تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

ثقافة

إليني زيليك و"إثيوبيا نظريًا": نحو أهلنة إنتاج المعرفة

10 يوليو, 2024
الصورة
Elleni Zeleke
Elleni Zeleke
Share

فقدت الأكاديمية الأفريقية، مطلع يوليو 2024، واحدة من أنبغ أساتذتها، في العقود الأخيرة، وهي الإثيوبية إليني سنتيم زيليك "Elleni Centime Zeleke"؛ أستاذ الدراسات الأفريقية المساعد في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة؛ وشملت اهتمامات زيليك سياسات القرن الأفريقي، والنظرية النقدية، ومدرسة فرانكفورت، والفكر السياسي الأفريقي، وتاريخ الرأسمالية. وعرفت زيليك، في واقع الأمر، بمؤلفها الأشهر  Ethiopia in Theory (2020) ، لعدة اعتبارات أبرزها المقاربة الشاملة التي اتبعتها زيليك، ما ميز تناولها للحركة الطلابية عن عملين بارزين تناولا نفس القضية ( Randi Balsvik في العام 1985، وBahro Zewde  في العام 2014). لقد وظفت زيليك الماركسية، كأقرب منهج لصياغة أفكار قادة الحركة الطلابية، ما أدى، عبر ما تسميه "إنتاج المعرفة"، إلى سبيل لفهم المادية التاريخية مختلف عن فهم الثوار أنفسهم، أي فهم "إثيوبي" للماركسية ومظاهرها، على نحو ينقطع عن علة النخبة الإثيوبية، منذ نهاية القرن التاسع عشر بالخضوع لشكل المعرفة الغربي، بما في ذلك الماركسية نفسها، ومحاولة فهم أسباب تخلف مجتمعهم أو رجعيته. كما تظل القضايا التي طرحتها الحركة الطلابية الإثيوبية، منذ الستينيات، مثل: ملكية الأرض والقوميات ومعنى الديمقراطية، فاعلة في المشهد الإثيوبي، سواء في فترة الحرب الأهلية الأخيرة (2020)، أم في الوقت الحالي؛ وكذلك قدرة زيليك على توظيف حزمة من العلوم البينية، بنفس القدر من الإتقان سواء في جمع البيانات أم في تحليلها أو عرضها في نهاية الأمر.

مدخل لقراءة "إثيوبيا نظريًا"

لا يمكن فصل قراءة كتاب زيليك الهام عن مجمل إنتاجها العلمي. فهي متخصصة في تاريخ الفكر الاجتماعي والسياسي، بشكل عام، وركزت بحوثها على مقاربة "الفكر السياسي الأفريقي" والماركسية في العالم الثالث. كما أن الكتاب نفسه، وثيق الصلة بإسهامات زيليك في مرحلة زمنية ممتدة، وعبر منافذ بحثية وأكاديمية متنوعة. وعلى سبيل المثال نشرت زيليك دراسة هامة عن أديس أبابا (2020)، مثلت الأساس الفعلي لتطبيقات الكتاب لاحقًا، في جانب دراسته الميدانية، ولاسيما ما يتعلق بخطط تحديث العاصمة الإثيوبية التي أثارت بدورها اضطرابات طلابية متكررة في العقد الأخير. كما كرست زيليك إحدى مقالاتها لنقد النخبة الإثيوبية وتعقيدات تطورها، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأبدت قدرًا من التعاطف مع عدد من أفرادها؛ وهو الأمر الذي تم توظيفه بشكل متفرق في جنبات الكتاب، ولاسيما في الفصل الثالث.

 وقدمت زيليك، في العام 2016، دراسة رصينة عن مفاهيم العلوم الاجتماعية، وتحولها محايدة في الصراع الاجتماعي، وربطتها بالحركة الطلابية الإثيوبية في الستينيات والسبعينيات، وعرضت فيه للمسألة برمتها عبر مواد متنوعة، مثل المنشورات والمقالات الصحفية والرصد الأكاديمي للانتخابات الفيدرالية في إثيوبيا للعام 2005، ومناقشة دلالات هذه الانتخابات بشكل عميق للغاية (عبر عرض وجهات نظر وبرامج الأحزاب المختلفة تجاه قضايا إثيوبية ملحة مثل: خصخصة الأراضي، وسيطرة رأس المال، وحق تقرير المصير الإثني)، دون التوقف عند جهود الدولة في صياغة الانتخابات كمسألة تقنية بالأساس. ويلاحظ أن هذه الدراسة مثلت الفصل الرابع من الكتاب Ethiopia in Theory؛ ما يدل على كونه مشروعا مخططا له جيدًا، وعلى مدى زمني يقترب من العقد.

كما أن لمحة سريعة حول أفكار زيليك، التي ولدت لأبويين من إثنية الأمهرا في قندر، حصن الدولة الإثيوبية الحديثة تاريخيًا، حول هوية الدولة والاضطرابات التاريخية الناجمة عن ظروف إقليمية ودولية متلاحقة (ناقشت جانبًا منها في فصول الكتاب الأولى)، وإدانتها الصريحة "للعنف"، والرجعية التي ضربت المجتمع الإثيوبي لعقود مطولة، يفسر نزوع زيليك الواضح لما تسميه "إعادة التفكير في التأريخ للثورة الإثيوبية"، وربطه بصعود اليسار الدولي ومسألة "التواصل التاريخي"  historical Contiguity(وهي مسألة بالغة الأهمية، كونها تنظر "للتحقيب" الزمني كأداة إجرائية فحسب في عملية كتابة التاريخ وتفسيره)، مع ملاحظة وصفها، في سياق الملاحظة السابقة، للفترة 1965-1969 بفترة الانقطاع عن العمل الثوري القوي نحو ثورة مكتملة ضد حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي (بغض النظر عن نتائج تلك الثورة ومصادرة مسارها من قبل تنظيم عسكري غير مؤهل أيديولوجيًا).

إثيوبيا نظريًا: مشروع أهلنة إنتاج المعرفة 

يستحق عمل زيليكي الفريد "إثيوبيا نظريًا" عن جدارة وصفها له بالمشروع؛ كونه يجمع بين ثلاث مقاربات رئيسة فلسفية وتاريخية وأنثروبولوجية، على نحو فريد وسلسل مدعومًا بدراسات ميدانية، وتفهم عضوي لمنطلقات الحركة الطلابية في إثيوبيا، وفي سياق التاريخ العالمي لمثيلاتها، منذ ستينيات القرن الماضي. 

يقع عمل زيليكي في جزأين؛ الأول يضم الفصول 1- 5 تحت عنوان "إنتاج المعرفة والتغير الاجتماعي في إثيوبيا الثورية". أما الجزء الثاني، فقد حمل عنوان "النظرية كذكرى: مشكلة العلوم الاجتماعية في إفريقيا"؛ ويمثل في حد ذاته دراسة مطولة، معنية ببناء نظرية عن إنتاج المعرفة إفريقيًا، قائمة على حالة الحركة الطلابية الإثيوبية، وفي إطار توظيف نظرية ماركس النقدية ومدرسة فرانكفورت ومقابلتهما بالإمبيريقية والموضوعية بغرض رئيس، ومتجاوز بشكل واع وواضح لهيمنة الأيديولوجيا على البحث، أشارت له زيليك في مقدمة الكتاب وهو "فهم محددات الحركة الطلابية من خلال الأدوات الفكرية التي وضعتها الحركة نفسها".

تناول الجزء الأول إنتاج المعرفة والتغير الاجتماعي في إثيوبيا، عبر خمسة فصول متماسكة، استهلتها بفصل عن البحث عن منهج بديل للبحث في الثورة الإثيوبية، وعبر مزج تجربتها الشخصية بهذا السعي، إذ غادرت إثيوبيا في سن صغيرة، في نهاية السبعينيات، ونشأت في كندا وغيانا وباربادوس، وواصلت الانتقال بين عواصم عديدة من بينها العاصمة الإثيوبية. ثم فصل ثان عن إعادة التفكير في تأريخ الثورة الإثيوبية، ضمن مشاغل زيليك الرئيسة بالنظرية النقدية الماركسية، والفكاك من القراءة "الأرشيفية الأوروبية" لتاريخ إثيوبيا، في القرن العشرين، ودمجها مع قراءات (مبتسرة حسب سياق زيليك لاحقًا) لوثائق من الكنيسة الأرثوذوكسية الإثيوبية، وحوليات الأسرة الملكية، وسجلات الأراضي الموجودة في الكنيسة نفسها (والمكتوبة بالجعزية أو الأمهرية في الغالب)، والابتعاد قدر الإمكان عن الركون لرواية الدولة الإثيوبية لتاريخها، واللجوء لمصادر "غير رسمية"، تعيد التوازن والتكامل لتاريخ إثيوبيا، لاسيما الشعوب المهمشة تاريخيًا داخلها، منذ نهاية القرن 19، ومواقفها داخل هذا التاريخ. ودلف الفصل الثالث مباشرة إلى أدبيات الحركة الطلابية الإثيوبية، وموقعها في "العلوم الاجتماعية"، لاسيما في العقد 1964-1974، كمصدر رئيس لتناول تاريخ هذه الحركة، فيما يمكن وضعه في سياق مشروع زيليك الكبير الذي استهدف "أفرقة" إنتاج المعرفة، وفي الحالة الإثيوبية تحديدًا. وقدمت زيليك بالفعل قراءة ذكية للغاية لنمو الحركة الطلابية، استنادًا لعدد من مطبوعاتها، مثل التحدي  Challenge (الذي جاء في عنوان الفصل)، وتحليل مضامينها بشكل دقيق. وجاء الفصل الرابع على النحو المشار له سابقًا تحصيلًا لجهد سابق لزيليك. أما الفصل الخامس والأخير من الجزء الأول، فقد جاء مباغتًا تمامًا بعنوان "الثورة السلبية: الحياة عقب انتخابات 2005"، ليشكل تناصًا تاريخيًا واضحًا (وربما دراسة مقارنة في مستوى تحليل آخر) مع الحالة الإثيوبية بعد وصول رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد لقيادة البلاد، ربيع 2018، دون عقد انتخابات شعبية مباشرة وحقيقية.

وهكذا بلور الجزء الأول من الكتاب جهد زيليك الرائد، في واقع الأمر، لأفرقة إنتاج المعرفة؛ على نحو يستحق نقدًا وجدلًا مكثفًا، سيسهم بطبيعة الحال في تطوير مسار الدراسات الأفريقية ضمن جهود أخرى بطبيعة الحال.

النظرية كسيرة ذاتية

جاءت جهود زيليك ضمن جهود أفريقية مستمرة، لتفكيك صلة التاريخ الأفريقي (المرتبط بتخصصات متنوعة أخرى) بمجمل التصور الأوروبي- الغربي السائد في تفسير هذا التاريخ. وكان من هذه الجهود ما وضعه البروفيسور الإثيوبي تيشيل تيبيبو "Teshale Tibebu"، في عمل رائد حول هيجل والعالم الثالث أفرد فيه جزءا عن ديالكتيك الطبيعة والروح، ثم جزء ثان في أربعة فصول خصص منها فصلًا متميزًا حول أفريقيا وفلسفة هيجل وفلسفة التاريخ (إلى جانب فصلين عن الشرق، والعالم اليوناني الروماني).

لقد قدمت زيليك في الجزء الثاني من مؤلفها فصلًا واحدًا ومطولًا (يقع في حوالي 60 صفحة، ليكون أطول فصول الكتاب بفارق واضح)، لرؤيتها حول ربط النظرية بالسياقات المحلية التي يتم تفسير تاريخها، وحمل الفصل عنوان مشكلة العلوم الاجتماعية في أفريقيا. حاولت فيه تتبع جذور تلك "المشكلة"، وإعادة التفكير في مراحل الرأسمالية الانتقالية، وناقشت فكرة "إنتاج المعرفة" في إفريقيا (تمهيدًا لتطويرها). كما سعت في الفصل إلى طموح تأسيس "نظرية للتنمية البشرية"، بعد نقاش مكثف لأفكار كارل ماركس وفريدريك هيجل، وكان من خلاصاتها (ص. 250)  أن "حياة الإنسان حياة تاريخية تقود إلى نقد المعرفة" ، وأنه ثمة ضرورة لنقد المجتمع لتاريخه، وعدم قبوله كمسلمات من أجل تعزيز قدرته على التغير.

هكذا، يمكن القول إن جهد زيليك لأفرقة إنتاج المعرفة، يقوم بالأساس على أدوات ومناهج علمية، (والأهم من ذلك تجارب تاريخية تم رصدها بوسائل متنوعة)، وليس مجرد أفكار مجردة، وأنها حاولت تطبيق ذلك بوضوح تام، في عرضها "للثورة الإثيوبية" وفي قلبها الحركة الطلابية.

خلاصة

قدمت إليني زيليك إسهامًا علميًا متطورًا وهامًا، في حدود الفترة الزمنية القصيرة التي عاشتها؛ وكانت قد أنهت -حسب صفحتها على موقع جامعة كولومبيا التي تعمل بها، مسودة كتاب عن الحرب الأهلية في إثيوبيا 2020. لكن كتابها "إثيوبيا نظريًا" يمثل إنجازًا كبيرًا، وخطوة هامة في فهم تاريخ إثيوبيا من وجهة نظر "إثيوبية" أو أفريقية، ودون تحيزات تقليدية. كما أن هذه التجربة، يمكن أن تكون مثالًا لتواريخ دول أفريقية أخرى تستلهم منهج زيليك، وتطوره بطبيعة الحال.

المزيد من الكاتب