الخميس 14 نوفمبر 2024
شاع مفهوم "الحرب الباردة الجديدة" في فترة ما بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، في فبراير/ شباط 2022 شيوعًا مكثفًا، طال مسألة موقع أفريقيا في تلك الحرب، وحسابات مكاسبها وخسائرها؛ بالتزامن مع توسع روسي راهن في القارة، ذكّر كثيرين بتجربة الاتحاد السوفييتي المناوئة للقوى الاستعمارية التقليدية والجديدة، في أرجاء متفرقة من أفريقيا، في ذروة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وبغض النظر عن ارتباكات الجنوح إلى "التناص/ الاستشهاد التاريخي" كأحد مقاربات تفسير السياسة الدولية الجارية، فإن مراجعة أدبيات "الحرب الباردة"، ومفهوم "النظام العالمي الجديد" الأكثر شمولًا، تحيل إلى انقطاع الذاكرة المعنية بمثل هذا التفسير عن انضباط السياق التاريخي اللازم لفهم جذور الأزمة ومآلاتها، وحقيقة وضع أفريقيا راهنًا، في سباق السياسات الدولية، يتصدره اندلاع حرب باردة "جديدة"، وتكالب دولي جديد على دول القارة.
يظل مفهوم الحرب الباردة وأحداثها قاصرًا -من الزاوية الأفريقية في السياق الحالي- على صعود التنافس السوفييتي الأمريكي، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وتداعيات هذا التنافس في هوامش متفرقة خارج أوروبا، كما في العديد من دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتجلى هذا التنافس في خضم صعود حركات التحرر الأفريقية، واستقلال دول القارة، وهو الأمر المفهوم في ضوء غلبة أفكار "المركزية الأوروبية" على أغلب مكونات النخب الأفريقية (بوعي أو بدونه)؛ ومن بينها منهجية التأريخ للقارة، وموقعها الدولي، وفق تحقيب زمني أسير لهذه الأفكار. لكن فكرة ديمومة الصراع الدولي، دون أن يأخذ بالضرورة شكل حروب عسكرية مباشرة، ظلت حاضرة في مقاربات القوى العظمى وتوازنات مصالحها، بما في ذلك الواقعة في أفريقيا.
يبدو ذلك واضحًا عند إعادة مفهومي الحرب الباردة والنظام العالمي الجديدة ودلالاتهما إلى حقبة الحرب العالمية الأولى؛ وعلى سبيل المثال قدم دونالد إ. ديفيز ويوجين ب. تراني تفسيرًا مطولًا للعلاقات الأمريكية السوفيتية في عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، خلال ما أطلقا عليه "الحرب الباردة الأولى" (2002)، قوامه جنوح واشنطن إلى عدم التدخل في الشأن "الروسي"، ودعم الحكومة الروسية المؤقتة في خضم الثورة البلشفية (نهاية 1917) ترقبًا لمآل الثورة وتوجهاتها، واستمر هذا الموقف رغم تقديم مفوض الشؤون الخارجية السوفيتي حينذاك؛ ليو تروتسكي Lev Trotsky ما سماه "برنامج السلام البلشفي"، الداعي إلى نيل كل دولة (في العالم) حريتها، وأنه مع استعداد ألمانيا لسحب قواتها من بلجيكا وفرنسا، فإنه لا يمكن "للحلفاء" الادعاء باستمرار الحرب لتحرير الأراضي في الغرب (أوروبا الغربية)، مطالبًا ببرنامج سلام واضح، من قبل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة. وأنه، إذا كان من الضرورة بمكان تحرير الألزاس واللورين وغيرهما، فماذا عن إيرلندا ومصر والهند؟ (في إشارة إلى أهم المستعمرات البريطانية حينذاك في قارات العالم القديم)، لاسيما بعد أن منحت الثورة الروسية، في شهورها الأولى، حق تقرير المصير لكل من فنلندا وأوكرانيا وبيلاروسيا (100-101).
تشير تلك الواقعة إلى ركن أصيل في الحرب الباردة (كأحد تجليات "الصراع الدولي" المستدام) وهو النظر للأطراف الهامشية (مصر الأفريقية في هذا المثال) على أنها مجرد تابع في الصراع، ومتلق لتداعياته مع تجاهل تجاوز إثارة قضاياه من مجرد ضرب الأمثلة والمساومة عليها إلى طرح مناقشات فعلية وجادة بين "القوى الكبرى" حول تلك القضايا، عوضًا عن احترام تقسيم النفوذ القائم.
كانت أفريقيا، في الفترة الفاصلة بين تلك الحرب الباردة الأولى وبداية تطورات ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عالقة بالفعل في اضطراب السياسات البريطانية والفرنسية (كأبرز قوتين استعماريتين في القارة)، وسط تنافس أمريكي- سوفييتي متصاعد على النفوذ في أفريقيا وبين نخبها المنتشرة خارجها، ومبشرًا بنهاية وشيكة للاستعمار التقليدي على خلفية هذا التنافس.
خصص الكاتب الأفريقاني البارز جورج بادمور الفصل الأخير من مؤلفه التأسيسي (للأفريقانية) Pan- (1936) لتناول مسألة الشيوعية والقومية السوداء، كأحد مشاغل "الحرب الباردة" القائمة بين الغرب والاتحاد السوفييتي في أفريقيا. ورأى بادمور أن أحداث الثورة في روسيا، ومناطقها الأوروبية – الآسيوية، قد أظهرت قدرة الفلاحون في الدول المتخلفة صناعيًا (مع توفر قيادة متحمسة) على لعب دور هام في تحقيق تغير ثوري. بعبارة أخرى، إن العمال الجهلة في روسيا القيصرية قد بادروا ببدء الثورة (العالمية)، وأن عمال وفلاحي الصين الإقطاعية والأكثر تخلفًا سيكملون ما بدأه الروس. وأنه باتحاد روسيا والصين "ودعم الأعراق الأدكن لونًا في آسيا وأفريقيا" تكون ثمة ضمانة (لبقاء) الثورة الروسية. ويمكن للصين الثورية وروسيا الشيوعية أن تواجها معًا الغرب الإمبريالي بكل ثقة (293-294).
تكشف هذه الأمثلة عن ضرورة كسر الصورة النمطية لموقع أفريقيا في الحرب الباردة، فيما بعد الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الاتحاد السوفييتي، لصالح الركون لتراكم معرفي تاريخي يضع تلك الحرب، وما سبقها أو ما تلاها راهنًا، في مكانها الطبيعي داخل عملية التنافس الدولي (الاستعماري أو الإمبريالي وتحدياتهما) على القارة الأفريقية طوال قرون. لكن عملية التأريخ هذه ترتبط بالأساس بإشكالات بالغة التعقيد، ولا تنحصر بالتأكيد في رؤية أرتور شوبنهاور للتاريخ، بأنه يسير في مسار ثابت، لا تكتنفه سوى تغيرات طفيفة "باستثناء الأسماء والأعوام" (وهي رؤية تعني عمليًا عدم جدوى عمل المؤرخ، حسب تحليل بروفيسور ألكسندر جيرشنكرون في دراسة هامة حول مفهوم الاستمرارية في التاريخ- 1962) بل أقرب إلى فكرة الاستمرارية في التغير Continuity in Change (بمعنى أن التغير في حد ذاته هو نوع من الاستمرارية)، واتساقًا مع فكرة الفرنسي جان فرانسوا ليوتار باعتبار "الروايات الكبرى التاريخية (مجرد) سرديات ضائعة fictions manquees (فيما يمكن إدراج الحرب الباردة ضمنها) مفضلًا "سردية تعددية"؛ ترتبط بالأساس بأفكار ما بعد الحداثة التي أسهم ليوتار نفسه في صياغتها التأسيسية، في عدد من مؤلفاته أبرزها The Postmodern Condition- 1979، و The Inhuman- 1988، والتي قدمت نقدًا ومراجعات مكثفة لأفكار "التحقيب" برمتها، ولاسيما الماركسية وتصنيفها لمجتمعات ما قبل التاريخ وما بعد الثورة الصناعية على سبيل المثال.
انتقلت تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية بشكل متسارع إلى القارة الأفريقية، عبر مسارين رئيسين في واقع الأمر: هجمة ديبلوماسية وأمنية (عسكرية) روسية لمد روابط الصلات مع عدد كبير من الدول الأفريقية (وكذا مع فاعلين من غير الدول كما في الحالتين الليبية والسودانية في مراحل متفاوتة)؛ ومحاولات احتواء غربية لهذه الهجمة بسبل شتى، منها إعادة إنتاج أساليب الهيمنة والتهديد (مثل توقيع اتفاقات عسكرية جديدة، أو فرض عقوبات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة عبر دول جوار)؛ ودفعت هذه المواجهة الكثيرين إلى التأكيد على تحول افريقيا لساحة من ساحات حرب باردة جديدة، وهو توجه بات تقليدًا أفريقيًا عقب أية تحولات دولية، أو حتى إقليمية هامة. ونذكر من ذلك مقدمة أولايولا أبيجونرين لكتاب هام من تحريره (أفريقيا في النظام الدولي الجديد- 2014) التي استهلها بالتأكيد أن ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا "التي اندلعت في غضون شهرين فحسب" سوف "تغير وجه القارة الأفريقية للأبد"، مقارنًا إياها بالأحداث ذات الأثر العميق في مسار التاريخ، مثل الثورة الفرنسية في عام 1789 والثورة الروسية عام 1917، وسقوط حائط برلين عام 1989، قبل الوصول إلى خلاصة مفادها حاجة أفريقيا لقيادة قوية ومؤثرة وملتزمة وذات رؤية "تملك الموارد البشرية والطبيعية لدعم دور أفريقيا القيادي ولقيادة القارة في النظام العالمي الجديد". وبغض النظر عن دحض التطورات التي تلت "الربيع العربي" في الدول الثلاث هذه الفرضيات، بشكل كامل وحاسم (من جهة تراجع سقف توقعات التحولات الديمقراطية وتدني التأثير في مجمل ما يعرف بالنظام العالمي الجديد)، فإن هذا التسرع يمثل سمة أساسية في أغلب التحليلات الراهنة بخصوص الحرب الباردة الجديدة وموقع أفريقيا فيها.
وتفرض تلك القراءات – السطحية في حالات كثيرة- ضرورة التوجه نحو مقاربات أعمق لفهم التنافس الدولي في أفريقيا كحالة مستدامة. وعلى سبيل المثال طرح باري بوزان (2024) فرضية وجود "تعددية عميقة deep pluralism داخل "مجتمع عالمي" تتوزع فيه عناصر القوة والثروة والسلطة الثقافية والسياسية على نحو ذائع داخل نظام يتمتع بقدرة تفاعل مرتفعة واعتماد متبادل قوي؛ وما يتضمنه ذلك بالضرورة من استبعاد وجود خطوط تقاطع فاصلة بين مراكز قوى هذا النظام، وتغليب فرضية ترك مساحات مقبولة من المناورة وعدم التصادم العسكري المباشر (أو تحجيم حدود هذا التصادم) مخافة اندلاع "حرب عالمية ثالثة".
بات من الضروري النظر للتنافس/ الصراع الدولي الراهن على موارد القارة الأفريقية، على أنه استمرار غير منقطع، منذ قرون، لسياسات النفوذ والهيمنة والإمبريالية بمفهوم واسع (ومن قبل أطراف متنوعة وفق سياسات مستحدثة خاصة بدينامياتها السياسية الداخلية)، وأن ما يتردد عن "حرب باردة جديدة" تتخذ من أفريقيا ساحة مواجهة، يعبر عن حالة استباق للتحليل والتفسير، لاسيما أن نتائج التدخل الروسي في إقليم الساحل (على سبيل المثال) لا تزال في طور التشكل، وأن آفاق التغيرات الجيوسياسية الناجمة عنها تظل غامضة نسبيًا.
[1] الاقتباس عن الكتاب المقدس، مرقس 2: 22