الخميس 21 نوفمبر 2024
حقق الفيلم الكوري Past Lives (2023)، بتوقيع المخرجة الشابة سيلين سونج، نجاحًا جماهيريًا ونقديًا ملفتًا، عند صدوره مصاغًا بطريقة سرد ساحرة وبسيطة، وانتقالًا سلسًا بشكل مدهش. مكانيًا؛ من كوريا الجنوبية إلى الولايات المتحدة، وزمنيًا؛ من طفولة بطلة الفيلم وصديقها حتى لقائهما مجددًا بعد أكثر من عقدين. وبمتابعة أحداث الفيلم، الذي حصل على عدد كبير من الجوائز، منها ترشيحين للأوسكار في العام 2023، بينهما أفضل نص أصلي، لا يمكن تخطئة تشابهه الكبير مع رواية النيجيرية، تشيماماندا نحوزي أديتشي الشهيرة "أمريكانا" (2013)، وعلى نحو ملفت للغاية في تفاصيل حياة نورا، بطلة الفيلم، وإفيميلو بطلة الرواية، وتراجع أحلامهما في تحقيق نجاح مهني أكبر (أو حتى تكوين أسرة تقليدية) عند الهجرة إلى الولايات المتحدة.
لكن هذا التشابه يحيل إلى مسألة هامة هنا، وهي حالة السينما الأفريقية وبطء خطواتها الساعية لتأكيد "هوية أفريقية"، بعد رحيل عدد من أبرز مخرجيها في السنوات الأخيرة، مثل عثمان سيمبين، وعجز عدد منهم عن إنتاج أفلام أفريقية، رغم توفر أغلب عناصر هذه الأفلام؛ بدءًا من النصوص الثرية (مثل نص أمريكانا الذي تمت معالجته في فيلم- فيديو نيجيري 2017، يفتقر من الوهلة الأولى للتماسك، وتبني لغة سينمائية واضحة) ووجود كوادر مؤهلة. يأتي ذلك الإشكال في ظل تغيرات سوسيو-اقتصادية متلاحقة وسط الشباب الأفريقي، تمثل تحديًا إضافيًا لتقديم سينما "أفريقية" مقبولة جماهيريًا.
يواجه تعريف "السينما الأفريقية" إشكالات أولية، طرح جانبًا منها كيان ج. توماسيلي، في دراسة الرؤى النظرية بخصوص هذه السينما، ضمن مؤلف هاما نشره معهد الفيلم البريطاني 1996، منها إشكالات الجغرافيا، مثل: كيفية شمول السينما العربية وسينما جنوب أفريقيا في المفهوم الذي يحصره البعض في "السينما السوداء/ الأفريقية"؛ ومسألة هوية السينما الأفريقية كمقابل بصري لمفهوم "الشخصية الأفريقية"، وهل ترتبط السينما الأولى بالضرورة بالسينما السوداء القائمة في الشتات (في الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا)؟، وهو جدل مستمر ارتبط بفكرة الثقافة بشكل عام، فعلى حين توصل فرانز فانون، بعد تجربته المعروفة في الجزائر، إلى أن للثقافة طابع وطني بالأساس (وليس قاري جامع)؛ لأنها تتخذ شكلًا واضحًا حول نضال الشعب، وأنها ليست موروثة فحسب من الماضي، بل تأخذ في التشكل في ظل متغيرات مستمرة. بينما أكد أميلكار كابرال على ضرورة توظيف الثقافة في مناهضة الإمبريالية والاستعمار الجديد، مع اتباع استراتيجيات مختلفة (عن فانون)، مثل الاعتماد على المواقع الثقافية التي تمكن من خلالها المستعمر حشد الجانب الأكبر من الأشكال والطقوس الثقافية التقليدية "للحفاظ على هوياتهم وتقاليدهم وعظمتهم في مرحلة ما قبل الاستعمار".
ينقلنا هذا الجدل (وتجلياته الفعلية في أفلام بارزة، سعت إلى إعادة طرح قضايا الأفكار الموروثة في مواجهة تغيرات سوسيو-اقتصادية وسياسية حادة عقب الاستقلال الأفريقي مثل "فتاة سوداء" Noire Femme للسنغالي عثمان سيمبين (1966)، وما طرحه إجمالًا من فكرة "العنصرية الإمبريالية"، في شكل صدام ثقافي (فرنسي- سنغالي)، وطريقة سرد متميزة، تمزج بين حياة بطلته ديوانا Diouana في السنغال، ثم حياتها في منزل الأسرة الفرنسية التي رافقتها للعمل لديهم خادمة منزل، إلى إنتاجات سينمائية بتوقيع عدد من عرابيِ السينما الأفريقية) إلى ضرورة فهم السمة الفردية الواضحة في السينما الأفريقية (التي تستهدف إنتاجات أصيلة، وليس مجرد نقل بصري لإنتاجات غربية أو غيرها) حتى داخل الصناعات الراسخة.
بأي حال فإنه لا يمكن فصل "صناعة" السينما الأفريقية راهنًا عن مأزق ارتباطاتها "الاستعمارية" (في صوره التقليدية أم غير التقليدية)، وإن بمسارات مختلفة في دول القارة. وكذلك عن تعقد مسألة تناقض العلاقة بين الانتشار الجماهيري والمستوى الفني، كما يتضح هنا من طرح مثالي إريتريا في شرق القارة، ونيجيريا في غربها.
لم تشهد إريتريا بشكل عام حركة سينمائية وطنية، بقدر ما كانت ساحة لتلقي الإنتاجات السينمائية الإيطالية، مع تحويل أوبرا إريتريا إلى مع عرفت به لاحقًا بسينما أو تياترو أسمراTeatro Asmara، لعرض هذه الإنتاجات، منذ العام 1937. ثم إقدام الإدارة البريطانية التي تولت حكم إريتريا، منذ عام 1945، على تأسيس "إدارة السينما"؛ والتي تولت بالأساس الاهتمام بدور العرض السينمائي، دون الاهتمام بإنتاج أفلام إريترية (وهو توجه لا يزال قائمًا في إريتريا بعد استقلالها عن إثيوبيا مطلع التسعينيات). وقد كان لافتًا، بوجه خاص، الاهتمام الذي أبداه اثنان من أبرز مثقفي إيطاليا وصناع الأفلام بها، بمشروع سينما إريترية "استعمارية" (إيطالية الطابع)، في النصف الأول من القرن الماضي؛ وهما: فيليبو توماسو مارينيتي (المولود في الإسكندرية بمصر 1876، حيث تلقى تعليمه الأولي بها، وتوفي في إيطاليا عام 1944) وبير باولو بازوليني (1922-1975).
لقد سعى مارينيتي إلى تغليب الوجه الثقافي الإيطالي في إريتريا، ولاسيما في مدينتي عصب (التي اشترتها إيطاليا في العام 1882 من شركة نقل خاصة)، ومصوع ضمن مشروع روما الفاشي، والذي استند في جزء كبير منه إلى تاريخ الإمبراطورية الرومانية (والتي امتدت معرفتها الدقيقة وهيمنتها إلى حوض البحر الأحمر كما يتضح من كتاب شهير ألفه يوناني مجهول في القرن الأول الميلادي بعنوان). وكانت السينما (والمسرح) من مشاغل مارينيتي في إريتريا، والتي وارتبطت بمجمل المساعي الإيطالية للاستيلاء على "الحبشة". وانخرط مارينيتي بشكل قوي في هذه المساعي، كما ورد في مقال له نشرته جريدة Il Progresso Italo- Americano (18 أغسطس 1935) بمخاطبته الفنانين الإيطاليين (والسينمائيين منهم)، بضرورة التطوع في الحملة الإيطالية الموجهة إلى الحبشة (والتي كانت تنطلق من إريتريا) مختتمًا له بجملة "وكي أكون بالغ الصراحة معكم فإنه ليس هناك أفضل من الحرب من أجل إيطاليا في الحبشة".
وبينما كان مشروع مارينيتي "السينمائي" في إريتريا دعائيًا بحتًا، لنشر الثقافة الإيطالية ومضامينها "الإمبراطورية" أو الفاشية، فإن بازوليني عمد إلى توظيف رؤيته لإريتريا (لاسيما مدينة مصوع) سينمائيًا. ويمكن إجمال تصورات بازوليني، بوصفه من أكثر المثقفين الإيطاليين ريادة لما بعد الحداثة وراديكالية ويسارية- لإريتريا، وميناء مصوع على وجه التحديد (ضمن القرن الأفريقي وانشغال إيطالي تاريخي ومفهوم بإثيوبيا منذ نهاية القرن التاسع عشر)، بأنه اعتبرها جسر للعلاقات المستمرة بين بلاده والإقليم الأفريقي، وحلم روما تحويل البحر الأحمر إلى "البحر المتوسط الأفريقي"، وهي رؤية أدبية وسينمائية لم تخل من الاعتماد على توظيف أدبيات التاريخ اليوناني واللاتيني القديم في حوض البحر الأحمر؛ وجذبت إريتريا تحديدًا اهتمامًا "استشراقيًا" إضافيًا من بازوليني (الذي تبنى بوضوح أفكارًا مناهضة للفاشية عكس معاصره مارينيتي وثيق الصلة بالزعيم الإيطالي ببينيتو موسوليني)، عقب جولاته الأفريقية (التي استهلها في العام 1961 برحلة رفقة إلسا مورانتي وألبرتو مورافيا)، والتي شملت على مدار الستينيات والسبعينيات دولًا من مثل: السودان وغانا وغينيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا والسنغال ومالي وبوركينا فاسو. وكانت زيارته لمصوع وصلته بها حاضرة في عدد من أعماله الأدبية (لاسيما الشعرية) والسينمائية، كما Notes for an African Oresteia; 1970 وبشكل أكثر وضوحًا في واحد من آخر أفلامه، وهو Arabian Nights (1974) حيث استلهم منها شكل المدينة "العربية" التقليدية.
في هذا السياق، يمكن فهم عدم تطور سينما إريترية وطنية، رغم الاحتكاك المبكر بالسينما الإيطالية (تلقيًا بطبيعة الحال) في ضوء انغلاق الأخيرة على تناول مسائل دعائية، من وجهة نظر إيطالية "استشراقية" تمامًا. وعلى سبيل المثال، فقد ألقت الإيطالية شالين جرين رؤية مكثفة على ارتباطات السينما في المستعمرات الإيطالية في أفريقيا، منذ أربعينيات القرن الماضي، وإنتاج فيلم Il Mulatto (1949) الذي تناول مسألة الأطفال الأفارقة الإيطاليون داخل إيطاليا (عبر سرد جانب من حياة ماتيو المولود لأب إريتري وأم إيطالية)، عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، وعرض في الولايات المتحدة تحت اسم Angelo في العام 1951، وهي الفكرة الغالبة على رؤية إريتريا سينمائيًا؛ قبل أن يربط ذلك بنقدها لعمل سبايك لي Miracle at St. Anna (2008) من زاوية تجسيده، كفيلم حربي أمريكي، بالأساس لرؤية أفريقانية (أفروامريكية بطبيعة الحال هنا) للغزو الإيطالي لإثيوبيا، واستجابات الجنود الأفروامريكيون الذين شاركوا في عمليات الجيش الأمريكي في المراكز الحضرية الشمالية في إيطاليا، وما اعتبره "لي" في فيلمه موقعًا لتكون هوية شتات أفريقي في الأخيرة، وهو تناص لا يفترق كثيرًا عن صلة رواية أمريكانا لأديتشي بفيلم Past Lives لسونج، وقدرة الإنتاج السينمائي الكبير على اصطناع رؤية جديدة تتسق مع السوق ومتطلباته، وربما لا تلتزم بالضرورة بتأصيل الحالة "الأفريقية" بشكل عام.
في مقابل التجربة الإريترية التي ارتهنت بلحظة استعمارية شديدة الوطأة، شهدت نيجيريا صناعة سينما مبكرة للغاية، قياسًا للوضع في أفريقيا جنوب الصحراء، مع تكوين وحدة الفيلم الفيدرالية Federal Film Unit في العام 1947 لتحل محل وحدة الفيلم الاستعمارية CFU، والتي كانت نشطة في مجال عروض الأفلام، منذ مطلع القرن الماضي. وكذلك مع تفعيل قانون التصوير السينمائي النيجيري في عام 1948، الذي نظم فعليًا عملية إنتاج الأفلام السينمائية على يد فنانين نيجيريين، ووضع ضوابطها. ظلت الأفلام الوثائقية غالبة على الإنتاج السينمائي النيجيري (في أفلام بارزة مثل Empire Day Celebration in Nigeria (1948)، Small Pox Leprosy (1950) ,، Queen Elizabeth II’s visit to Nigeria (1956)؛ وكان من أوائل الأفلام الروائية النيجيرية الناطقة بالإنجليزية Moral Disarmament (1957).
وبمرور الوقت نجحت السينما النيجيرية، التي باتت تحمل لقب نوليوود Nollywood، في تصدر الإنتاجات العالمية، بدءًا من ثمانينيات القرن الماضي؛ إذ حلت ثالث أكبر سينما في العالم، بعد الولايات المتحدة والهند، بعدد أفلام تجاوز 2000 فيلم سنويًا، وحظيت هذه النقلة بترحيب أفريقي كبير، مثل ما أشار إليه الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق، تابو مبيكي، بأن نجاح نوليوود (بات) ركن أساسي في دعوات تحقيق نهضة أفريقية، في القرن 21. وما أشار إليه باحثون نيجيريون من نجاحها في تقديم قصص وحكايات أفريقية بعيون أفريقية؛ إضافة إلى جانب هام آخر فيما يتعلق بالاهتمام العالمي بنووليود، وهو تركيز الأفلام الناطقة بالإنجليزية على قضايا من قبيل الهجرة والشتات، وهو ما يلقى قبولًا "غربيًا" بشكل كبير.
وتبدو هنا المفارقة واضحة، وهي أن نيجيريا التي تشهد نشاطًا أدبيًا ووفرة في النصوص الغنية والقابلة للتحول لأفلام سينمائية جادة للغاية، وتحتل موقعها منذ عقود كأكبر صناعة سينما أفريقية (بما في ذلك منطقة شمال أفريقيا)، لم تقدم حتى الآن قامات سينمائية أفريقية بارزة (أفريقيًا ودوليًا)، مقارنة بدول مثل: موريتانيا وبوركينا فاسو والسنغال وجنوب أفريقيا والجزائر ومصر؛ الأمر الذي يثير إشكالية الانتشار الجماهيري، وجودة العمل السينمائي بشكل جاد، ومن ثم مدى جدية مآزق السينما الأفريقية الراهنة.