الخميس 21 نوفمبر 2024
بدت تجربة حضور فيلم سينمائي باختيار حر منفرد ومبرر للمرة الأولى مبهرة لفتى في بدء المراهقة، كان الدافع لقطات الإعلان التليفزيوني المدهشة لواحة سيوة، وحكايا الإسكندر الأكبر، وقصة كليوباترا وأنطونيو، ومشاهد بحر سكندري بامتياز، وسط سرد عالم غرائبي غير مفهومة تشابكاته وأبعاده بعد. وبمرور اللحظات تكرر، وسط صالة العرض، قطع صوت مشاهد "ذكي" للمتعة البصرية معلقًا على مشاهد متنوعة من إسقاط الفيلم لأحداث الأمن المركزي، التي شهدتها القاهرة (1986)، قبل عرضه بنحو ثلاثة أعوام فقط، وأن الفيلم ينقد السلطة، وأن قصة الدفاع عن "النقابة" تعني كل المجتمع، وأن الإسكندر المهلهل في الفيلم رمز لزعيم/ إله مشكوك في حقيقته، قبل أن يختفي المتفرج مع نهاية العرض بعد لعبه دور الشارح؛ لكن جملة قصيرة ورد فيها اسم (مدينة) تمبكتو، بنطق شاهيني بامتياز، علقت في ذهن الفتى: ما هي تمبكتو التي ذكرت وسط مدن أخرى مثالًا على مهرجانات سينمائية شتى زارها شاهين بأفلامه؟ بعد سنوات عرف أنها مدينة عاصمة إمبراطورية مالي الشهيرة، وإحدى عواصم السينما القليلة في أفريقيا حينذاك، وأشهر مدن مالي، بلد سليمان سيسي S. Cisse صاحب الأفلام الفارقة أسلوبًا وتميزًا في سيرة "السينما الأفريقية" لاسيما فيلمه الأيقوني Yeelen (الضوء- 1987) الحائز على جائز لجنة تحكيم "كان" المرموقة، والتي طالما حلم بها شاهين، مع سبقه سيسي في صناعة الأفلام بنحو عقدين، وأنهما قدما، مع مخرجين أفارقة رواد مثل السنغالي عثمان سيمبين- أفلامًا هامة في نقد المجتمع والسلطة من باب سينما "السيرة الذاتية"؛ وتتلمذ سيمبين وسيسي سويًا -وبفارق أعوام قليلة- على يد المخرج السوفييتي مارك دونسكوي M. Donskoy (ت. 1981).
على قلة أفلام سيسي مخرجًا (مواليد 1940، وأنجز 8 أفلام روائية طويلة)، فإنها مثلت تنويعًا فريدًا في القضايا التي تناولتها ورؤيته البصرية؛ بحيث اعتبره نقاد كثر صاحب التغير الأبرز في السينما الأفريقية من الواقعية الاجتماعية (التي غلبت عليه أيضًا في أفلامه الأولى) إلى سينما أكثر رمزية ونزعة أسطورية؛ وبالتالي فإنه ارتاد تبني شكل بالغ الأصالة في صنع الفيلم الأفريقي بدءًا من فيلمه "الضوء" (David Murphy, The Conversation, May 14, 2023)، والذي بدا متسقًا مع أفكار سيسي الثورية بشكل واضح في اعتباره (مثل فانون وكابرال) أن الثقافة (الأفريقية) أداة بارزة في التحرر الوطني. وكانت رؤية سيسي الراديكالية قد اتضحت في انتقاده الشهير لتصوير السينما الأوروبية والاستعمارية للأفارقة بأنهم "حيوانات"، وأن "كاميرا البيض تظهر الأفارقة على أنهم لا ينتمون لجماعة بشرية. بل إنهم يصورون الحيوانات الضارية باحترام أكبر"، وأنه ثمة عبء زائد على مخرجي السينما الأفارقة بتأكيد أن بني جنسهم كائنات بشرية وأن "قيمنا يمكن أن يستفيد منها غيرنا" (Ayisi, Florence, The Politics of Representation and Audience Reception, 2013).
وقدم سيسي لمحة من نضالات الطلاب الماليين في عقد الستينيات متضمنًا مشاهد من حياته أو مشاهداته شابًا خلال تلك الفترة في فيلمه Finye (الريح- 1982)، كما عبر في الفيلم (وسابقه Baara في العام 1978 عن الطبقة العاملة) عن مناهضته للحكم العسكري في مالي ودفاعه عن النقابات الأفريقية وهو الأمر الذي سبب له قدر من المشكلات في عمله في مالي دفعه، حسب مقابلة أجرته معه مانثيا دياوارا Manthia Diawara، إلى تغيير أسلوب الواقعية الاجتماعية في هذين الفيلمين إلى تبني أسلوب أقل تصادمًا (مع السلطة) أملًا في السماح له بمواصلة صنع الأفلام في مالي "بقدر من الحرية الفنية" (H. MacRae, Suzanne "Yeelen": A Political Fable of the "Komo" Blacksmith/Sorcerers, Research in African Literatures, 1995). وكان استهلال الفيلم بعبارة "الريح توقظ الفكر"، وهو مثل لدى البامبارا Bambara، مفتاحًا رئيسًا لفهمه، مضافًا له ما ذكره سيسي حول مضمون الفيلم في مادته الدعائية: "في حياة الإنسان دائمًا لحظة عليه فيها التوقف والنظر فيما فعله وما يتوجب عليه فعله مستقبلًا"، ليبدو للمشاهد أن ذلك هو خيار سيسي نفسه في الفيلم، مع ملاحظة أن تصوير الفيلم تم في العام 1980؛ فيما كانت العاصمة باماكو تشهد "أعمال شغب" طلابية وعمالية مكثفة تم تصوير بعضها في الفيلم. ولا يزال فيلم "الريح" واحدًا من اهم الأفلام الأفريقية التي انتقدت السلطة وقمعها، ودافعت عن حقوق الطلاب والعمال.
قدم السنغالي عثمان سيميين مجموعة متميزة من الأفلام التي تراوحت بين قضايا: نقد بنية المجتمع التقليدي، والعنصرية الفرنسية "الناعمة"، والأفكار الدينية السائدة في بلاده موظفًا في ذلك خبراته الشخصية كمؤلف وكاتب سيناريو مخضرم؛ ووصل سيمبين إلى ذروة نقد الاستعمار الفرنسي، استنادًا لحكاية عاينها شخصيًا في شبابه، في فيلمه معسكر تياروي Camp de Thiaroye (1988) الذي يحكي مذبحة أقدمت عليها قوات الاحتلال الفرنسي في المعسكر بحق مجموعة من الجنود السنغاليين في العام 1944 (بلغ عددهم ما لا يقل عن 500 جندي) بعد عودتهم من المشاركة العسكرية دفاعًا عن فرنسا في الحرب العالمية الثانية؛ ومطالبتهم بمستحقاتهم المالية. وقدم سيمبين، الذي كان مجندًا في العام 1944 في القوات الغرب الأفريقية المساعدة لفرنسا في الحرب وتحمل اسم فرق Senegalese Tirailleurs، الرواية السنغالية التي تجاهلتها الوثائق الفرنسية، ما ترتب على منع عرض الفيلم في فرنسا لفترة لا تقل عن 10 أعوام فيما فرضت السنغال رقابة مدققة على عدد من مشاهده.
وتكمن أهمية "معسكر تياروي" في راديكاليته الواضحة تجاه الوجود الفرنسي بشكل عام في السنغال، حتى بعد الاستقلال، وتأكيده أن فرنسا لا تعامل السنغال كدولة على قدم المساواة في جميع الأحوال، وهو ما طرحه سيمبين صراحة وبجرأة بالغة في عدد من أفلامه. ونال الفيلم احتفاءً ملفتًا عند عرضه في مهرجان فينيسيا السينمائي وحصد 6 جوائز أبرزها جائزة لجنة التحكيم الخاصة، كما رشح لنيل الأسد الذهبي.
ومثل الفيلم نقدًا غير مسبوقًا لنظام تجنيد الأفارقة في الجيش الاستعماري الفرنسي، والذي بدأ مؤسساتيًا من قبل المتروبول منذ مطلع القرن التاسع عشر (Thompson, J. Malcolm, Colonial Policy and the Family Life of Black Troops in French West Africa, 1817-1904)، واستمر حتى سنوات الاستقلال الأفريقي؛ الأمر الذي يمكن تلمس تبعاته في التطورات العسكرية الأخيرة بالغة التعقيد في العديد من دول غرب أفريقيا ونخبها السياسية والأمنية.
لاحظ مالك خوري في دراسته القيمة عن سينما يوسف شاهين (Khouri, Malek, The Arab National Project in Youssef Chahine’s Cinema, The American University in Cairo, 2010) لجوء الأخير لتوظيف شخصية "علي" المراوغة في فيلمه الوادع يا بونابرت (1985- أول إنتاج فرنسي مصري مشترك)، والتي لا تختلف بالمناسبة كثيرًا عن شخصية شاهين الحقيقية وخلفياته الثقافية المتعددة، لإعادة بناء/ تفسير الخضوع المصري- العربي (في مواجهة الهجمة الاستعمارية الغربية) ثم التطور الجمعي لنضالات التحرر الوطني، وأن صلة الشاب علي بالقائد/ العالم الفرنسي كافاريلي Caffarelli مثلت بدء مرور الأول برحلة من التفاعل والاقتراب والمواجهات (حتى مع أفراد عائلته، لاسيما بعد مصرع أخيه في حادث انفجار صندوق للألعاب النارية الفرنسية)، وهو مسار كان بدروه مستحيل الحدوث في ظل أية ظروف عادية. ومن ثم فإن بروز هوية "علي" الشخصية ثم الوطنية، حسب خوري، ورؤيته للآخر قد علق، ربما حتى لحظات تاريخية راهنة، في دينامية متناقضة للتفاعل والمقاومة.
ولم يكن "الوداع يا بونابرت" بعيدًا عن فكر شاهين القومي الذي لازمه في أغلب أفلامه مضافًا له، أو قائمًا على، توظيف الجانب الشخصي (لشاهين) كأداة، مباشرة أو غير مباشرة، لحمل رسائل بالغة التفاوت تطال حاضر المجتمع (المصري) ومستقبله. واتضح ذلك الجانب في فيلمه "اسكندرية كمان وكمان" (1989)، الذي شبهه خوري بأنه أقرب لسينما الدراما التسجيلية docudrama، ومثل فيه شاهين بنفسه دور البطل يحيي (اسم شاهين المفضل في رباعية سيرته الذاتية: اسكندرية ليه 1979، حدوتة مصرية 1982، ثم اسكندرية نيويورك (2004 في خضم أزمة الدفاع عن حقوق الفنانين المصريين النقابية في مواجهة قانون جائر كانت الدولة تحاول تمريره دون ضجة.
لكن في مستويات أعمق قدم شاهين تعرية بالغة الجرأة -دون فجاجة واستكمالًا لمكاشفته الذاتية في اسكندرية ليه، وحدوتة مصرية- لذاته وميوله وأحيانًا لتصوراته وعلاقاته في العمل (وصفها في حوار مع مالك خوري بأنها كانت ديكتاتورية من جانبه، وأنها أدت إلى إفشال علاقاته في العمل مع ممثلين كثر)، بل وقراءاته للتاريخ (كما في حوارات مطولة بشأن شخصية كليوباترا، ثم مشاهد حول الإسكندر). وبدا من الفيلم وعيًا بالغ العمق، ومبكرًا ربما، بخطورة تحولات "البترودولار" في المجتمع المصري (في ذروة تمدد الثقافة "الخليجية ومفرداتها" في مصر قبل حرب الخليج 1990 مباشرة) كما وردت بشكل مباشر في حوارات شاهين (يحيي)- يسرا (نادية بطلة العمل)، وتصويره لفجوة جيلية عميقة (فنيًا على الأقل)، انسحبت بشكل واضح على جوانب سياسية واجتماعية بالغة الخطورة. كما وتجاوزت أسئلة الحرية الفنية (في صناعة العمل السينمائي) إلى سؤال التحرر الوطني بشكل عام وفق تصور شاهين.
ختامًا، مثلت التجارب الحياتية الشخصية لعدد من مخرجي أفريقيا معينًا مذهلًا لتمرير رسائل وخطابات إصلاحية، وعلى المستويات الاجتماعية والثقافية وكذلك السياسية. كما بدا من هذا التوظيف جنوحًا لكسر ما اعتبروه تصورات نمطية داخل مجتمعاتهم، ورغبة في تحقيق تحرر اجتماعي وسياسي مهم، أو مستحق حسب السياقات التاريخية لتجاربهم. لكن العقود التالية لهذه الإبداعات ربما برهنت على عمق أزمة المجتمع الأفريقي، لاسيما مع دورانها في حلقات مفرغة. وباتت الآن تساؤلات الحكم العسكري/ المدني كأنها طازجة لتوها في العام 2024، وأن حقوق الطلاب والعمال قد تآكلت ولم تحقق تقدمًا حقيقيًا في أغلب الدول الأفريقية، كما أن تغول البترودولار في المجتمع المصري لم يعد بالأساس مسألة تثير اهتمامًا مجتمعيًا، مع كونه عصب "الإنتاج الثقافي نفسه" الآن (أو مشروطية دائمة لمضمون الإنتاج). وهو ما يظهر من حين لآخر في انكشاف رؤية "الدولة" للثقافة والإرث الحضاري بشكل عام على تصورات استهلاكية تمامًا ومفرغة من آفاق التراجع عن هذه التصورات، مع تآكل مستمر لأية مظاهر حماية للتوازنات الطبقية كانت ترعاها الدولة.