الخميس 14 نوفمبر 2024
صادقت جنوب السودان على الاتفاقية الاطارية للتعاون في حوض النيل المعروفة باسم "اتفاقية عنيبتي" ايدانا بدخولها حيز النفاذ، لتحمل مؤشرات على بداية جديدة لتوزيع مياه النيل، تُنهي الحصص التاريخية لمصر والسودان، فتؤسس لتوزيع عادل ومستدام لها، وفق مبادئ هذه الاتفاقية. لكن ذلك في المقابل سيشكل هاجسا لاستمرار الرفض المصري والسوداني لها، مع اختلاف في المقاربات؛ مع الدعوة لرفضها ولمقارعتها قانونيا، بمبرر خرقها للاتفاقيات التاريخية الخاصة بمياه النيل، وبين انتظارات دول الحوض للمصادقة والعمل بها لتعزيز التعاون المستدام.
أعادت الاتفاقية إحياء الخلافات بين دولتي الممر والمصب مصر والسودان وباقي دول حوض النيل حول ما تعتبرانه حقهما العادل والتاريخي في حصة محددة، وفق اتفاقيات سابقة، وبين إقرار باقي دول الحوض التوزيع العادل للموارد المائية. بذلك تؤسس هذه الاتفاقية لواقع جديد يتقاطع بين رؤية قانونية؛ أرست الاتفاقية دعائمها ومبادئها، وبين رؤية سياسية؛ تستند على تجاوز مقتضيات الحقوق التاريخية.
حاولت الاتفاقيات الدولية تحديد حقوق وواجبات والتزامات الأطراف المنتفعة من الأنهار الدولية، وتدبير توزيع المياه العابرة للحدود في القانون الدولي إدارة وتقسيما واستفادة، غير أن الأعراف الدولية رسمت وضعا قانونيا معقدا، اختلف الفقهاء حوله اتجاهات فقهية عدة، أهمها نظرية الملكية المشتركة.
شكل إقرار اتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية المعروفة ب"اتفاقية المياه" لعام 1992، ثم اتفاقية "قانون استخدام المجاري المائية في الأغراض غير الملاحية" لعام 1997، والتي دخلت حيز النفاذ 2014، تحولا محوريا في مقاربة إشكاليات المياه في القانون الدولي. فجاءت هذه الأخيرة تقديرا لجهود محورية من لجنة القانون الدولي للأمم المتحدة لتدوين قواعد القانون الدولي للمجاري المائية الدولية، واستندت على مبادئ قانونية تقضي بالإدارة المستدامة للمياه العابرة للحدود، وتوزيع المياه على أساس المساواة والمعاملة بالمثل والتعاون المشترك المستدام للأجيال الحالية والمقبلة، ما جعلها إطارا مرجعيا قانونيا للاتفاقيات الدولية.
تراهن الأمم المتحدة لحل النزاعات الدولية على هذه الاتفاقية بقوة لتوزيع مياه الأنهار، وإقرار مبادئ الانتفاع المشترك المنصف والتعاون بين دول المجرى المائي، غير أنها لا تحظى بالقبول دوليا. كما أنها لم ترسم نهاية لأزمات عديدة، مثل أزمة حوض النيل وحوض نهري دجلة والفرات.
قصد تدبير توزيع مياه أحد أطول الأنهار في العالم، نهر النيل، الممتد برافديه الأبيض ومنبعه منطقة البحيرات الكبرى والنيل الأزرق من إثيوبيا، ويغطي حدود إحدى عشرة دولة (إثيوبيا وإريتيريا وأوغندا وبوروندي وتنزانيا وجنوب السودان ورواندا والسودان والكونغو وكينيا ومصر)، تشكل دول حوض النيل، عقدت اتفاقيات عديدة لتقسيم حقوق المياه بين دول الحوض، ارتبطت بمرحلة الاستعمار؛ فقد أبرمت بريطانيا وإيطاليا بروتكول روما عام 1891 لتحديد مناطق نفوذهما. وتعززت باتفاقيات أخرى، أهمها: اتفاقية 1929 الموقعة بين مصر وبريطانيا (وقعتها هذه الأخيرة نيابة عن مستعمراتها السودان وأوغندا وتنزانيا)، وأكدت على الالتزام واحترام حقوق دولتي السودان ومصر المائية.
أعقب ذلك اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، بعد استقلاله، والتي تبقى مكملة لاتفاقية 1929، بإقرارها أحقية مصر والسودان في نسبة 90 ٪ من مياه النيل، مشفوعة بحق النقض الحصري لهما على بناء المشاريع للتحكم بالموارد المائية على مجراه، فنصت على تحديد حصة مصر في 55.5مليار متر مكعب سنوياً، وحصة السودان بـ 18.5 مليار متر مكعب، غير أن هذا التوزيع التاريخي سيصبح محط نقاش من قبل بقية دول الحوض، وستعارض دول المنبع هذا المقتضى لاسيما بعد استقلالهما.
شكلت هذه الاتفاقيات السند القانوني لدولتي الممر والمصب لحماية حقوقهما المائية التاريخية، وتعد نقطة الخلاف الأساسية بينها وبين دول المنبع. بغية تجاوز هذه العقبة، بدأت مفاوضات بين دول حوض النيل، لإعادة توزيع وتعزيز التعاون المشترك بينهما، وانتظمت في مبادرة حوض النيل.
تأسست مبادرة حوض النيل 1999 في تنزانيا لتحقيق التعاون والتكامل الاقتصادي المشترك، وكانت آلية انتقالية إلى أن يتم وضع إطار نهائي للتعاون بين دول حوض النيل، وتوجت بمبادرة للتعاون المشترك في 14 ماي/أيار 2009 بأوغندا، بدعم من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ونص ميثاقها على تطوير نهر النيل، وتنمية موارده المائية بطريقة تعاونية، وتسعى لإعادة تنظيمها على قاعدة اتفاقية.
تطلّب تنظيم مبادئ توزيع الحصص المائية من لجنة الخبراء العمل الذؤب ثلاث سنوات (1997 إلى 2000) للتوافق حول اتفاقية للمبادئ والحقوق والالتزامات بين دول الحوض، غير أن النقاش احتدم خلال التفاوض على تدوين هذه الاتفاقية، فانسحبت القاهرة مُصرة على الاحتفاظ بحقها التاريخي.
لتقريب وجهات النظر بين دول الحوض، اجتمع المجلس الوزاري لدولها بالإسكندرية، غير أن الخلافات امتدت بعد محاولة دول المنبع فرض إقامة "مفوضية لحوض النيل" دون مساهمة دولتي الممر والمصب. وبعد أشهر من المفاوضات تم التوافق على الاتفاق على الاتفاقية الاطارية، فوقعت عليها خمس دول بمدينة عنتيبي في أوغندا، في ماي/أيار 2010. وأمام رفض مصر والسودان التوقيع عليها، ولتحقيق الإجماع حولها أمهلتهم دول المنبع عاما قصد الانضمام. وبعد أربع سنوات من الانتظار بدأت عملية التوقيع عليها، أعقبتها عملية التصديق، لكنها تأخرت في انتظار تحقق تصديق ستة دول، باعتباره شرطا لدخولها حيز النفاذ، وقد شكل التوقيع الأخير لجنوب السودان بداية دخول حيز النفاذ.
نصت الاتفاقية على التوزيع العادل للمياه، واستندت على مبدأ ضمان الأمن المائي لتحقيق المنفعة العامة لدول الحوض، وعززت هذا المبدأ بحق كل دولة في استخدام مياه النيل داخل أراضيها، دون أن تتجاوز الخلافات حول الحصص المائية لدولتي مصر والسودان، فامتدت المفاوضات دون توقيع البلدين على الاتفاقية.
باستكمال النصاب وإيداع الاتفاقية لدى الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، أعلن عن الشروع في تطبيقها، وستدخل حيز النفاذ بعد ستين يوما من تصديق الدولة السادسة عليها، ويتوقع تدشين "مفوضية دول الحوض" التي ستتكفل بتنظيم وإدارة المياه بين أعضائها.
بالرغم من الجهود والتوافقات الممتدة لوضع إطار قانوني لتوزيع مياه النيل، فان الاختلاف الجوهرية بين مواقف بلدان الحوض حولها، تتطور إلى اعتبارات سياسية أكثر من مقاربة قانونية تفسيرية لمقتضيات الاتفاقية، فيتقوى صراع الإرادات المتناقضة لهما، ليغيب مبدأ المصلحة المشتركة لجميع دول الحوض.
تحاول الاتفاقية إعادة تحديد حصص دول الحوض من مياه النيل، وتستند على التوزيع العادل، كما تتوقف على رؤية لإعادة ترتيبه، بما يعني عدم الاعتراف بالحصص التاريخية لدولتي الممر والمصب. ويعتبر بأنها لا تتسق مع مبادئ القانون الدولي والممارسات الدولية المثلى لتدبير هذه الموارد، لاسيما الإفريقية بحوض نهر الزامبيزي والسنغال مثلا، ومخالفتها لمقتضيات حكم صادر عن محكمة العدل الدولية؛ الذي يعتبر بأن اتفاقيات المياه تتمتع بنفس الحصانة القانونية التي تتمتع بها اتفاقيات الحدود، ليؤكد البلدان بأن هذه المقتضيات الجديدة تهديد لأمنهما، وتراجعا عن تعهدات الاتفاقيات السابقة، فيما تحاجج إثيوبيا وباقي دول الحوض بأنها مجرد مخلفات استعمارية.
لقد برز الصراع المائي بين دول المنبع خاصة إثيوبيا مع دولتي الممر والمصب السودان ومصر، وارتبط في السنوات الأخيرة بالخلاف حول سد النهضة الإثيوبي الكبير الذي دشنته أديس أبابا عام 2011، فهي تعتبر المشروع ضروريا للتنمية، وتزويد السكان بالكهرباء. بينما تراه القاهرة والخرطوم تهديدا لأمنهما المائي وحصتهما المائية، بعد فشل مفاوضات حول هذه الأزمة بين البلدين. ناهيك عن مخاطره البيئية والاقتصادية والاجتماعية، وبين هذا وذاك تتعاظم مخاوف الخبراء من انهيار السد لوقوعه في منطقة معروفة بنشاط زلزالي وانجرافات للتربة.
تصاعدت الأزمة المصرية الإثيوبية على خلفية تخوفات مصرية من انخفاض حصتها المائية، بسبب سياسة ملء السد النهضة، ما يجعل ملف النيل من الملفات الشائكة بين البلدين. وتغذي ذلك تقديرات بصراع على النفوذ بين البلدين في شرق القارة، وهذا ما تؤكده عودة القاهرة إلى المنطقة من بوابة التعاون المصري الصومالي. فضلا عن توقيع الاتفاق الثلاثي المصري الصومالي الأريتيري للتعاون والتنسيق الاستراتيجي المشترك، خلال الزيارة الأخيرة للرئيس المصري للعاصمة الإيرتيرية.
يحاجج الطرفان بأن مقتضيات اتفاقية عنتيبي مخالفة للتعاقدات السابقة، ولم تؤسس على التنسيق والتعاون معهما، ويجددان الدعوة لأديس أبابا إلى عقد اتفاق جديد معهما، بما يضمن استمرار تدفق حصتهما، وتنظيم تشغيل السدود وعلى رأسها سد النهضة. فقد صدر بيان مشترك بين مصر والسودان أعلنا التزامهما بالتعاون مع دول حوض النيل، لكنهما اعتبر الاتفاق الإطاري للتعاون في حوض النيل غير ملزم لأي منهما، لمخالفته مبادئ القانون الدولي، وعدم انضمامهما للاتفاق.
تتعلق أزمة النيل أساسا باستخدام مياه النيل بشكل منصف وعادل بين دول حوض النيل، وبدخول الاتفاقية حيز النفاذ، تعود للواجهة إشكالية مستقبل حقوق دولتي الممر والمصب. فدول المنبع تعتبر أن الاتفاقية لا تعد إلا تصحيحا للاختلالات التاريخية، التي كانت تضمن حصصا حصريا تاريخية لكل من السودان ومصر، وتلزم الدول بشرط الإخطار المسبق لهما خلال إنشاء السدود والمنشئات على خط النهر.
سيخلق دخول الاتفاقية حيز النفاذ واقعا جديد، لا يمكن للبلدين أن يتجاهلاه مطلقا. وهذا ما سيؤكد إنشاء مفوضية حوض النيل، ما يعزز مخاوف البلدين من التأثير السلبي على حصصهما، نتيجة تجاوز حقوقهما التاريخية غير قابلة للتعديل والتجاوز، والتي لم تلتزم بها هذه الاتفاقية.
ترفض مصر ما تعتبره إجراءات أحادية، وقد سبق لوزير الموارد المائية والري أن اعتبر بأن هذه المستجدات قد قسمت دول حوض إلى ثلاث مجموعات؛ دول أعالي النيل ودول شرق النيل ودولتي الممر والمصب، داعيا إلى تجاوز هذا الاستقطاب بمراجعة بنود الاتفاقية.
تدعو مصر والسودان إلى إعادة التفاوض حول الاتفاقية، والتوافق على مبادئ جديدة تضمن حقوقهما، مع الالتزام بالتعاون والتقسيم العادل لموارد مياه النيل، فجدد البلدين الدعوة لإعادة اللحمة، وتجاوز الانقسام بين دول المنبع وغيرها.
ختاما، يتأكد بأن المصادقة على اتفاقية عنيبتي سيساهم في تأسيس "مفوضية حوض النيل" كألية لتنفيذ مقتضياتها، وتحقيق هدفها الأساسي للتعاون بين دول حوض نهر النيل لإدارة موارده وتحقيق تنمية متوازنة مستدامة. لكن التكهنات تنذر باستمرار النزاع حول توزيع مياه النيل، مما يؤكد الحاجة الماسة لمفاوضات جديدة تصحح الاختلالات الحالية، وتحديد ملامح إطار قانوني ومؤسساتي شامل لجميع دول الحوض.