الجمعة 22 نوفمبر 2024
أعادت الحرب الجارية في غزة، منذ أكتوبر 2023، الاهتمام الأفريقي بالقضية الفلسطينية إلى مستويات جديدة، بعد نصف قرن تقريبًا من مشاركة الصومال وليبيا (بدعم من منظمة الوحدة الأفريقية) مع كوبا وسوريا واليمن الجنوبية في اقتراح وصياغة مشروع قرار الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية (نوفمبر 1975)، وهو القرار الذي حاربته إسرائيل طوال عقود لاحقة. نجحت الصومال في جهود حشد مواقف أكثر من عشرين دولة أفريقية وعربية دعما لصدور القرار، خلافا لسيراليون وزامبيا (أفريقيًا) اللتين وقفتا ضده.
تكشف قراءة المواقف والأدوار الأفريقية من "حرب غزة"، التي تجاوزت شهرها السادس، عن اصطفافات أفريقية مماثلة (مؤيدة للحقوق الفلسطينية)، لكن خلف جنوب أفريقيا والجزائر هذه المرة، فيما قادت ثلاث دول تحديدًا، وهي: رواندا وزامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، رسميًا موقف الدفاع عن إسرائيل في الحرب.
المواقف الأفريقية: تباينات طفيفة
برزت المواقف الأفريقية حاسمة تجاه الحرب في غزة، منذ الساعات الأولى التي حضرت فيها مصر طرفًا معنيًا بمآلات هذه الحرب بشكل مباشر، ثم برز التطور الملفت في هذه المواقف منتصف شهر أكتوبر 2023، بصدور بيان مشترك للاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية يدعو للوقف الفوري للأعمال العدائية في غزة، وتكثيف جهود المجتمع الدولي لتوفير المساعدات الأساسية والمعونات الإنسانية العاجلة لسكان القطاع، البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة حسب البيان. وترجع أهمية هذا البيان إلى صدوره بعد التنسيق بين المنظمتين الإقليميتين، ووضعه حدودًا واضحة للدعم الأفريقي للقضية الفلسطينية/ العربية.
كما نجحت الكتلة الأفريقية المناهضة لإسرائيل (بقيادة بريتوريا والجزائر) في منع الأخيرة من حضور أعمال القمة الأفريقية (أديس أبابا- فبراير 2024)، وفي صدور قرار القمة، الذي تلاه رئيس المفوضية موسى فقي وبجواره رئيس الوزراء الفلسطيني حينذاك محمد اشتية، إدانة عدوان إسرائيل بشكل لا لبس فيه، وتجاهل طلب إسرائيل عضويتها في الاتحاد مراقبًا "حتى إشعار آخر". وكان ملفتًا وجود ما يشبه الإجماع الأفريقي، في التصويت في الجمعية العامة بالأمم المتحدة، لصالح مطالب وقف الحرب، وإدانة الانتهاكات الإسرائيلية في توقيتات مختلفة، وصولًا لقرار مجلس الأمن (25 مارس الفائت) المطالب بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، والإطلاق الفوري وغير المشروط للرهائن، وصوتت لصالحه كل من الجزائر وسيراليون ممثلتا القارة الأفريقية في المجلس.
خلافًا لهذا الموقف الأفريقي الجماعي، جاءت مواقف بعض الدول الأفريقية منفردة في تفهم دوافع الحرب الإسرائيلية. ويمكن تلمس ذلك في عدة حالات من مثل: كينيا التي انحاز رئيسها وليام روتو منذ البداية لإسرائيل، كما تبلور في بيان سفير كينيا في الأمم المتحدة، مارتن مبوجوا كيماني، عقب تصويت بلاده لصالح قرار وقف إطلاق النار (أكتوبر 2023)، إذ رفض السفير الإقرار باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. ولم يخفف روتو من مواقفه تلك إلا بعد ضغوط شعبية ومؤسساتية واضحة. كما نحت دولًا مثل: رواندا وإثيوبيا والكونغو والكاميرون نحو الدعم الضمني لإسرائيل (بحكم الارتباطات الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية الوثيقة والمختلفة)، كما اتضح مثالًا في استضافة كيجالي للرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتزوج، بمناسبة مرور 30 عامًا على وقوع الإبادة في رواندا، ما اعتبره البعض تسويقًا ديبلوماسيًا لإسرائيل في أفريقيا، بعد تراجعها المتزايد في الأخيرة (شكلًا على الأقل).
الأدوار الأفريقية في "حرب غزة": بريتوريا تقود
يمكن تفهم تراجع دول من مثل: مصر والمغرب عن قيادة الأدوار الأفريقية تجاه الحرب، في ضوء حساسيات سياسية قائمة، مثل الجوار والمشكلات الأمنية وحسابات ملف التطبيع العربي- الإسرائيلي، وتوخيًا لتصعيد متزايد في هذه الحرب. في المقابل برزت جنوب أفريقيا، والجزائر بقوة أقل، في لعب أدوار وازنة لصالح التسوية السلمية للحرب في غزة، ومساعي وقف نزيف الخسائر البشرية الناتجة عنها.
كما يمكن رصد دور جنوب أفريقيا، باعتبارها الفاعل الأكبر في مناهضة الحرب ديبلوماسيًا، وعبر إجراءات قضائية محددة. وخلافًا لأغلب المواقف الدولية التي عزلت قيادة حركة حماس ديبلوماسيًا، بادرت وزيرة الخارجية الجنوب أفريقية، ناليدي باندور، إلى التواصل هاتفيًا مع رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، في منتصف أكتوبر الفائت، لبحث سبل تسوية الأزمة، الأمر الذي أثار استهجانًا غربيًا ملفتًا، ومثل -على نحو غير مباشر- كشفًا للخط الذي ستتبعه بريتوريا في الأزمة حتى الوقت الراهن. وعززت بريتوريا موقفها بإدانات واضحة للاعتداءات الإسرائيلية، وصلت إلى ذروة جديدة، في نهاية ديسمبر، بإعداد طلب لمحاكمة إسرائيل في محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب الإبادة في قطاع غزة، قدمته بالفعل مطلع العام الجاري. ورغم ما أشار له كثر برمزية هذه الخطوة، فإنها مثلت في المحصلة خصمًا لا يستهان به من "سمعة" إسرائيل الدولية، الأمر الذي دفعها -حسب برقية سرية نقلها موقع Axios- بتوجيه جميع سفاراتها للضغط على الديبلوماسيين والسياسيين ووسائل الإعلام في الدول التي تستضيف تلك السفارات بإصدار بيانات (عاجلة ومكثفة) ضد القضية.
ونجحت جهود بريتوريا في الضغط على إسرائيل (وربما عدد من حلفائها) في المسارين الديبلوماسي والقضائي الدولي بشكل كبير، لاسيما بعد إصدار محكمة العدل قرارًا (26 يناير الماضي) بإلزام إسرائيل (باعتبارها سلطة احتلال) باتخاذ إجراءات "لمنع الإبادة في غزة"، ثم ضغط بريتوريا المستمر لملاحقة إسرائيل، وتنفيذها لهذه الأوامر بتنبيه المحكمة، بعد أقل من أسبوع واحد فقط من صدور هذا القرار، إلى تجاهل إسرائيل "حكم محكمة العدل" المبدئي. وضاعفت بريتوريا من نجاعة دورها في واقع الأمر باتهام إسرائيل لدى المحكمة (20 فبراير) بارتكاب الأبارتهيد بحق الفلسطينيين، ثم مطالبتها (خلال اجتماع بين باندور ولارس راسموسن وزير الخارجية الدانماركي في بريتوريا- 5 مارس 2024) باستخدام القوة لكسر حصار إسرائيل لسكان قطاع غزة.
أما الجزائر، التي يسرت توصل الفصائل الفلسطينية المختلفة، بما فيها فتح وحماس، إلى اتفاق مصالحة في أكتوبر 2022، وتملك سجلًا مطولًا من التنسيق مع بريتوريا في ملف منع حصول إسرائيل على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي. فقد ركزت دورها داخل مجلس الأمن باعتبارها عضوًا غير دائم به، منذ يونيو 2023. وصاغت الجزائر مطلع فبراير الماضي مشروع قرار للمجلس يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس، عارضته واشنطن بحجة "أنه لن يفيد سوى المسلحين الفلسطينيين". كما اعترضت الجزائر مع الصين وروسيا (22 مارس) على مشروع قرار أمريكي "يدين هجوم حماس على إسرائيل"، وجاء الاعتراض قبل أيام من تمرير قرار مجلس الأمن الأخير بخصوص الأزمة، في 25 مارس، ليمثل نجاحًا مهمًا للديبلوماسية الجزائرية أفريقيًا أيضًا.
خلاصة
ترددت أصداء حرب غزة في القارة الأفريقية بشكل واضح للغاية، كما كشفت عنه مواقف الاتحاد الأفريقي وعدد من الدول الأفريقية. كما أوضحت أدوار جنوب أفريقيا والجزائر، والتي حصلت على دعم كبير من عدد من الدول الأفريقية وغير الأفريقية، طبيعة هذه الأصداء الإيجابية في الغالب. وإن لم تخل التوقعات الراهنة من احتمال قدرة إسرائيل على تحقيق موازنة نسبية لهذه المواقف والأدوار، لصالحها حال دخلت المنطقة فعليًا في مرحلة "ما بعد غزة"، ومن بوابة دول مثل: رواندا وإثيوبيا وزامبيا وكينيا على أقل تقدير.