الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
دعى الناخبون في السنغال، يوم الأحد 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، إلى صناديق الاقتراع في انتخابات تشريعية مبكرة، لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية البالغ عددهم 165عضوا لمدة خمس سنوات، وذلك بعد مرور ثمانية أشهر فقط على الانتخابات الرئاسية التي كانت من نصيب مرشح المعارضة، باسيرو ديوماي فاي، في الجولة الأولى بنسبة 54 ٪ من الأصوات.
تجرى هذه الانتخابات وفق نظام التصويت الموازي؛ الأغلبية ( 112 مقعدا) والتمثيل النسبي (53 مقعدا)، بعد بيان رئاسي، بتاريخ 3 سبتمبر/ أيلول الماضي، قضى بحل البرلمان الذي شهد، بحسب مسؤولين، عرقلة متكررة لبرنامج الحكومة، فالتعاون مع الأغلبية البرلمانية السابقة، كما جاء على لسان الرئيس، "لم يكن عمليا بل كان مجرد وهم".
تتنافس في الاقتراع 41 قائمة، وفق ما جاء في مرسوم المديرية العامة للانتخابات، تضم العديد من الأحزاب والائتلافات والكتل السياسية التي تسعى لتسجيل حضورها في المشهد السياسي السنغالي. تركيبة تكاد تكون شبيهة بآخر اقتراع، في 31 يوليو/ تموز 2022، حيث تنافست 47 قائمة، كان الفوز حينذاك من نصيب الائتلاف الرئاسي بفارق ضئيل عن منافسه، بعدما حصل على 83 مقعدا مقابل 80 مقعدا لتحالف المعارضة، فيما حصد التحالف الصاعد بقيادة عثمان سونكو؛ رئيس الوزراء الحالي، على 56 مقعدا.
احتدم الصراع مجددا بين مختلف مكونات المشهد الحزبي على الساحة السياسية في السنغال، مع قرب انتهاء الحملة الانتخابية، التي انطلقت منذ 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ومثّل تبادل الأدوار سمة طبعت هذه المحطة الانتخابية، فالنظام القديم تحوَّل إلى معارضة فيما أصبحت المعارضة السابقة في موقع الحكم والتدبير.
صنع هذا النزال الانتخابي المبكر خريطة تحالفات جديدة في المشهد السياسي، دشنتها أحزاب المعارضة الرئيسية بإعلانها، في 21 غشت/ آب الماضي، عن تشكيل تحالف قوى حزبية باسم "تاكو" ضد حكومة الرئيس باسيرو، ما حفز بقية الفرقاء على الاصطفاف بحثا عن تمثيلية وازنة في البرلمان.
يدخل الحزب الحاكم هذه المنافسة بتحالف "الوطنيين" (باستيف) بقيادة رئيس الوزراء عثمان سونكو، صاحب الشعبية الواسعة في أوساط الشباب والعمال، كسبتها من صداماته المتكرر ضد النظام السابق ما قاده إلى السجن، الطامح إلى تحقيق أغلبية برلمانية، تسمح له بتنفيذ مشروعه الإصلاحي في البلد.
يتزعم المعارضة تحالف "العزم والإنقاذ" (تاكو والو)، بقيادة الرئيس الأسبق ماكي سال، يؤازه سلفه عبد الله واد، الذي سعى مبكرا إلى رص صفوف القوى الحزبية الليبرالية ومعها أحزاب قديمة، طمعا في انتزاع تمثيلية وازنة في البرلمان المقبل، تمكنه من كتلة سياسية تأخذها الحكومة بعين الاعتبار في خططها الإصلاحية ومشاريعها المستقبلية.
مرشح الرئاسيات الأسبق أمادو باه؛ الذي كان آخر رئيس وزراء في عهد ماكي سال، يقود بدوره تحالف واسعا باسم "السلام والنجاح" (جام آك نجارين)، يستثمر فيه تراكمه السياسي منذ عهد الرئيس عبدو ضيوف، باحثا عن حضور في البرلمان، باستقلالية مطلقة وبعيدا عن مظلة رفيق دربه ماكي سال.
أخيرا، تحالف "الوفاء بالعهد" (سام ساكادو) يتزعمه عمدة مدينة داكار، بارتلمي جاز، بمعية طيف من القيادات السياسية الأخرى، على غرار المرشحة الرئاسية السابقة أنتا بابكر إنغوم، وبوغان غاي داني رجل الأعمال البارز في السنغال.
احتاج تحالف رئيس الوزراء عثمان سونكو وعبد الله واد إلى 3 نواب فقط من أجل الحصول على أغلبية مطلقة، بتحصيلها معا 80 مقعدا من أصل 165 عقب الانتخابات الرئاسية التي فرضت على القوى الحزبية داخل الجمعية الوطنية إعادة التموقع من جديد.
رغم ذلك، اختار عثمان سونكو المضي قدما بتنفيذ أجندته الحكومية، مراهنا على إمكانية دعم المعارضة لإصلاحاته. لم تكن تقديرات السياسي المخضرم في محلها، بعدما اختارت المعارضة بقيادة رموز النظام القديم التوحد ضده، بعرقلة مختلف المبادرات الحكومية التي تراها فيها قضاء على إرث النظام السابق.
أثار قرار تعزيز سيادة البلاد حفيظة المعارضة، بعد تشكيل لجنة قصد إعادة التفاوض بشأن العقود المرتبطة بالموارد الوطنية، مثل النفط والغاز والمعادن... بما يخدم مصالح الاقتصاد الوطني. يتوقع أن يقود النبش في هذا الملفات حتما إلى مسائلة الضالعين في الاختلاس وسوء التدبير، وتحدث صحيفة لوموند الفرنسية عن مصادر من داخل حزب ماكي سال أن النظام الحاكم سحب جوازات أكثر من 50 شخصا كانوا في مواقع المسؤولية سابقا.
استشعر النظام القديم خطوة الموقف، فأعلن النفير في صفوف أعضائه، لدرجة حرمان الرئيس ماكي سال من تقاعده السياسي، بعودته الاضطرارية إلى المشهد السياسي، في سابقة هي الأولى من نوعها في السنغال، بعد أشهر من مغادرة منصب الرئاسة، لقيادة ائتلاف المعارضة يضم حزبه "التحالف من أجل الجمهورية" و"الحزب الديمقراطي السنغالي" بقيادة الرئيس الأسبق عبد الله واد.
يدرك حزب باستيف من جهته قوة النزال، فرشح عثمان سونكو، ملهم الشباب وصاحب الكاريزما القادرة على الناخبين، لقيادة قائمة تحالف الوطنيين. حاول تحالف المعارض الاعتراض على الأمر بتقديم طعن إلى المجلس الدستوري لمنع ترشيح رئيس الوزراء، لكن المجلس رفض الطلب بمبرر أنه غير صادر عن إدارة الانتخابات التي لها الحق الحصري في الاعتراض على ترشيح الأشخاص. كما رشح أعضاء في الحكومة على رأس اللوائح المحلية لإدراكه مصيرية المواجهة.
قرار العودة إلى صناديق الاقتراع، من قبل الرئيس باسيرو فاي، غرضها الحصول على تفويض شعبي، يمنحه الوسائل المؤسسية التي تسمح لحكومته يتحول وعود البرنامج الانتخابي، من إصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية إلى حقائق على أرض الواقع. فحصول الحزب على الأغلبية في الجمعية الوطنية يعني القدرة على إحداث تغيير شامل في النظام السياسي، أو بلغة الرئيس "استحداث نسق جديد" يستجب لتطلعات المواطنين السنغاليين.
في المقابل، يختبر ماكي سال شعبتيه مجددا، فبعد خسارة حزبه النزال الرئاسي في 24 مارس/ آذار الماضي، في معركة ديمقراطية فريدة في غرب أفريقيا، يعود من جديد ليخوض بشكل شخصي النزال التشريعي ضد رئيس الوزراء، في ما يشبه جولة رئاسية مصغرة هذه المرة، بحثا عن معقد في البرلمان يؤمن له الحصانة من المتابعة أولا، كما يسعى أيضا إلى تقليص هامش المناورة لدى النظام الحالي ضده وضد رموز النظام السابق.
يصعب التكهن بما سوف تحمل نتائج الصناديق يوم الأحد، لكن المؤكد أن المشهد السياسي السينغالي مقبلة على مرحلة حرجة لكلا الطرفين، فاكتساح الحزب الحاكم يعني حربا مباشرة على رموز النظام السابق. لا سيما وأن صحف محلية تتحدث عن عزم حزب باستيف بعد الفوز تقديم طلب للجمعية الوطنية لتشكيل محكمة خاصة لمحاكمة رموز النظام السابق، في مقدمتهم الرئيس ماكي سال، بسبب تورطهم في قضايا فساد وقمع المظاهرات.
توجه عززته تصريح سابق لرئيس الوزراء عثمان سونكو، يحذر فيه من تداعيات فوز الرئيس ماكي سال، فقدرته على العودة إلى البرلمان تجعله "رمزا سياسيا من جديد، ما سيسهم في إفلاته من العقاب"، ما يعني أن النظام الحالي يتحين الفرصة للتحقيق معه الرجل.
كما أن اكتساح ائتلاف المعارضة للبرلمان يعني عرقلة البرنامج الإصلاحي للنظام الحاكم، ففقدان الأغلبية يجعل حكومة الرئيس فاي مغلولة اليدين، باستجدائها المستمر للنصاب القانوني لدى مكونات الجمعية الوطنية لتمرير القوانين. وطبعا، ذلك لا يكون بلا ثمن، فكل تصويب له مقابل يلزم عليها دفعه للقوى الحزبية الداعمة لها.
أيا تكن النتيجة، وأيا تكن تركيبة البرلمان المقبل في السنغال، يبقى الدرس الأساسي المستفاد مما يجري في دكار أن الفرقاء هناك أدركوا حقيقة جوهرية، مفادها أن الخلاف والصراع والتدافع في الشأن السياسي شيء عادي وطبيعي، بل وصحي في ديمقراطية ناشئة، مادام وفق القواعد المتفق عليها، لم ينزلق استخدام لغة العنف والسلاح.