن سلّمنا أن أفضل مدينة هي بالضرورة تلك التي تسعى لإنتاج أفضل الأفراد؟
إجابة أفلاطون الشهيرة على هذه المسألة أن هذه المدينة - وأي مدينة - لن تكون خالية من الصراعات ومن الخلافات بين أطرافها المختلفة؛ حتى يصبح الملوك فلاسفة، والفلاسفة ملوكا؛ كانت هذه هي الصيغة الشهيرة التي قدمها أفلاطون للإجابة على سؤال كيفية الموائمة بين الفرد والمجتمع، وبين مختلف أطياف المجتمع.