الجمعة 22 نوفمبر 2024
[نُشرت هذه المادة في مجلة The Drift، كتابة إيمان محمد، وهي كاتبة صومالية ومرشحة لدرجة الدكتوراه في التاريخ في جامعة هارفارد. تُقيم في روما، ترجمة: صهيب محمود].
"عادَ تدريس اللغة الإيطالية إلى الصومال!"، بهكذا أعلنت السفارة الإيطالية في الصومال عبر تغريدة في أواخر سبتمبر ٢٠٢١، عن برنامج جديد في جامعة الصومال الوطنية يُعيد تدريس لغة مستعمر البلاد السابق. واستمر التغريد بإنجليزية مترنّحة: "تعلّم لغة جديدة يعني فتح عقلك والاستفادة من فرص غير متوقعّة". تم تداول التغريدة لعدة أيام بشكل ساخر عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الشباب الصومالي. سأل البعض: لماذا يتم تدريس لغة المستعمر للشباب الصومالي بعد نصف قرن من الاستقلال؟ ما الذي كانت السفارة الإيطالية تحاول تحقيقه؟
ردّ بعض الصوماليون، خصوصًا من الجيل الأكبر سناً والذي يشعرون بالحنين للأيام التي كانوا يتحدثون اللغة الإيطالية قبل فوضى الحرب الأهلية للدفاع عن البرنامج الجديد، وأشادوا بفوائد اللغة الإيطالية. تعتبر الذاكرة الجماعية بعد الصراعات أمراً شائكًا. فالحروب تحطّم الجماعة وتعيد تشكيل ذكرياتهم. ويولد التهجير جيلًا يحمل مشاعرًا متناقضة من الماضي؛ من الحنين أو الاستياء منه. تتحول الأطلال الناتجة عن الصراع المسلح إلى رموز لعصر ذهبي مضى. ويغدوا عنف الماضي أكثر رقة بينما تظهر الوحشية في الحاضر أشد إيلامًا. حتى الاستعمار، يغدوا بأساطيره عن النظام والحضارة أقل فظاعة في ضوء الأحداث التي تلته.
ليست إيطاليا هي الدولة الاستعمارية الأكثر حضورا في الذاكرة من بين الإمبرياليين الأوروبيين الآخرين (حيث تمتلك تاريخها الخاص من السيطرة من قبل المستعمرين الأسوأ صيتًا)، كانت إمبراطوريتها في وقت ما ثالث أكبر إمبراطورية في أفريقيا. لكن بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، اضطرت إيطاليا على التخلي عن مستعمراتها، حيث تم احتلال ليبيا من قبل الحلفاء حتى عام 1951، ووقعت إريتريا بيد إدارة البريطانيين حتى عام 1950، وقد تم دمجها بإثيوبيا بعد استعادة الإمبراطور هيلا سيلاسي السيادة عليها قبلها بعدة سنوات. لقد كانت الصومال الاستثناء الوحيد من كل ذلك؛ ورغم أن البلاد نالت الاستقلال رسميًا في عام 1960، إلا أنها بقيت حتى التسعينيات آخر معقل للثقافة الإيطالية في القارة الإفريقية. وكان الإيطاليون والمتحدثون بالإيطالية ينتشرون في أجزاء كبيرة من شوارع جنوب الصومال، أو المنطقة التي كانت سابقاً تسمى صوماليا إيطاليا، دون الشعور بالغربة عن الثقافة الإيطالية. وكانت تنتشر رموز الثقافة الإيطالية، من العمارة إلى المأكولات في كل مكان، وخاصة في العاصمة مقديشو. ولكن تغير كل شيء بعد اندلاع الحرب الأهلية الصومالية.
تفشّى العنف في العاصمة في 1990، وفي يناير من العام التالي، انهارت الدولة المركزية، وقُتل الآلاف، وتشرّدت أعدادٌ أكثر إلى مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة. وتم تكريس قصة الصومال في المخيلة العالمية على أنه بلد في صراع دائم منذ ذلك الحين: العنف والمجاعة وسقوط الصقر الأسود والحرب على الإرهاب والقرصنة وما إلى ذلك. بالنسبة للكثير من الصوماليين من جيلي الذي ولُد بعد اندلاع الحرب، تتنافس صورة الصومال كقدر طبقي يغلي بلا توقف مع رواية معاكسة: أمة تنهض من رمادها.
في منتصف التسعينيات، عندما انسحبت القوات الإيطالية مع بقية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي نُشرت خلال الحرب الأهلية، بدا أن المُستعمر السابق قد تخلى عن الصومال بشكل نهائي – إلا أن العكس هو الصحيح. في التحول الذي نتج عن الصراع في Mogadiscio (الآن مقديشو)، تم تطهير كل العلامات الثقافية الإيطالية. وتدمّرت المباني الاستعمارية في أثناء القتال، وبطريقة أكثر تدريجية، توقفت الإيطالية عن كونها لغة الاتصال بين النخب المتعلمّة في الصومال. ويقول بعض الناس إن الحرب أكملت عملية تصفية الاستعمار الطويلة عن طريق كسر علاقات الصومال الثقافية والسياسية والاقتصادية مع إيطاليا.
ولكنَّ عملية تصفية الاستعمار ليست بسيطة كما تبدوا للوهلة الأولى، ولا تنتهي عندما يحصل البلد على الاستقلال القانوني. في جميع أنحاء العالم، تم إعادة إنتاج العلاقات الإمبريالية وتقديمها بصورة عمل إنساني ومساعدات وتبادل ثقافي وبرامج لبناء القدرات التي من المفترض أن تساعد مواطني الدول الما بعد استعمارية على مساعدة أنفسهم. برنامج تدريس اللغة الإيطالية في الصومال جزء من برنامج من هذا النوع، ويبدو ظاهرياً بما فيه الكفاية حتى تعرف أن شركة الدفاع الإيطالية الرائدة تعمل بجد لتعزيز إعادة تأهيل اللغة الإيطالية في الصومال، بنية صريحة لإحياء شبكة النفوذ الإمبريالية للبلد في إفريقيا والشرق الأوسط. وإذا كان تاريخ الصومال مؤشراً على أي شيء، فإن برامج بناء القُدرات سوف يخدم فقط في بناء أو إعادة إنتاج القدرة على الاعتمادية.
في السنوات الأولى بعد تأسيس مملكة إيطاليا في عام 1861، بدت المشاريع الاستعمارية في الخارج متناقضة مع روح الـ"ريزورجيمينتو" (Risorgimento)؛ حركة التحرير والوحدة الثورية التي قاتل فيها الإيطاليون لطرد الهيمنة النمساوية من شبه الجزيرة الإيطالية. ولكن بعد ذلك، بدأ الساسة ورجال الأعمال في النظر إلى الاستعمار على أنه طريقة جذّابة لتعزيز سمعة إيطاليا كقوة أوروبية شرعيّة. تناقضتْ رسائلهم الأخلاقية مع المنطق المألوف: إن لإيطاليا واجبًا في نشر ثقافتها ومثالياتها للأمم "غير المتحضرة". كما جادل وزير الخارجية باسكالي ستانيسلاو مانشيني، الذي كتب مرة أن لكل أمة حقٌ أساسيٌّ في الدولة، وأن الحفاظ على المستعمرات " تماماً كما أن العلاقة المسماة الوصاية شرعية في القانون الخاص، فإنها شرعية بنفس القدر في المجتمع الدولي". وأصرّ على أن الوصاية، وهو مفهوم قانوني روماني قديم يسمح بالتّحكم في "الذين يعانون من عجز بسبب العمر أو الضعف العقلي"، "لا يتعارض مع مبدأ استقلال ومساواة جميع الكائنات البشرية". لقد أخفت النسخة الإيطالية من المهمّة الحضاريّة ما أخفته كل حملات المهمات المحملة بالحضارة الإمبريالية - عنف الغزو، وضراوة المقاومة، ووحشية الاستعمار اليومية. أصبح الصوماليون فريسة لطموحات الاستعمار الإيطالية - تم تجنيد بعض الصوماليين للقتال في الحملات العنيفة التي شنّتها إيطاليا في ليبيا وإثيوبيا، بينما اضطر البعض الآخر للعمل في مزارع القطن والسكر التي تملكها إيطاليا في نظام لا يبتعد كثيراً عن العبودية. فما الذي يفترض على الصوماليين تقديره في هذا النوع الوحشي من الوصاية؟
لم يتصورّ مانشيني أن نفس المنطق سيُستخدم بعد عقود لتبرير مفهوم "الوصاية" الذي تم صياغته بعد الحرب العالمية الثانية كوسيلة قانونية للدول للعمل كموجهّين للأقاليم التي لا يوجد فيها حكم ذاتي. وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، فإن الوصاية مصمّم "لتعزيز التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي لسكان الأقاليم الخاضعة للوصاية، وتطويرها تدريجيًا نحو الحكم الذاتي". لم تصبح إيطاليا دولة عضو في الأمم المتحدة حتى عام 1955، ولكنها تمكّنت من تولّي الوصاية على جنوب الصومال كشرط لمنح استقلال الصومالي مستقبلًا. وقد قدّم الدور الجديد فرصة لإيطاليا لإعادة بناء مكانتها كحليف غربي جيد للدفاع عن نطاق نفوذها في القرن الأفريقي. بصفتها وصيّا كان من المفترض أن تساعد إيطاليا الصوماليين على بناء دولة مستقلة - لخلق مؤسسات قانونية وسياسية، وتطوير الاقتصاد، وتشكيل فئة حاكمة يمكنها أن تمسك السلطة لاحقًا. وتمثل منطق هذا النظام بأن الحكم يجب أن يتم تلقينه قبل ممارسته.
في ذلك الوقت، كان هناك جدلٌ شديد حول ما إذا كان ينبغي أخذ هذه الفكرة الأبوية. بعد الحرب العالمية الثانية، ازدهرت الحركات التحررية والمناوئة للاستعمار في جميع أنحاء العالم، وحفّزت الصراعات المحلية الآخرين عبر الحدود. وكان عبد الله عيسى، زعيم الرابطة الشبابية الصومالية (SYL) وأحد أبرز الزعماء القوميين في البلاد، مدعومًا من روي ويلكنز وغيره من أعضاء منظمة قيادة النضال لإنهاء عدم المساواة العنصرية (NAACP). ساعدت المنظمة في إطلاق حملة إعلامية تتضمن الإذاعة والطباعة في الولايات المتحدة والصومال للدفاع عن رفض العودة الإيطالية. استنادًا إلى تجربته الشخصية في العيش تحت حكم الإيطاليين، انتقد عيسى وحلفاؤه بشكل شديد الهيمنة الاستعمارية. في ذلك الوقت، كان القوميون الصوماليون يتصورون "الصومال الكبير" والذي يضمّ كلًا من: "صومالي الجنوب الفرنسي (جيبوتي الحديثة)"، و"صوماللاند البريطانية"، و"صوماللاند الإيطالية"، و"الصومال الغربي (الجزء الشرقي من إثيوبيا)"، و"الحدود الشمالية لكينيا البريطانية (مقاطعة شمال شرق كينيا)". كانت تتطلب الخطة الراديكالية لإعادة توحيد الصوماليين الذين تم تقسيمهم بحدود الإمبريالية أن يتخلّى الفرنسيون والبريطانيون عن سيطرتهم على القرن الإفريقي، وهو ما لم تكن أيًا من الدولتين مستعدة لقبوله.
لم تكن تحتكر الرابطة الشبابية الصومالية (SYL) الرأي السياسي في الصومال. كانت هناك أحزاب سياسية أخرى تحشد المجتمعات التي كانت تشكّك بالوحدة. كانت هذه المجموعات على دراية، كما شرح المؤرخ محمد حاجي مختار، بـ "الفروقات الاقتصادية والثقافية واللغوية المهمة بين السكان الجنوبيين وغالبية الصوماليين الرحل في الشمال". وكان بعض هذه المجموعات، مثل المجتمعات الزراعية في الجنوب، وهم بمثابة السلة الغذائية للبلاد، قلقين بحق من أن الدولة المركزية ستنتهك حقوق أراضيهم. لقد تحملوا بالفعل نصيبهم الأكبر من وحشية الاستعمار، حيث تم مصادرة أراضيهم وعمّالهم في عهد الاحتلال الإيطالي. ومن المفارقة، أنه في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، كانت تعتقد هذه المجموعات أن الوصاية الإيطالية ستحمي مصالحهم ضد القوميين.
بالرغم من الاختلافات العديدة بين تحالف المواليين لإيطاليا وبين الرابطة الشبابية الصومالية، إلا أن الطرفان اتفقا على موقف واحد: وهو أن الصومال غير مستعدّ بعد للحصول على الاستقلال. حتى المنافحون عن الصومال الكبير كانوا يرغبون في تولّي لجنة أممية مؤلّفة من أربعة قوى لمدة عشر سنوات الحكم، واعتبرت الأحزاب المؤيدة لإيطاليا، في إعلان عام 1948، أن الصوماليين بحاجة إلى إيطاليا، دولة أوروبية "صادقة ومنحازة" لـ "توجيه" بلدهم الناشئ نحو "النضج" و "الانضمام إلى الشعوب المتحضرة بحق". بالطبع، تم استخدام إطار قانوني غربي لتعريف ما يمكن اعتباره دولة "متحضرة" و "شرعية". وبهذا الأساس، اعتبروا أن مجتمعهم الصومالي يعاني من النقص.
وقد عزّز الوجود الإيطالي المستمر هذا الشعور بعدم الجاهزية للاستقلال، وقيّد آفق الإمكانية السياسية. قبل الانتداب، قامت الرابطة الشبابية الصومالية بتحريك آلاف الصوماليين نحو برنامج معادٍ للاستعمار ومعادٍ للإيطاليين. في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كان يعمل قادة الرابطة الشبابية الصومالية بنشاط مع المسؤولين الإيطاليين، على أمل تمكّنهم من تولّي السلطة بعد الاستقلال وتغيّر اتجاه عبد الله عيسى، الذي أبلغ الأمم المتحدة في وقت سابق إن شعبه "يفضّل الموت على عودة الحكم الإيطالي"، بمجرد توليه السلطة. ففي عام 1956، تم تعيينه رئيسًا للوزراء، وأشاد بإيطاليا لعودتها "إلى التقاليد النبيلة لـRisorgimento، وهي تقاليد تتجذر في روح الأخوّة بين البشر ودعم الشعوب المضطهدة في النضال من أجل الحرية". وقد طُرد قادة الرابطة الذين استمروا في مناوئة الحكم الإيطالي.
كان الهدف المُعلن للوصاية الصومال تطوير استعداد البلد للحكم الذاتي الديمقراطي، لكن في عام 1960، أصبحت دوافع إيطاليا المتمثلة في مصالحها الذاتية واضحة. فعندما نالت البلاد استقلالها في ذلك العام وحاولت الانضمام إلى الكومنولث البريطاني، هدّد وزير الخارجية الإيطالي بسحب الدعم المالي والفني الحيوي. وكما كتب محمد آدم شيخ، الذي كان آنذاك يدرس في روما وأصبح فيما بعد عضوًا في الحكومة الصومالية: "ما يؤلمنا هو هذه الطريقة الوحشية التي تريد إيطاليا وضعنا تحت قبضتها السياسية". وواصل "تدعي إيطاليا أنها تريد أن ترانا مستقلين حقاً... [لكنها] لا تدخّر جهدًا في وضع شروط وحدودٍ لهذا الاستقلال".
في 1 يوليو 1960، تشكّلت الجمهورية الصومالية عن طريق اتحاد صوماللاند البريطانية، وصوماليا الإيطالية، وهي خطوة نحو الصومال الكبرى التي كان حلم بها القوميون قبل عقود، لكن الدولة الجديدة حافظت على عاصمة الاحتلال الإيطالي في مقديشو. حتى بعد الاستقلال، كانت المعالم الرئيسية في المدينة إيطالية: فندق كروتشي ديل سود، وبار نازيونال، ومستشفى جياكومو دي مارتينو، وكاتدرائية مقديشو. وتم تشييد أول مبنى للبرلمان الوطني في الأصل من قبل الحكومة الاستعمارية عام 1938 باسم "كازا ديل فاسيو"، مقر الحزب الفاشي. وكما عبّرت الكاتبة الصومالية شيرين رمزنالي فازيل، فإن مقديشو كانت تشبه "بلدة إيطالية محلية".
بصفتها وصيًا، كان على عاتق إيطاليا واجب تأمين تدريب الصوماليين لتولّي السلطة. خلال فترة الفاشية السابقة، كانت الدولة قمعية في سياساتها التعليمية للمواطنين الذين تحتلهم - لم يكن "السكان الأصليون" بحاجة إلى معرفة أكثر مما يكفي للعمل كخدم في المنازل (الصبيان والصبايا)، وجنود، ومترجمين وكتبة. كان بإمكان الصوماليين الالتحاق بالمدارس الابتدائية المعزولة عنصريًا والتي يديرها المبشرون حتى الصف الرابع فقط، وحتى هذا الحد الأدنى من التعليم كان يقتصر بشكل كبير على أبناء رؤساء موظفي الدولة (capi stipendiati)، وأولئك الذين عملوا في الإدارة الاستعمارية أو الجيش. وكان يسجّل فقط بضع مئات من الأطفال في هذه المدارس كل عام، وهو رقم بعيد عن الأعداد اللازمة لتأسيس طبقة حاكمة ومتعلمة.
بالإضافة إلى تنفيذ التفويض الصادر عن الأمم المتحدة، أصبح إنشاء نظام جديد للتعليم العام، المستند إلى المناهج الوطنية الإيطالية، وسيلة لإنشاء طبقة جديدة من الطبقة النخبوية الناطقة بالإيطالية والتي ستستمر في الحفاظ على التأثير الإيطالي لعقود. درس هذا الجيل من الصوماليين الكوزموبوليتيين دانتي ومكيافيلي في المدرسة، وكانوا يحتسون الكابتشينو، ويقودون سيارات فيات 500 ودراجات نارية من النوع فيسبا، وكانوا يجيدون اللغة الإيطالية بإتقان، بعضهم دون أن يغادر مقديشو. (تم إرسال بعض الأطفال للدراسة في روما وميلانو على منح دراسية من وزارة الخارجية الإيطالية). كانوا يعتبرون أنفسهم "Ilbax"، وهي كلمة صومالية تعني من لديه الحس الحضري والحداثي، مع توجه خارجي نحو الشرق والغرب. وكانت أحد أهم الأشياء التي تميزت بها هذه المجموعة من الموغاديشويين عن الأشخاص الذين اعتبروهم الوافدين الُبسطاء الجُدد من المناطق النائية - Reer Baadiyo - هو تشربّهم للثقافة الإيطالية.
والدي موغديشاوي من هذا الجيل. وُلد خلال السنوات الأولى للوصاية الإيطالية في الصومال، واستفاد من التعليم والثقافة الإيطالية. في عشية استقلال البلد، كان ملتحقًا في مدرسة ابتدائية خاصة يديرها الرهبان الفرنسيسكان الإيطاليون. عندما أوصلته عمته المدرسة، استبدل اسمه برقم: "37". والذي اعتمده منذ ذلك الحين، تحدّدت حياته المبكّرة بالانضباط والجديّة. كان يُوقظ مثل العشرات من الطلاب الآخرين الذين يشاركونه نفس الغرفة بجرس. كان جدولًا زمنيًا تتحكم ساعاته في الدراسة واللعب والعمل. خلال تقديم وجبات الطعام، كان عليهم الوقوف حاملين أطباقهم حتى يصل الأب الكاهن إلى رأس الطاولة الجماعية، ويعلن: "Buon appetite!" ويجيب الصبية بصوت واحد "Grazie".
كانت تهدف هذه الطقوس، على حدّ قول أحد المعلّقين الأوروبيين المعاصرين، إلى "حُقن جسيمة من الحضارة الحديثة، والتي تختلف كثيرًا عن طريقة حياة الأفارقة". كانت الاستقلالية مرادفة للحضارة. أي أن تكون متحضرًا تعني أن تصبح إيطاليا.
وكما يلاحظ الروائي الصومالي نور الدين فارح في عام 1995: "ليس صدفة أننا نرث الهيمنة اللغوية لأولئك الذين كانوا أو ما زالوا على رأس الإمبراطوريات.. ولا تتوقف هذه اللغات تمامًا عن احتلالها مكانة مركزية في حياة من يتحدثون بها حتى بعد تفكّك تلك الإمبراطوريات". وتعد اللغة جزءًا أساسيًا من تاريخ القومية الصومالية. ففي وقت الاستقلال، لم تكن اللغة التي كانت تجمع الشعب الصومالي العابرة للحدود الإمبراطورية قد أُنشأت كنظام كتابة رسمي وموحد، وبدون هذا النظام الأساسي للكتابة، لم يكن من الممكن أن تكون لغة الدولة. اقترح البعض استخدام الحرف العربي؛ وعندما تسربّت شائعات أن لجنة علمية مكوّنة من خبراء في اللغة الصومالية قد اقترحت استخدام الخط اللاتيني كخيار عمليّ، وقعت أعمال شغب في الشوارع. وفي نهاية المطاف، لم تكن الإدارتين الصوماليتين المنتخبتين ديمقراطيًا قويتين بما يكفي لفرض توصيات اللجنة، واستمروا في إجراء الشؤون الحكومية باللغتين الإيطالية والإنجليزية.
لقد تطلّب حل مشكلة اللغة تغييرًا ثوريًا في شكل انقلاب عسكري في عام 1969. أطلق الضباط الذين نفذوا الانقلاب على أنفسهم "المجلس الثوري الأعلى في الصومال"، واعتمدوا الاشتراكية العلمية كأيدلوجية وطنية. وفي برنامجهم المؤلّف من عشر نقاط والذي تم الإعلان عنه على الإذاعة بعد الانقلاب، جاء اعتماد النظام اللاتيني لكتابة اللغة الصومالية في النقطة الخامسة.
بعد مرور ثلاث سنوات، أصبح هذا التغيير رسميًا. وبعدها بفترة وجيزة، قامت الدولة بتأميم التعليم، وإغلاق المدارس الأجنبية وفرضت دراسة اللغة الصومالية على جميع الطلاب، واستخدام الكتب المطبوعة الحديثة، بما في ذلك القواميس وكتب النحو الجديدة المطبوعة بالأبجدية الجديدة. وأصبحت تُصدر البيانات الحكومية والجريدة الرسمية للدولة باللغة الصومالية بدلاً من الإيطالية. وفي أكبر مشروع لها، قامت الدولة بحملة القضاء على الأمية بإرسال آلاف الطلاب الصوماليين ومعلمّيهم إلى القرى والمجتمعات الرعوية لنشر الأبجدية الجديدة.
على الرغم من هذه الثورة اللغوية، لم تضعف قبضة الثقافة الإيطالية على الصومال بعد. رغم الضغط القوي من قبل الجماهير والسياسيين لإنشاء تعليم عالٍ باللغة الصومالية أو الإنجليزية، تم تأسيس أول جامعة في البلاد بالتعاون بين الإيطاليين والصوماليين. ودفعت إيطاليا تكاليف إنشائها وأرسلت علماء إيطاليين لتدريس الطلاب الصوماليين في كل عام. في منتصف الثمانينات، كان الإيطالية هي وسيلة التعليم في تسعة من اثني عشر كلية في الجامعة. وكان من الضروري على الطلاب الذين لم يدرسوا الإيطالية رسمياً أن يتعلموا اللغة لبضعة أسابيع قبل بدء مرحلة درجة البكالوريوس. دخل الكاتب الإيطالي جوزيبي غسيليني متجراً في عام 1988، في أول يوم سياحي له في مقديشو، وسأل إذا كان هناك أي شخص يتحدث الإيطالية. فأجابه رجل صومالي عجوز: "لا تعرف مقديشو، الجميع يتحدث الإيطالية هنا".
إن حكومة الثورة، وعلى الرغم من إعلانها محاربة قيود الاستغلال الاقتصادي الإمبريالي، إلا أنها لم تسعَ إلى قطع الروابط مع الاستعمار السابق، وفي نفس الوقت، تقرّبت من القوى الأكثر أهمية في الحرب الباردة. وكانت متحالفة مع الاتحاد السوفيتي حتى وصول انحياز موسكو إلى جانب إثيوبيا في الحرب التي اندلعت عام 1977، وبعد ذلك أصبحت الصومال حليفاً للولايات المتحدة. وبدأ الدكتاتور الصومالي محمد سياد بري الذي كان يشعر بالاستياء (من الهزيمة العسكرية) في ملاحقة الأعداء السياسيين، الحقيقيين والوهميين، وذلك بفضل المساعدات العسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة. وبدأت سلطة الدولة تتركز في أيدي عائلته وأقاربه. وأصبح التجنيد العسكري الإجباري والفساد والقتل خارج نطاق القضاء ممارسات شائعة طوال عقد الثمانينيات. ومثّل قرار بري بقصف مدينتين في شمالي الصومال تحت ذريعة محاربة مجموعات المعارضة الخط الأحمر للكونغرس الأمريكي، حيث انسحبت الولايات المتحدة من تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية عام 1988، ولكن بحلول ذلك الوقت كان قد فات الأوان بالفعل. وبدأت الحرب الأهلية.
في النهاية، أدى احتدام المعارك إلى انهيار الدولة في عام 1991، ألقى بعض المراقبين الخارجيين اللوم على الصوماليين لفشلهم في تعلّم كيفية حكم أنفسهم. أصبحت الحرب الأهلية، مثلما حدث في عملية التحرّر من الاستعمار في السابق، مبررًا للتدخلات التقليدية والجديدة من القوى الغربية. في أوائل التسعينات، اقترح المحلّلون الدوليون إعادة نظام الوصاية في الصومال. كتب روبرت إي. روتبرج، الرئيس السابق لمؤسسة السلام العالمي والذي ترأس فيما بعد هيئة التدريس في كلية كينيدي في هارفارد: "قد تثير إعادة الاستعمار مخاوف بين بعض الدول الجديدة.. ولكن دولة مثل الصومال وصلت إلى قعر فوضوي، لم يكن لدى الأمريكيين خيار سوى التدخل نيابةً عن النظام العالمي الجديد أحادي القطب. وبالمثل، ليس لدى الأمم المتحدة الآن خيار آخر سوى حكم الصومال حتى تتمكن من حكم نفسها." في عام 1992، قام تحالف الأمم المتحدة، والمكوّن من جنود من عشرات الدول التي تقودها الولايات المتحدة بالتدخل في الصومال، بدعوى مراقبة وقف إطلاق النار وحماية توزيع المساعدات الإنسانية ظاهريًا، لكن مهمتها توسّعت لتشمل إقامة دولة صومالية جديدة. وكما فشلت جهود الولايات المتحدة في بناء دولة في العراق وأفغانستان، لم يتم تحقيق أي تقدم حقيقي، وانسحبت قوات حفظ السلام في نهاية المطاف في عام 1995. لقد تميّزت السنوات التي تلت بعد ذلك بالتدخل العسكري الأجنبي المتقّطع، وحرب الطائرات بدون الطيار، وحملات مكافحة الإرهاب، وعمليات السلام وإعادة الإعمار التي لا تنتهي. وقد تحولت الصومال، كمختبر لاختبار أساليب السيطرة والمراقبة والتدخل، وأصبحت جزءًا مما يُسمّى "الإمبراطورية الأمنية الجديدة"، على حد وصف الأنثروبولوجية كاثرين بستيمان.
تُؤمَّن الحكومة الاتحادية الصومالية الحالية بواسطة قوات الاتحاد الأفريقي التي تُدار بمساعدات خارجية. وتتجول النّخب السياسية حول العاصمة في سيارات لاندكروزر مصفّحة، لاستعراض سلطتهم، ولكن الحكومة تواجه عقوبات قاسية، وديون تصل إلى حوالي خمس مليارات دولار للمؤسسات المالية الدولية، ومراقبة مستمرة لجهود الحرب على الإرهاب التي يقودها الأمريكيون، ويبدو الحكم الذاتي الفعلي مستحيلاً من وجهة نظر مقديشو. لا تزال حركة الشباب، المتشددة والمرتبطة بتنظيم القاعدة تحكم مناطق واسعة من جنوب الصومال، وتشكّل تهديدًا وجوديًا للحكومة الفيدرالية، التي تعتمد على الولايات المتحدة وتركيا والاتحاد الأوروبي للحصول على مليارات الدولارات في التدريب العسكري وضربات الطائرات بدون طيار والعمليات الاستخباراتية والدعم اللوجستي. وتعاقدت الحكومة الصومالية مع شركات أجنبية مقربة من الدولة التركية لإدارة الأصول العامة مثل ميناء المدينة في العاصمة والمطار الدولي. ويعتمدُ جزءٌ كبير من المجتمع المدني، مثل منظمات حقوق المرأة إلى الصحافة ومراكز الأبحاث، على دعم المانحين الخارجيين.
بالمقارنة مع الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج، تعتبر إيطاليا حاليًا لاعبًا ثانويًا في الصومال، ولكن هناك سبب للتفكير في أن هذا الأمر قد يتغير. ففي عام 2014، أعادت إيطاليا فتح سفارتها في مقديشو، وخلال العقد الماضي، تضاعفت مساعداتها للصومال. وفي عام 2020، وقّع البلدين مذكرة تفاهم. كما ساعدت إيطاليا في تمويل إدارة الانتخابات الصومالية في عامي 2012 و2016، وتقود بعثة الاتحاد الأوروبي لتدريب القوات المسلحّة الصومالية، مساهمة بأكبر عدد من الجنود. كما أقر الرئيس الصومالي السابق محمد عبد الله محمد ("فارماجو") بعلاقات بلاده التاريخية بالمستعمر السابق، إيطاليا، وأرسل عشرين طبيبًا إلى إيطاليا خلال أزمة الجائحة التي مرت بها إيطاليا في الأسابيع الأولى من كوفيد-19. وفي العام الماضي، زار وزير الخارجية الإيطالي الرئيس الصومالي المنتخب حديثًا، حسن شيخ محمود، ويساعد الإيطاليون الآن في تدريب ضباط الشرطة والجيش الصوماليين. وبالتعاون مع أساتذة من جامعة بوليتكنيكو دي ميلانو الشهيرة، تعمل وكالة التعاون الإيطالية للتنمية على إعادة بناء الجامعة الوطنية الصومالية التي تأسست خلال فترة الوصاية الإيطالية وأغلقت خلال الحرب. ومنذ عدة سنوات، تبعتثُ محاضري الجامعات الصومالية لمواصلة تعليمهم في الجامعات الإيطالية.
المبادرة الجديدة لإحياء الثقافة الإيطالية في الصومال تقودها منظمة تسمّى مؤسسة ميد-أور. Med-Or Foundation (والتي تعني البحر الأبيض المتوسط-الشرق الأوسط) وهي الذراع الثقافي لأهم شركة دفاع إيطالية، ليوناردو، والتي هي نفسها مملوكة جزئيًا لوزارة المالية الإيطالية. تأسست المؤسسة في عام 2021، تحت قيادة ماركو مينيتي، الوزير السابق للداخلية والذي وُصف بأنه "صانع ملوك القرار في السياسة الإيطالية في مجال الاستخبارات". في نفس العام، وقعت ميد-أور مذكرة تفاهم مع حكومة الصومال لتعزيز اللغة الإيطالية من خلال دورات تدريبية ومنح دراسية للطلبة الصوماليين للدراسة في إيطاليا. في 1 يناير 2022، بدأت الإذاعة الوطنية الصومالية بث نصف ساعة من البرامج الإيطالية كل يوم - وهو أمر ملفت للنظر بما أن عدد الصوماليين الذين يفهمون اللغة الإيطالية باتوا قليلين جدًا. كما لاحظ الخبير الصومالي عبد النور طاهر عند الإعلان عن البرنامج، "إن الجيل القديم الذي كان يتحدث الإيطالية قد توفي أو غادر البلاد، لذا البث بلغة لا يتابعها أحد على الأرض هو إضاعة للموارد".
لكن مبادرات ميد-أور لا تهدف إلى تلبية احتياجات الصوماليين أو التركيز على مصالحهم. صرّح السفير الإيطالي في الصومال، ألبرتو فيكي، بأن برنامج الإذاعة هو جزء من مشروع أكبر وأكثر تعقيدًا يهدف إلى تعزيز الأمن عبر البحر الأبيض المتوسط بأسره، وصف مينيتي هدف ميد-أور بتشجيع "الحوار مع أولئك اللاعبين الدوليين الذين يعتبرون إيطاليا محاورًا طبيعيًا". وأضاف أن المنظمة تعمل على إقامة "شراكات" مماثلة في أماكن أخرى، على أمل بناء شبكة تمتد في جميع أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط. باستخدام ميد-أور لتعزيز العلاقات مع الحكومات في هذه المناطق، يتسارع نمو ليوناردو، حيث تسجّل مبيعات بمليارات الدولارات للحكومات الأجنبية سنويًا.
تلعب الصومال دورًا خاصًا في هذا النطاق. يرى مينيتي أن الصومال "شريك مفتاحي بالنسبة لنا في القرن الأفريقي"، ويعتبر برنامج اللغة نفسه وسيلة لـ"تعزيز التعاون والعلاقات الثنائية" الذي "يتماشى مع الجهود الإيطالية في الصومال". في عام 2021، نشرت مؤسسة ميد-أور مقالًا بعنوان "لماذا نحتاج إلى الصومال؟"، وجادل المقال بأن "أوروبا وإيطاليا يجب أن يدركا أنه إذا لم يتم إنقاذ الصومال، فإن القرن الأفريقي بأسره سيضيع". القلق الذي لم يُعلَن عنه بخلاف تهديد حركة الشباب المجاهدين، هو الموقف الاستراتيجي للصومال فيما يتعلق بما يسمى "أزمة المهاجرين" في أوروبا. بدون الصومال، يفقد أوروبا "حاجزًا ضد سلسلة من الأزمات المحتملة التي ستؤثر أيضًا على أوروبا وشركائها". ساعد مينيتي في إشراف إيطاليا على النهج سيئ السمعة تجاه المهاجرين، وحدّ من عمليات البحث والإنقاذ، وهدّد برفض القوارب الإنسانية بالرسو، وحتى محاكمة قادة تلك السفن بجرائم الاتجار بالبشر. في ليبيا، نشر مينيتي قوات بحرية وتعاون مع خفر السواحل الوطني لمنع طالبي اللجوء من مغادرة القارة الإفريقية. وقد تم تسمية مينيتي بـ"وزير الخوف"، وتم تثمين سياساته من قبل اليمين الإيطالي. على الرغم من انتقاله من الحكومة إلى Med-Or، يمكننا التوقع بأن مينيتي سيستمر في السعي نحو أجندة مماثلة - خلال برامج التبادل الثقافي وبناء القدرات، مهما بدت بريئة.
في كتابه الكلاسيكي الصادر عام 1965 بعنوان "الاستعمار الجديدة: المرحلة الأخيرة من الإمبريالية" وصف الرئيس الغاني كوامي نكروما الاعتماد الاقتصادي الذي يحافظ على العلاقات الاستعمارية بعد انتهاء الحكم الأوروبي الرسمي. وبهذا الصدد، كشف نكروما، على حد قول عالم العلوم السياسية أدوم جيتاشيو، كيف أن "الإجراءات التي بدت على أنها قرارات تشريعية حرة لدولة مستقلة هي في الواقع نتيجة للاعتماد على دول أخرى، أو على جهات خاصة، أو على المنظمات الدولية". وبعد شهر من نشر الكتاب، وبينما كان نكروما لا يزال في المنصب، قررت الولايات المتحدة احتجاز مساعدات غذائية بقيمة 100 مليون دولار عن غانا. وكما لاحظ نكروما بذكاء مستقبلي: "الإمبريالية تغيّر من تكتيكاتها ببساطة".
أصبح بناء القدرات واحدة من تلك التكتيكات الجديدة، على حد تعبير نكروما. وقد جادل الفلاسفة السياسيون سيلفيا فيديريتشي وجورج كافينتزيس إن هذه البرامج النيوليبرالية تهدف إلى تدريب النخب السياسية والاقتصادية الأفريقية "لقبول الدور المتقلّص الذي تلعبه أفريقيا في الاقتصاد العالمي" ورؤية مصالحهم المادية والأمنية على أنها تحالف مع أولئك في الشمال العالمي. وكما قال مينيتي في تفسيره الصريح لمبادرات ميد-أور، "تستخدم جميع الدول الصناعية هذا النوع من الأدوات لتعزيز علاقاتها". وأضاف: "النتائج غالباً ما تكون قابلة للتقدير."
في الأربعينيات من القرن الماضي، كان بإمكان الصوماليين اللجوء إلى اليسار الدولي والبان أفريكانيزم وبلدان العالم الثالث الأخرى للحصول على الدعم، مستندين إلى مواقف نقدية قوية وبنية تحتية مناهضة الاستعمار. خلال تلك الفترة الحافلة، وعلى الرغم من استمرار تأثر الصوماليين بالثقافة الإيطالية والتبعية السياسية والاقتصادية، كان العديد منهم يتصارعون حول ما يعنيه أن يكونوا مستقلين. وكانت الذاكرة الحديثة للهيمنة الإيطالية تحفِّزهم على النضال بنشاط ضد الماضي الاستعماري بطريقة لا يمكن للصوماليين المعاصرين مواكبتها.
بالنسبة للعديد من الصوماليين الذين يعانون حاليًا من أسوأ موجة جفاف منذ أربعة عقود، بالإضافة إلى الاستغلال الذي تمارسه حركة الشباب والسلطات الحكومية، فإن تنظيم احتجاجات تعكس السخط الشعبي قد يبدو كرفاهية، إن لم يكن خطراً. ولم تعد مناهضة الإمبريالية والأممية اليسارية حركات قوية مثلما كانت في الماضي. وقد تم قمع العديد من الثورات في الجنوب العالمي، خاصة منذ احتجاجات حركة احتلوا وحراك الربيع العربي في عام 2011.
توجد بعض مؤشرات الأمل، مثل حملة التحالف الأسود للسلام لإنهاء عمليات أفريكوم (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا)، ولكن من دون المزيد منها، فإن الوضع الحالي من المرجح أن يظل على حاله. ورغم من أنه قد يبدو كتشتيت عن هذه التحديات العديدة، إلا أن برنامج اللغة الإيطالية ليس تافهًا: إنها أثر مرئي لكيفية استمرار الاستعمار واتخاذه أشكالًا جديدة في الصومال. وبتسمية البرامج على أنه دعاية، يمارس الصوماليون حقهم في رفض الوصاية.
اليوم، قد يغازل بعض الصوماليين ايطالفونيا، متذكرين الأيام الماضية للاستقرار والثقافة الإيطالية الراقية. ولكن مبادرات "ميد-أور" تذكرنا بوجود تقليد مختلف يمكننا إحيائه بدلاً من ذلك. في 14 أبريل 1960، ألقى يوسف عثمان سمتر، الزعيم السياسي الذي سُجن لاحقًا بيد نظام سياد بري، محاضرة بعنوان "النيو إمبيريالية في أفريقيا". وحثّ الصوماليين على النظر إلى تاريخ القهر والاستغلال الذي عانوه على يد القوى الأجنبية إذا أرادوا بناء مجتمعِ حرٍ حقًا. والمفارقة الساخرة في الأمر، تم إلقاء المحاضرة ونشرها لاحقًا باللغة الإيطالية، وهي واحدة من العديد من المصادر التاريخية التي تعد غير متاحة لمعظم الصوماليين. ربما ستتيح دورات اللغة الإيطالية الجديدة في الجامعة الوطنية فرصة للشباب الصومالي للاشتباك مع مناقشات سابقة جادة وعلنية حول معنى الاستقلال، والتي قد يكون من الصعب تذكرها بعد عقود من الدكتاتورية والأزمات السياسية. ولكن بالتأكيد ليست هذه هي القدرة التي تسعى إيطاليا لبنائها بعودة اللغة الإيطالية إلى الصومال.