الجمعة 22 نوفمبر 2024
تحظى تركيا بحضور وازن في القارة الإفريقية، بعدما تطورت علاقاتها منذ سنوات تجسيدا لرؤية خارجية واضحة، محددها المركزي تعزيز حضورها بالمنطقة، في ظل نظام دولي متحول، فالقارة أساسية في تقدير أنقرة لضمان ريادتها إقليميا، وتحركاتها على الصعيد العالمي. تتأكد محورية الدور التركي بالقارة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، فاستثمرت جهودها الدبلوماسية لتقديم عروض أمنية مغرية للدول الإفريقية؛ مستفيدة من التراجع الغربي بالمنطقة، خصوصا بغرب افريقيا، مع تأكيدها على دعم سياسي وعسكري لامشروط لحلفائها.
يعتبر التركيز على العلاقات الأمنية بداية التحولات الحاسمة للدبلوماسية التركية-الإفريقية، وكانت ليبيا المختبر التركي للبحث عن أدوار أمنية بالقارة، تحت شعار ترسيخ السلام والاستقرار والتنمية هناك، وجاء الرهان على منطقة الساحل الإفريقي لتعزيز تلك القدرات. بالموازاة معها، حظيت دول الشرق الإفريقي بتقدير خاص من جانب أنقرة. وهنا تحظر المنطقة كإحدى محاور التنافس المحتدمة، حيث سعت إلى تعزيز حضورها بمختلف الآليات، مُراهنة على عروضها الأمنية ومثانة علاقاتها وقوة شراكاتها.
تحظى العلاقات التركية الإفريقية بمكانة متميزة في توجهات أنقرة الخارجية، تتحدد معالمها الأولى بخطة الانفتاح على إفريقيا عام 1998، وتعززت سنة 2003 باستراتيجية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية، ثم أضحت بعد سنتين مراقبا بالاتحاد الأفريقي. ثلاث سنوات بعد ذلك، ارتقت شريكا استراتيجيا للاتحاد، وتثمينا لهذا المنجز عقدت الخارجية التركية أول قمة للشراكة التركية الإفريقية، توجتها بالعضوية في عدة مؤسسات اقتصادية إفريقية؛ مثل بنك التنمية الإفريقي وصندوق التنمية الإفريقي ومنظمة الايكاد.
كانت لهذا التحول في المقاربة التركية انعكاسات ميدانية، فقد ساهمت في ازدياد عدد السفارات والقنصليات التركية بإفريقيا، حيث شملت حوالي خمسين دولة، لتكون بذلك من قلائل الدول التي حظيت بحضور دبلوماسي وازن على الصعيد القاري. كما تعززت الزيارات الرئاسية والوفود الرسمية وتحركات المستثمرين الأتراك بالمنطقة، ومعها توسع حجم الاتفاقيات المبرمة في مختلف جبهات التعاون، ما انعكس على حجم المبادلات التركية الإفريقية، التي تجاوزت، برسم عام 2022، أكثر من 40,7 مليار دولار (1.1 تريليون ليرة تركية)، محققا بذلك ارتفاعا قُدِر بثمانية أضعاف خلال العقدين الأخيرين. فيما بلغ حجم الاستثمارات المباشرة 6 مليارات دولار، عززه حضور قوي للشركات ورجال الأعمال الأتراك بالمنطقة.
استكمالا لهذا المسار، أضحى تعزيز العلاقات التركية بإفريقيا استراتيجية رسمية على أساس الشراكة والتعاون، فحرصت تركيا على إرساء منصات للنقاش والتنسيق؛ فأسست لتقليد عقد قمة الشراكة الإفريقية التركية بانتظام، بدأت في إسطنبول بإقرار إطار التعاون والشراكة التركية الإفريقية عام 2008. كما تعززت بجلسات للمنتدى الاقتصادي التركي الإفريقي، وبينهما تبادل للزيارات وتعزيز للتعاون في مختلف المجالات.
إلى هنا، تتداخل الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية في الرؤية التركية لشراكتها مع دول المنطقة، لكنها تراهن على الدعم السياسي للقضايا الإقليمية، فيدغدغ رجب طيب أردوغان بلدان العالم الثالث عامة، والأفارقة على وجه الخصوص، بإعلانه تأييد بلاده المطلق تعزيز تمثيلية البلدان الإفريقية في مجلس الأمن، انسجاما مع أطروحته "العالم أكبر من خمسة" التي قدمها في مؤلف "من الممكن إنشاء عالم أعدل"، باعتبارها رؤية تركية لإصلاح الأمم المتحدة، وإعادة هيكلة مجلس الأمن، تقضي برفع العضوية إلى عشرين عضوا، يمثلون مختلف القارات.
تُقدم تركيا نفسها بديلا للقوى الاستعمارية السابقة، وتراهن على دبلوماسية القوة الناعمة، التي شكلت المبادرات التركية بالقارة في المجال الإنساني؛ دعامة أساسية في تعزيزها، وتجسدت، بقوة أكبر، في الجانب الثقافي من خلال توفير المنح الدراسية للطلبة الأفارقة. فضلا عن مساهمتها في مشاريع تطوير البنية التحتية، تستثمر مخرجات الزيارات الرئاسية للدول الإفريقية، وتؤثثها بالتصريحات المدافعة على القضايا الإفريقية. بالإضافة للزيارات غير الرسمية في إطار الدبلوماسية الشعبية للوفود الثقافية، وجولات رجال الأعمال.
تعد العشرين سنة الماضية فترة زمنية كافية لجرد المنظور التركي لشراكاتها الإفريقية، استطاعت من خلالها أن ترسي معالم حضورها القوي بالمنطقة. لكن بقدر نجاحها في الحضور بقدر ما ترتفع معالم التنافس والاستقطاب الحاد بأقاليمها، ومعها تتزايد حاجة الجانبين لترسيخ معالم الشراكة الممتدة بينهما في كافة القطاعات، فارتقى التعاون العسكري كمحدد استثنائي لتعزيز مصالحها القومية.
قامت العلاقات التركية الإفريقية على قاعدة التعاون والمصالح المشتركة، واستندت من أجل تقويتها وتوطيدها على الجانب العسكري، فأضحت تركز على تعزيز التعاون الأمني مع دول المنطقة. هكذا، راهنت أنقرة بشرق القارة على الشراكة والدعم والمساندة للأنظمة القائمة هناك، لإرساء دعائم الاستقرار، وعلى التعاون العسكري لتطوير منظوماتها الأمنية والعسكرية؛ تدريبا وتسليحا.
بذلك، يؤسس التوجه التركي في المنطقة محددا لاستكمال آليات التحرك التركي بإفريقيا، لاسيما أن المنطقة باتت تشهد تحولات محورية، فتعزز هذا النهج من خلال الدعم التركي للحكومة الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة، بطرابلس عام 2020، إبان محاولات قوات خليفة حفتر السيطرة على طرابلس، والتي فشلت بعد أشهر من المواجهات العسكرية بين الطرفين. وذلك بفضل الدعم التقني والعملياتي والتعاون العسكري التركي الليبي، الذي كان تتويجا لتوقيع اتفاقية الأمن البحري مع ليبيا، رغم الهواجس والاتهامات التي طالت الدور التركي هناك.
إلى ذلك، بدأت تركيا في توجيه بوصلتها إلى شرق القارة، فقدمت نفسها بديلا محايدا لدول المنطقة امتدادا لمساهمتها في التحولات بليبيا، وارتدادات شراكاتها الممتدة إلى الساحل الأفريقي. وأثمرت بالنهاية استمرار التعاون وتنامي حضورها، بأدوار جديدة في مالي وبوركينافاسو والنيجر بعد جلاء القوات الغربية والفرنسية. وشكّل نجاح تجربتها بهذه المنطقة قاعدة لتطوير أدوارها بباقي المحاور، مما جعل المحدد الأمني بالشرق الإفريقي حافزا أساسيا لتعزيز طموحاتها الجيوسياسية بالمنطقة.
وكمحصلة لهذه التوجهات التركية، وقعت أنقرة تتويجا لهذا الحضور، اتفاقيات دفاعية مع دول عديدة بغرب وشرق إفريقيا منها: إثيوبيا وغانا وكينيا ونيجيريا وأوغندا وتنزانيا وروندا، تختلف تفاصيلها بين إحكام الأمن والدعم الفني والتدريب العسكري. كما استند التعاون العسكري كذلك على مبيعات الأسلحة، كالمركبات المدرعة التركية والأسلحة والذخيرة والطائرات المسيرة، ما جعل صادرات الأسلحة التركية ترتفع بشكل قياسي، بانتقالها من 83 مليون دولار عام 2020 إلى 460 مليون دولار عام 2021.
تُعتبر الصومال مثالا واضحا على التطور المتسارع للعلاقات التركية بدول الشرق الإفريقي، حيث أضحت الشريك الأساسي لتركيا بالشرق. وحظيت في عام 2011 بزيارة رسمية للرئيس أردوغان؛ كأول زعيم غير إفريقي يزور الصومال، بعد أكثر من عقدين. لتتوالى بعدها تبادل الزيارات بين الطرفين، ومعها انتقل التعاون العسكري والأمني بينهما من التدريب والتعاون إلى إنشاء قاعدة عسكرية بمقديشو 2017، تعبر أكبر قاعدة عسكرية تركية خارج البلاد، وتنهض هذه القاعدة بمهام عديدة، من ضمنها تدريب الجيش الصومالي، ناهيك عن مساهمتها في تسهيل تقديم المساعدات الإنسانية.
تعززت العلاقات التركية الصومالية في المجال العسكري عام 2010 بمسار الشراكة الممتدة، وكانت ثمرة البدايات بينهما توقيع اتفاقية للتعاون التقني والعلمي في الجانب العسكري، أعقبتها اتفاقيات وبرتوكولات للتعاون الأمني المشترك. بعد سبع سنوات، انطلق العمل بالقاعدة العسكرية التركية، وتوج التنسيق الأمني المشترك بين البلدين بافتتاح مركز للتدريب التركي الصومالي في القاعدة، مهمته تدريب وتبادل الخبرات بين جيشي البلدين. وقد تخرجت أولى دفعاته عام 2018، بعد استكمال دورات للتدريب وتأهيل للقوات المسلحة وأفراد الشرطة الصومالية، في مختلف المجالات العملياتية والخدماتية.
على صعيد الأمن البحري، تفكر أنقرة في تقديم عروض لمكافحة الإرهاب والقرصنة بالقرن الإفريقي، خصوصا، وأنها شرعت في التعاون مع الصومال، بعد موافقة البرلمان التركي على تفويض لإرسال قوات بحرية، كما وافق عليها البرلمان الفيدرالي الصومالي بغرض التنقيب على النفط والغاز في المياه الإقليمية للصومال، تطبيقا لاتفاقية التعاون الدفاعي البحري الموقعة بين البلدين لمدة عشر سنوات. ونصت على حصول تركيا على حصة من الثروات البحرية، مقابل تعزيز الأمن البحري بالعمل على بناء وتدريب قوة بحرية صومالية، كما تشمل مكافحة جرائم القرصنة ومنع التدخلات الأجنبية والصيد غير القانوني وتهريب الأسلحة.
طبعا، حافظت أنقرة إلى جانب الصومال على علاقات مع جمهورية أرض الصومال رغم عدم الاعتراف الرسمي بها، كما عززت علاقاتها مع إثيوبيا وجيبوتي؛ فقبل أشهر وقع وزير الدفاع الجيبوتي مع نظيره التركي اتفاقية للتعاون الأمني بتركيا، تهم التدريب العسكري والتعاون المالي العسكري. كما تعززت العلاقات الاثيوبية-التركية بعد توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري بين البلدين، للمساهمة في التدريبات العسكرية والعمليات غير القتالية، وتعزيز التعاون الأمني المشترك.
غالبا ما تشكل العلاقات الاقتصادية والتجارية فرصة لتعزيز العلاقات العسكرية بين الدول، لكن تركيا راهنت على التعاون العسكري لتوطيد وجودها بالقارة السمراء، فركزت على الصناعات العسكرية كقاعدة لتحركاتها، مقدمة الطائرات المسيرة باعتبارها نموذجا رائدا لتكنولوجيا متطورة، من شأنها ضمان تسليح القوات المسلحة الإفريقية.
أصبحت الطائرات بدون طيار التركية واجهة صناعتها الدفاعية، وتعتبر شركة بايكار جوهرة الصناعة التركية لتقنيات الطائرات بدون طيار، إلى جانب شركات أخرى، وثمرتها طائرات بيرقدار المعروفة باسم مهندسها سلجوق بيرقدار الرئيس التنفيذي للشركة. وتتنوع نماذجها ومهامها، مثل: مكافحة الحرائق والمراقبة، بالإضافة إلى الاستخدام العسكري الذي يحظى بكل الأضواء المسلطة عليها، وتراهن تركيا على تكلفتها المنخفضة، وأدائها العالي، وبفضلها استطاعت أن تحقق حضورا وازنا لها في البورصة العالمية لمصدري هذه التقنيات.
هكذا، برزت الشركات التركية ضمن مصدري تقنيات الدفاع الجوي على الصعيد العالمي، فاحتفل أردوغان بدخول بلده، إلى جانب خمسة بلدان فقط، ضمن مسار الدول المصنعة للطائرات المقاتلة من الجيل الخامس. كما قدمت بلاده نماذج جديدة للطائرات بدون طيار، تراهن على توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لزيادة كفاءتها، وخير مثال لنجاحاتها متابعة العالم في بث حي للأداء الفعال للمسيرة اقينجي، في مهمة البحث ثم العثور على حطام طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
تراهن الدول الإفريقية على هذه المسيرات لتعزيز مواجهتها للجماعات المسلحة، وتطوير جيوشها الوطنية، وتعزيز كفاءتها القتالية، ما جعل الشركات التركية تتحرك لتلبية طلباتها، مستثمرة الانفتاح والنجاحات التي حققتها صناعاتها بالعالم، بعد أن كانت الساحة السورية ثم الليبية أولى محطات التوظيف التركي لطائراتها في المواجهات. كما تعززت محوريتها في الحرب الأوكرانية الروسية، وقبلها في الحرب الأرمينية الأذربيجانية، ما رفع حجم صادرات ومبيعات المعدات العسكرية التركية في العالم، وفي القارة السمراء.
تستخدم تركيا صفقات بيع طائراتها بوابة لنفوذها بالقارة مستغلة تراجع النفوذ الغربي هناك، فعزز الإقبال المتزايد على المسيرات التركية بالقارة السمراء من معادلة الاعتماد على الصناعة التركية، ليؤسس لصانع القرار التركي معالم ما سمي بدبلوماسية الطائرات بدون طيار التركية بالمنطقة، فأضحت إحدى أدوات دعم النفوذ التركية، لتي تراهن عليها لتعزيز مكانتها على صعيد إفريقيا.
وفي سياق متصل، اعتبرت الأنظمة الإفريقية الصناعة التركية محطة سانحة لتنويع شركائها، فضلا على أنها فرصة لتجاوز رفض القوى الغربية لتزويدها بهذه التقنيات، لذلك تصاعد الإقبال عليها؛ فوفق تقديرات سابقة بلغ حجم مبيعاتها أكثر من 40 طائرة لحوالي 10 دول إفريقية سنة 2019. وشملت كل المناطق، بالغرب الإفريقي؛ حظيت النيجر وبوركينافاسو ومالي بنماذج منها، كما السنيغال وتشاد عام 2022. وبالشرق الإفريقي، استخدمها الجيش الأثيوبي في حربه ضد متمردي التيغراي، كما حرصت الصومال وجيبوتي على الحصول عليها وإدماجها في منظومتها الأمنية.
واليوم، يبدو أن العلاقات التركية الإفريقية أثمرت نجاحا وشراكة ممتدة بينهما، والظاهر بأن أنقرة نجحت في ترسيخ علاقات ودية مع الدول الإفريقية، لكن يبدو أن هذه النجاحات لم تكن لتمر دون تضييق أو في أقصى تقدير بمتابعة من منافسيها.
حددت وزارة الخارجية التركية في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية بأنها تهدف لتعزيز السلام والأمن الإقليميين، وهنا تتحدد مكانة الدور الأمني التركي بإفريقيا. قد تبدو مسارات التعاون الأمني والعسكري محورية لأجل ذلك، غير أن تركيا لا تغفل محاولاتها لإرساء دعائم الاستقرار بالمنطقة، وإن كانت تعتبر مهمة عصية، تؤكدها التطورات المتلاحقة، ومحدودية أدوار المؤسسات الإقليمية والقوى الدولية.
ورغم ذلك، تراهن الدبلوماسية التركية على حضورها المتميز بالمنطقة بتقديم عروض للوساطة في الملفات الإقليمية الشائكة؛ فقدمت مقترحا للوساطة بين اثيوبيا والصومال على خلفية تصاعد الخلاف بينهما بعد توقيع أديس أبابا مذكرة تفاهم مع جمهورية أرض الصومال تكفل لها ميناءا بحريا ومنفذا على البحر الأحمر. قبل ذلك، قدمت عرضا للوساطة بين طرفي النزاع السوداني، كما أعلنت سابقا استعدادها للوساطة بين اثيوبيا والسودان في صراعهما الحدودي بمنطقة الفشقة، وغير بعيد عن القضايا الشائكة بالمنطقة، كما قدمت رؤية للتوسط بين مصر واثيوبيا حول أزمة ملف سد النهضة.
رغم حجم هذه المبادرات الدبلوماسية، إلا أنها تؤكد محدودية الدور التركي في شرق القارة، إذ من الصعوبة بمكان تقييم حضورها الإقليمي؛ فأغلب الأنشطة العسكرية واتفاقيات التعاون لا تزال في بداياتها. علاوة على ذلك، يتأكد بقوة حجم المنافسة الإقليمية والدولية للتحركات التركية، يجسده تنوع المبادرات الإقليمية والدولية للوساطة وللتعاون وتعزيز الاستقرار بالمنطقة، باعتبارها إحدى مناطق الاشتباك العالمية لإعادة ترتيب معالم النظام العالمي.
وفي ذات المسار، يتأكد بأن النجاحات اللافتة التي حققتها الطائرات التركية عالميا، وبالقارة الإفريقية من جهة الإقبال عليها، وصفقات التزويد المتزايدة بمختلف الأسلحة التركية، تؤازرها النجاحات التي حققتها الجيوش الإفريقية في مجابهة خطر الجماعات المسلحة بالاعتماد على التسليح التركي، كلها عوامل تؤكد قوة النفوذ التركي ودوره الأمني، لكنها لا تخفي حجم التحديات التي تواجهها الرؤية التركية لتعزيز الاستقرار بالمنطقة. فتراوحت بين انتقادات للتدخلات التركية بليبيا، وصلت ذروتها باتهام فرنسي بتهديدها المباشر للأمن بالمنطقة بعد دعمها للحكومة الليبية، واتهامات بانتهاك الحظر الأممي للأسلحة على ليبيا، والتوجس من أدوارها بغرب إفريقيا. كما تضاعفت الانتقادات خلال دعمها للقوات الاثيوبية، واتهامها باستخدام الطائرات التركية ضد المدنيين، وتجددت ذات المزاعم بعد توقيع الاتفاقية التعاونية الصومالية-التركية، رغم تأكيد الرئيس الصومالي بأن الاتفاق لا يتضمن أي غرض عدائي تجاه إثيوبيا.
لئن كان من السهل اعتبار هذه الاتهامات مجرد محاولات للضغط على صانع القرار التركي، لكن من غير المرجح التكهن بسيرورة الأحداث ومسار التحالفات بالمنطقة، لاسيما مع حدة التنافس وقوة الاستقطاب، وتصاعد حدة الأعمال العدائية بالبحر الأحمر، ومعها صعوبة التكهن بالقدرة التركية على تطوير عروضها الأمنية لمواكبة هذه التحولات. غير أن المؤكد بأنها ستواصل تحركاتها بالاستناد على عرضها الأمني، في تناغم مع أدوارها الاقتصادية والسياسية، بهدف تعزيز نفوذها بالمنطقة على قاعدة استمرار توقيع الاتفاقيات، وتعزيز المبادلات وترسيخ التعاون، وحضورها كشريك استراتيجي للدول الافريقية.
بالنهاية، تواصل تركيا السعي لتعزيز نفوذها في القارة السمراء، ويحظى الشرق الإفريقي بتقدير خاص، فاستثمرت الحاجة للأمن لتعزيز شراكاتها، وفق رؤية وأدوار أمنية محورية لتعزيز الاستقرار بالمنطقة. لكن بقدر ما تجتهد أنقرة في مسيرتها، فتحاول تقديم نفسها شريكا استثنائيا مختلفا عن الآخرين، بقدر ما يتأكد أنه من الصعوبة الجزم بنجاحها في مهمتها، مادامت العلاقات الدولية قائمة على المصالح والتنافس، ومادام تحقيق الأمن والاستقرار رهين بتعزيز القدرات المحلية، أكثر من الرهان على المساعدات الخارجية، غير أن تركيا نجحت في محطات كثيرة في كسب رهانات الحضور المحوري، بدبلوماسية ناعمة ودعم سياسي وعسكري فعال لشركائها.