الجمعة 22 نوفمبر 2024
بينما احتفلت جنوب إفريقيا بمرور ثلاثين عامًا على نهاية نظام الفصل العنصري في أبريل/ نسيان الماضي، تسعى النسخة الإسرائيلية من هذا النظام الوحشي بلا هوادة إلى القضاء على الشعب الفلسطيني، لدرجة أن الكثيرين شبّهوا حجم الدمار في غزة، بما فعله نازيّو ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.
بيد أن ما هو صادم بنفس القدر هو عزوف الأنظمة العربية الكبيرة عن الضغط بشدة على الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الوحيدة التي تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن، والتي اعترضت على كل محاولات وقف إطلاق النار في غزة. يكمن اللغز ها هنا: لم كان بمقدور الزعماء الأفارقة تحدي التنمر الغربي، وعزل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وقتها، في حين أن الأنظمة العربية الكبيرة تسترضي الآن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والغرب؟
إن نظام الفصل العنصري قد طُوِّر رسميًّا، ونُفِّذ لاحقًا بواسطة الحزب الوطني السابق في جنوب إفريقيا، بعد فوزه في انتخابات "البيض وحدهم"، في الخامس من يونيو/ حزيران عام 1948. حدث ذلك في نفس العام الذي أنهى فيه البريطانيون انتدابهم في فلسطين، وبعدها أعلن الصهاينة تأسيس إسرائيل، وبداية التطهير العرقي للفلسطينيين.
تغفل هذه السردية عن المساعي الصهيونية الطويلة الأمد لاحتلال فلسطين. يشير كتاب رشيد الخالدي؛ الأستاذ في جامعة كولومبيا؛ "مائة عام من الحرب على فلسطين"، إلى فترة أطول بكثير من الطرد، وترسيخ نظام الفصل العنصري في إسرائيل.
رغم أوجه الشبه بين نظاميْ الفصل العنصري هذين، ثمة اختلافات مهمة بين هذين الشكلين التاريخيّين من الكفاح من أجل التحرير. يكمن العامل المهم الذي يميّز النضال من أجل التحرير في جنوب إفريقيا عن نظيره في فلسطين، في الدعم الذي وجدته الحركة في جنوب إفريقيا، من أغلب المجتمعات العربية والإفريقيّة.
قدّم أفارقة ما بعد الاستعمار، بما فيهم شمال إفريقيا، دعمًا بلا تحفظ للنضال في جنوب إفريقيا، رغم العوز الذي تعانيه أغلب الدول. وقدمت مصر صوتًا أخلاقيًّا للكثيرين في إفريقيا، عبر "صوت إفريقيا" الذي انفجر من إذاعة القاهرة.
برزت ليبيا بتقديم مواردَ للكفاح من أجل التحرير، بينما صوتت الدول العربية الأخرى في الشرق الأوسط لصالح فرض عقوبات على جنوب إفريقيا لدى الأمم المتحدة. وقدّمت دول أخرى، والتي شملت الجزائر التي تحرّرت للتو، الدعم العسكري والديبلوماسي والأخلاقي.
كانت الدول الحدودية التي تضم موزمبيق وزيمبابوي وزامبيا وأنگولا وبتسوانا، من دفعت ثمناً باهضاً لمناهضة بريتوريا. ومع ذلك، لم يقف كلّ الزعماء في جنوب الصحراء الكبرى مع الجانب الصحيح من التاريخ. فنظام هاستينغز باندا، في ملاوي مثلا، يرى النظام العنصري شرعيًّا، ويشعر بالعار كونه البلد الأفريقي المستقل الوحيد الذي يقيم علاقات ديبلوماسية مع بريتوريا في أوج الكفاح. وانخرطت بعض البلدان الأخرى، مثل ساحل العاج، في أمور أخرى مع بريتوريا، وإن كانت ضئيلةً.
لكن استجابة نيجيريا في عام 1975 للمساعي الأمريكية، لإغراء الحكومات الأفريقية للعمل مع جنوب إفريقيا، صوّرت بشكل مؤثر التزام إفريقيا بالنضال. فقد كان وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، هنري كيسينجر، في طريقه إلى نيجيريا، عندما أُلغيت الدعوة، بسبب السياسات الأمريكية بشأن جنوب إفريقيا.
على نفس النهج، كانت الحكومات العربية ملتزمة بتحرير فلسطين، بيد أنّ هذا الالتزام تبدد لدى الأنظمة العربية، بعد نهاية حرب 1973. كانت المواجهة الأولى بين إسرائيل والدول العربية، خلال أزمة السويس في 1956، حينما غزت فرنسا وبريطانيا وإسرائيل مصر من أجل إعادة السيطرة على قناة السويس، وسحبها من قبضة الحكومة الثورية لجمال عبد الناصر.
تدخل الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، وأجبر الغزاة على الانسحاب من الأراضي المصرية. بعد إحدى عشر سنة، وقعت المواجهة الكبيرة بين إسرائيل والعرب عندما أغلقت مصر، التي هوجمت قبلها وقائيًّأ، مضائق تيران على البحر الأحمر في 1967، وانضمت كل من الأردن وسوريا للحرب فورًا.
غير أنه في غضون ستة أيام، هُزمت القوات العسكرية العربية تمامًا، واستولت إسرائيل على ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية لنهر الأردن وغزة، إلى جانب سيناء في مصر، وهضبة الجولان في سوريا. منذ ذلك الحين، بدأت إسرائيل في التأسيس الممنهج للمستوطنات اليهودية غير القانونية، وتهجير الفلسطينيين المحليين في القدس الشرقية والأراضي المحتلة للتو.
يحتل الآن أكثر من 700 ألف من المستوطنين اليهود الضفة الغربية، لدرجة أنهم حوّلوا الأراضي الفلسطينية إلى ما سمّاه الباحث الإسرائيلي الشهير إيلان بابيه "أكبر سجن على وجه الأرض". كوّنت أغلب الدول الأفريقية، منذ السنوات الأولى من الاستقلال، في أفريقيا، وحتى الفترة بعد الحرب بين إسرائيل والعرب في 1967، علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، إلا أن الأمر تغيّر بعد حرب 1967، حينما ناشد العرب الأصدقاء في إفريقيا بعزل إسرائيل.
بعد ست سنوات من الهزيمة المخزية، هاجم جيشا مصر وسوريا القوات العسكرية الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973. صحيح أن مصر تقدمت في سيناء، لكن سوريا لم تحرز أي تقدم في هضبة الجولان. على وقع هذه التطورات المفاجئة، نقلت أمريكا جوًّا، كميات كبيرة من الأسلحة، بقيمة 2.2 مليار دولار، إلى إسرائيل. ردّت الدول المصدرة للنفط، وتحديدا المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة - اللتين كانتا قلقة بشدة، إزاء الانتفاضات الشعبية التي قد تقوّض حكميهما - بأول حظر نفطي عربي على أمريكا.
تخلّت معظم الأنظمة العربية الثرية عن التزامها تجاه التحرير في فلسطين، في الخمسين عاما الأخيرة. وطبّعت مصر علاقاتها مع إسرائيل، بعد اتفاقية كامب ديفيد، على إثر ذلك أرجعت إسرائيل شبة جزيرة سيناء إلى مصر. نتيجة لذلك، أصبحت مصر ثاني أكبر متلقّ للمساعدات الأمريكية في العالم. بالإضافة إلى ذلك، أضحت مصر شريكة إسرائيل في الحصار التام المفروض على غزة منذ 2007.
كما تم تحييد سوريا التي تعثرت بالحكم الملكي الاستبدادي، والحرب الأهلية الداخلية. كان الملك عبد الله في الأردن، صاحب الصوت الأعلى بين الزعماء العرب في مناهضة إسرائيل، إلا أن خطابه النقدي ناجم عن حقيقتين سياسيتين في مملكته. أولًا، تحتضن الأردن أكبر نسبة من الفلسطينيين في المنطقة خارج فلسطين. ثانيًا، يعتمد نظامه على نحوٍ كبيرٍ على المساعدات الأمريكية لإنعاش اقتصاده. ما يعني أن المملكة الأردنية تنتقد النظام الإسرائيلي شفاهةً، لاسترضاء الفلسطينيين لديها، دون استعداء الداعمين الأمريكيين. حيّدت العراق بعد غزوها، على نحوٍ غير شرعي، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أكثر من عقدين من الزمان.
تتلهف دول الخليج، عدا قطر، والتي تضم البحرين وعمان والإمارات العربية المتحدة للاعتراف بإسرائيل. وكانت المملكة العربية السعودية على وشك تكوين علاقات ديبلوماسية كاملة مع تل أبيب، قبل أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بيد أنها علقّت القرار إلى حين انجلاء الأزمة الحالية. اعترف النظام الملكي في المغرب بإسرائيل في عام 2020. في المقابل، لطالما كانت الجزائر، بالنظر إلى الاستعمار الاستيطاني في تاريخها، مناصرة للقضية الفلسطينية، بينما لم يكن لليبيا أي خطوة في ظل التشظي السياسي الذي تتسم به.
باختصار، يمكن القول إنه ثمة نقطتا ضعف تحول دون تحدي كبرى الدول المصدرة للنفط، مثل: السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة، للوضع الحالي. أولًا، تحكم كافة هذه الدول أنظمة ملكية، يحميها النفوذ الأمريكي. ثانيًا، معظم أرصدتها محفوظة في البنوك الغربية، مما يجعلها عرضة للعقوبات الأمريكية.
لم تخن الأنظمة العربية وحدها الكفاح من أجل التحرير في فلسطين. فقد أعادت العديد من دول جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا علاقاتها مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، ذهبت دول مثل: ملاوي بعيدًا، وسمحت لمواطنيها بالسفر إلى إسرائيل كعمال ضيافةٍ، مما يعني استبدال الفلسطينيين.
أعلن مؤخرًا الرئيس الكيني، ويليام روتو، أنه بوسع الكينيين الحصول على وظائف في إسرائيل أثناء الحرب في عزة. وأخيرًا، وصل النقاش عن العلاقات بين إفريقيا وإسرائيل ذروته، في العام الماضي، في الاتحاد الأفريقي عندما طعنت جنوب إفريقيا في وضع إسرائيل بصفتها دولة مراقبة في الهيئة القارية.
هناك مثل صومالي قديم يقول ""Waan baahanahay looma bahalo cunoوترجمته: "لا تأكل القذارة لأنك جائع!" العبرة من هذا المثل هي أن الكرامة الإنسانية تتطلب تضحيات كبيرة، في سبيل تحقيق الخلاص. باستثناء قلة من الدول، اختارت معظم دول جنوب الصحراء الكبرى الكرامة عوضًا عن الرعاية الغربية وواجهت باصرار بريتوريا وحلفاءها حتى تحقيق التحرير.
بذات المنوال، دعمت كافة الدول العربية تحرير الفلسطينيين حتى حرب 1973. ولكن تضاءل التزامها بالقضية الفلسطينية منذ 1979. وبالتالي، تخلت بعض من الأنظمة العربية الأكثر ثراءً وتأثيرًا عن فلسطين، لاشتهائها القبول من الغرب ورعايته.
إن الوضوح الأخلاقي والإصرار الهائل الذي ميّز الدعم الأفريقي والعربي للكفاح في جنوب إفريقيا، مفقود للأسف لدى الأنظمة العربية الملكية، ولدى العديد من الزعامات الإفريقيّة الحالية، وذلك في وقتٍ فلسطين في أمس الحاجة إليه.