الجمعة 22 نوفمبر 2024
أول مجموعة شعرية كامل للشاعرة ورسن شيري والموسوم بــ (تَبارَكتْ الابنة التي ترعرعت مع صوت ينبع من رأسها) هو أشبه بص من أجل الأحزان المكتومة. تتناول قصائد هذا الكتاب مجموعة من الموضوعات؛ ابتداءً بقضايا الصحة العقلية في مجتمعات المهاجرين، ومرورا بفشل التثقيف الجنسي، وانتهاءً بقتل البنات. تخلق المجموعة بيئة لشاعرة شابة تُرخي سمعها منصتة للفضائح ولانتهاك الحرمات، وتخطو دون سابق إنذار لأسرار البيوت وأحلام المهاجرين المنقولة بلغة خاطئة. يبدو الأمر كما لو أن الشاعرة الشابة تكشف عن صوتها في هذه الشهادة غير المصرح بها ليس بوصفها شاعرة تكتفي بالتحديق بل إنها تسمِّي وتخاطب ما تحدق فيه.
ورسن شيري شاعرة بريطانية من أصل صومالي، ولدت في نيروبي ونشأت في لندن، هي أصغر أعضاء الجمعية الملكية للأدب سنّا، وهي أيضا معروفة على نطاق واسع بتعاونها مع بيونسيه. ورسن شيري كانت من أوائل الشعراء الذين اشتهروا بظاهرة "قصيدة البوب" أو "أشعار الإنستغرام" التي يتم فيها عرض مقاطع فيديو قصيرة لقصائد يُلقيها أصحابها بأنفسهم أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تقتبس شعرًا بليغًا، وعلى الرغم من ندرة تواجدها على الفضاء الإلكتروني إلا أنه لا يزال هناك شغف غير مشبع بشخصيتها على الإنترنت كما يتضح من حقيقة أن معظم مراجعات كتابها الجديد هي ملفات تعريف عنها وليست مشاركات نقدية في عملها. نشرت ورسن شيري قصائدها لأول مرة في عام 2011 في كُتيب بعنوان (أعلم أمي كيف تَلد). ولكن مع هذه المجموعة يدخل شعرها مرحلة جديدة أكثر نضجا تكون خلالها القصائد أكثر طولًا وإبداعًا بحيث لا يمكن استيعابها بسهولة عبر تعليق في الإنستغرام.
إحدى الثيمات التي تتميز بها موضوعات قصائد هذا المجموعة الشعرية تتمثل في تمجيد العزلة أو الوحدة الصامتة التي ابتليت بها حياة المهاجرين. هناك شعور بالوحدة لدى أولئك الذين لم يتعلموا أبدًا كيف يتركون العالم خلفهم. تحمل إحدى القصائد عنوانًا لافتًا إلى حد ما؛ "وحدتي تقتلني"؛ والتي تجسد الشعور بالوحدة التي تنقلها الذكريات الحزينة لرجل صومالي مسن يعيش في لندن، تراقب الشاعرة خالها بعد ظهر يوم ممطر وهو يدخن بكثرة ويشرب الشاي الصومالي المُركَّز ويتذكر طفولة قضاها على شواطئ وشوارع مقديشو على أنغام حسن آدم سمتر، وكأنه بانتظار إشارة ما.. يبدأ المقطع الشعري بعبارة "cidlada ka adkaw، Abti" والتي تأتي بمعنى: "تغلب على شعورك بالوحدة يا خالي"، لا يتم إنكار الشعور بالوحدة هنا وإنما هناك محاولة لتخفيف سطوته.
في أجزاء متفرقة من المجموعة يتم تعقب هذا الشعور المؤلم بالوحدة، شعور مكتوم رغم أنه إحساس مشترك وحميمي وعائلي وجسدي ويلتصق بالجلد مثل بعوض الرياح الموسمية. على سبيل المثال؛ تتميز مرحلة الصبا أولا وقبل كل شيء بالوحدة الشديدة التي كانت ثمرة إدراك طارئ قبل أوانه ولغة تم اكتسابها بعد فوات الأوان، تبدأ قصائد المجموعة بقصيدة عنوانها "أنوثة طاغية" تدور أبياتها حول ما يعنيه العيش في عزلة صاخبة مع أنوثة مجهولة، قصيدة "فتيات أبو بكر مختلفات" تصور العنف الصامت الذي ترى الفتيات من خلاله ذواتهن بشكل يجعل وجودهن دائما موضع إشكال وغالبا غير مرغوب فيه. في القصيدة؛ تراقب الفتيات بعضهن البعض ويصبحن واعين بأجسادهن المتغيرة وكيف أن العالم من حولهن يحتوي على مثل هذه الأجساد ويقوم بضبطها، المقطعان الأخيران يصوران ختان البنات ويستحقان الاقتباس كاملاً:
"بعد العملية.. تتعلم الفتيات كيفية المشي مرة أخرى..
حوريات بحر بسيقان جديدة وركب ناعمة تنثني تحتها..
أجسادهن خام وبلا خطيئة.."
"نستلقي في السرير بجوار بعضنا..
نحن نحمل المرايا فوق فتحات تنانيرنا..
نقارن الجروح.."
تمثل هذه السطور غير العادية ما استعارته ناتالي دياز من بيرغر بخصوص رمزية الجسد التي تتجاوز الجسد قبل أن يتمكن من تسمية ذاته ويصبح محدودًا بالمكان المشار إليه، شعر ورسن شيري يجسد حيرة الأجساد التي تعيش في الحد الفاصل بين الإدراك والتسليم. في قصيدة "تبارك عقل ميمونة" يتم وصف مضادات الإكتئاب لامرأة عالقة بين عالمين وتبدو غير مرئية لكليهما. حين تكون في البيت يذكرونها "كم هي مباركة، ومدى فخرهم بها، وكيف أن جميع آمالهم معقودة عليها". وقام الأطباء في المستشفى بزيادة جرعات علاجها نظرا لعجزهم أو ربما لعدم رغبتهم في التعمق فيما وراء الأعراض، تفشل اللغة هنا في إطلاق المسمى المناسب لما يحدث، تواصل الإنصات: "هي تتخيل أنها ستموت هنا وحدها بعيدا عن البيت."
تكون ورسن شيري في أفضل حالاتها حين لا تغالي في التوضيح ولكنها تتراجع وتثق في قرائها لاتخاذ قفزة تفسيرية، من الأمثلة الرائعة على ذلك قصيدة "تبارك هذا البيت"؛ وهي قصيدة كوميدية سوداء تقوم بتوظيف العبارات المتداولة في الثقافة الشعبية - "هل ستأكل ذلك؟" و "يا لهذا الشيء القديم" - للتأمل الحانق على انتشار العنف المنزلي وثقافة الاغتصاب. في القصيدة؛ يتم تمثيل النظام الأبوي كشكل من أشكال التحفيز على الموت حيث يمارس الرجال العنف على النساء كوسيلة لتدمير الذات، تنتهي القصيدة بـهذا المقطع:"في الحفلات أشير إلى جسدي وأقول / يا لهذا الشيء القديم؟ هذا هو المكان الذي يقصده الرجال ليقضوا نحبهم".
لكن في بعض الأحيان تبدو أمارات الحيرة والارتباك عندما تصبح النغمة وعظية أكثر والشكل أقل إبداعًا. على سبيل المثال؛ قصيدة "البيت" هي إحدى أكثر أشعار ورسن شيري انتشارًا، وعلى الرغم من شعبيتها والعاطفة الجارفة التي تصور من خلالها الهجرة القسرية والمسيرة الغادرة إلى الملجأ إلا أن القصيدة تعاني من السطحية، ومن الصعب استساغة قصائد تعالج موضوعات حساسة كقصيدة "الأم ليست بيتا" التي لا تستقطر الحقيقة رغم عبقريتها اللغوية التي تجعل عيني القارئ تتلألأ لدرجة التخدر بالنص. إن ميل ورسن شيري للإيغال في الشرح يجعل القارئ يتساءل من هم بالضبط جمهورها المتخيل أو المستهدف، هناك قدر هائل من الترجمة والتمازج اللغوي في هذا المجموعة الشعرية، وغالبا ما تتم ترجمة الكلمات والعبارات غير الإنجليزية في القصيدة، وفي الحالات القليلة التي لا تُتَرجم فيها هذه الكلمات يتم توفير الترجمات في ملحق في نهاية المجموعة. إن الإصرار على الترجمة بالإضافة إلى كتابة العبارات غير الإنجليزية مائلة لتمييزها بصريًا على أنها "الآخر" لغويا لا يلفت الانتباه فحسب ولكنه أيضا قد يشي بنوع من الرضوخ لنظرة القارئ الأبيض (وربما لمطالب الناشر الأبيض)، الترجمة اللغوية في هذا السياق لا تمثل سوى إحدى جوانب الترجمة الثقافية المطلوبة من شاعرة تنتمي لأقلية عرقية.
ولكن كيف يمكننا إعادة تقييم سياسات الترجمة عندما تقوم الشاعرة بموضعة ذاتها في مساحة بينية بحيث تصبح الترجمة اللغوية والثقافية إلزامية للمضي قدما في الحياة اليومية؟ في نص ورسن شيري؛ تصبح الكوميديا السوداء وسيلة للتعبير عن صراع يسعى للمواءمة بين متطلبات غير متكافئة للانسجام مع ثقافات متعارضة في وقت واحد، انظر مثلا لقصيدة "تبارك النهم" حيث تسأل الشاعرة ربها الغفران لاضطرابها في الأكل: "سامحني أرجوك / المجاعة هناك في الوطن"، الفكاهة السخيفة هنا والمتمثلة في رسم أوجه التشابه بين الإستفراغ القسري للطعام من جسدها وموت الناس جوعا في وطن الأجداد برهان واضح على مزالق الترجمة، ونتيجة لذلك فهي عاجزة عن التعاطف مع الذات أو التعرف على النهم المرضي باعتباره اضطرابا طبيا مشروعا على وجه التحديد لأنها تراوغ فيما لا يقبل القياس، لذا فالترجمة هنا هي في آن واحد عرض مرضي وبلسم علاج لانفصام تولد من الغربة وتجسد في اللغة.
تتحدث ورسن شيري في لقاءاتها الإعلامية عن هيمنة الشعر في مجتمعها الصومالي في لندن، بيد أن هذا التأثير - على الأقل في مستوى الشكل - غير قابل للتمييز تقريبا في أشعارها التي لا تجمعها أي خصائص شكلية مع التقاليد الشعرية الصومالية حيث الالتزام الصارم بقواعد عروضية تتعارض بشكل حاد مع أسلوب "تيار الوعي" الذي يميز قصائدها. في الواقع فإن شعرها الحر أكثر تشابها مع نمط الحكايات الصومالية، وهو تقارب يعترف به هذه المجموعة الشعرية نفسها في استحضاره للمغنين الصوماليين العظماء مثل: حسن آدم سمتر وماغول بدلا من هدراوي أو حسن شيخ مؤمن.
بغض النظر عما سبق؛ فإن قصائد هذه المجموعة الشعرية تشتمل على ما يثير اهتمام محبي ورسن شيري والمتشكّكين حيالها. هناك حقيقة معينة لا تتزعزع في شعرها وهي أنه يتسم دائما بالجرأة، ومجموعة (تباركتْ الابنة التي ترعرعت مع صوت ينبع من رأسها) هي عرض لطيف للمصابين بالنهم، والوحدة، والحنين إلى الوطن، والاكتئاب، والمنبوذين، والمهمشين، وذلك بصورة تعبر عن قدر كبير من الجرأة في موهبة ربما تشكلت للتو.
فرح بكاري
ترجمة: فريق التحرير من موقع Africa Is a Country