الخميس 21 نوفمبر 2024
يدافع الفيلسوف الأمريكي ريتشارد شوسترمان عن الموسيقى السائدة شعبيا حيث يرى أن نعتها بالابتذال ليست سوى محاولة من قبل النخبة للنأي بنفسها عن الجمهور، وقام بتفنيد معظم انتقاداتهم لها(كالزيف والسلبية والسطحية وعدم الاستقلالية وضعف الإبداع) محتجا بأن مقاربتهم للفن شكلية وليست وظيفية.
يوصي ريتشارد شوسترمان بمعايير جمالية واسعة بما يكفي لتأييد البعد الوظيفي لكل شكل فني لأن النخبة تعتمد معايير تقدم منظورا محدودا لطبيعة الفن وقيمته على الصعيد التاريخي مستقاة من أفكار أدورنو وروجر سكروتون وجوليان جونسون، ويجادل بأن الشكل الموسيقي يجب أن يكون متجذرًا في “إيقاعات الجسم العضوية” والظروف الاجتماعية التي تجعله ذات مغزى. الهيكل الأساسي للموسيقى الشعبية يكمن في إيقاعاتها الجسدية لذا فإن الحركة ضرورية لتقديرها، ويوضح شوسترمان بأنه من الصعب فهم الادعاء القائل بأن الموسيقى الشعبية “زائفة” انطلاقا من مقدمة مفادها أن الرضا الذي تورثه لجمهورها ليس حقيقيا (ما هو معيار التمييز بين الرضا الحقيقي و الغير حقيقي؟)، بينما يرتكز الإدعاء بسلبيتها وسطحيتها على زعمهم بأنها لا تحرضك على الغرق في تفكير عميق نظرا لأن فلسفة الجمال لديهم تشدد على الارتباط الفكري بالفنون أكثر من الارتباط العاطفي، وكأن التفكير بعمق هو اللعبة الوحيدة المتاحة للعقل والنشاط المشروع الأوحد لأي شيء ذي قيمة.
الإدعاء بأن الفن الشعبي الجماهيري يفتقر إلى الاستقلالية تولد من رؤية نخبوية مضللة تفصل بين الفن والحياة، وترى بموجبه أن الفن الشعبي تحول إلى أداة للترفيه بينما الفن الحقيقي ينبغي ألا يصبح أداة للترفيه لأنه ليس وسيلة لإشباع احتياجات إنسانية تتعلق بالترويح والتسلية عن النفس، لدرجة الزعم بأن قيمته الجمالية تزداد ورأس ماله الرمزي يتعاظم كلما تعالى عن الواقع وانفصل عنه! وبالنسبة للكلام عن ضعف الإبداع الذي يرتكز بدوره لدى فريق من النخبة على التشديد على الأصالة فيشير شوسترمان إلى أن هذه التهمة كانت تلاحق أعمالا فنية كانت تُعتبر “مبتذلة” لرواجها في عصر مبدعيها قبل أن يتم تصنيفها إلى بند “الفن الراقي” بعد وفاة أصحابها بعقود طويلة، وضرب مثلا على ذلك بمسرحيات شكسبير. ختاما شوسترمان لا يًنكر أن الفن الشعبي عموما بحاجة إلى تطوير لكنه يرفض إدانته على الرغم من أصابع الاتهام التي توجهها النخبة له بوصفه تجليا لانتشار “الرداءة الثقافية” في صورة تراجع معدلات قراءة الكتب الجادة واستيعاب النصوص الأدبية والاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية.
شوسترمان أوضح في كتابه (براغماتية الجماليات.. إعادة التفكير في الفنون) تفاصيل نظرته للفنون والتي تُعتبر امتدادا لأفكار الفيلسوف جون ديوي – رائد المدرسة البراغماتية في الفكر والتربية بأمريكا – والذي انتقد تزمت النخبة في نظرتهم للفنون وإهمالهم لجانبها الاجتماعي والجسدي بصورة تحول دون إعادة دمجها في تيار الحياة اليومية المتغير.
من أبرز النماذج الواقعية على وجاهة منظور شوسترمان أعلاه هو موسيقى الهيب هوب التي غدت تضع الكثير من الضغط على المفهوم التقليدي للجماليات نظرا للإطار الثقافي الضيق لما تركز عليه من موضوعات وميلها لمعارضة الرأي الأخلاقي السائد، المفهوم التقليدي للجماليات الذي أرساه الفيلسوف ديفيد هيوم تشكل في سياق تاريخي معين ويحمل ميراث عصر التنوير، ملكة الحكم الجمالي لديه لا بد أن تراعي الطبيعة الإنسانية وثقافة الحس المشترك ليكتسب العمل الفني قيمة تؤهله لتهذيب عواطف الإنسان وعقلنة انفعالاته، وبهذه الصورة تتوفر للذائقة الجمالية معيار حكم كلي توجهه مشاعر وجدانية عميقة وتصقله خبرة ومعرفة واسعة تمكنها من تمييز ما هو جيد ورديء في عالم الفنون بعيدا عن التحيزات.
التحدي الذي يمثله الهيب هوب في هذا السياق هو أنه يمثل شكلا فنيا لا يهدف لجذب الجمهور العام بقدر سعيه لتأكيد منظور مهمل للعالم يتم تقديمه من قبل أقلية مضطهدة، هذا المنظور يطلق عليه بعض علماء الاجتماع مصطلح “رؤية ثانية” يكتسب خلالها فن الهيب هوب قيمته من خلال صراعه مع الآراء الأخرى بصورة تكشف للناس الكثير عن أنفسهم.
تُفصح موسيقى الهيب هوب عن وظيفة جديدة للفن حيث تجبر أصحاب الامتيازات على التفكير في السبب الحقيقي الذي يقف خلف امتيازاتهم، تحقيق العظمة الجمالية من خلال تحدي المعيار الأخلاقي السائد هو أمر لم يتخيله ديفيد هيوم على ما يبدو، قد يجادل البعض بأن الهيب هوب هو مجرد “دعاية” لكن الحقيقة هي أن جميع أشكال الفنون تعبر عن منظور ما للحياة وتريدك أن تتماشى معه، السؤال هنا هو لماذا يجب أن نطبق معيارًا أخلاقيًا قديمًا على موسيقى الهيب هوب وهو شكل فني لا يعكس اهتمامات الناس في زمن هيوم؟ من المهم إعادة النظر في الكيفية التي ننظر بها إلى الناقد المثالي للفن إذ لا ينبغي أن يكون الناقد المثالي للموسيقى الكلاسيكية هو نفسه الناقد الذي يحكم على موسيقى الهيب هوب، وكذلك لا ينبغي أن يكون الناقد المثالي لأغنية البوب العادية هو ذات الناقد لموسيقى الهيب هوب أيضا. من خلال الاعتراف بكل تقليد فني على أنه يهدف إلى تحقيق أهدافه الخاصة ، فإننا ننقذ أنفسنا من اختطاف الثقافة البيضاء لعالم الفن كما هو الحاصل مع ديفيد هيوم.