الجمعة 22 نوفمبر 2024
في ظل تضاعف عدد سكان المدن في افريقيا كل عقدين من الزمان، أصبح معدل التمدين في افريقيا هو الأعلى في العالم، حيث التهمت المدن والأحياء الفقيرة الممتدة عشوائيآ مساحات شاسعة من الغابات والأراضي الزراعية. لكن وبالرغم من ذلك، لا يزال معظم الأفارقة قرويين، ومعتمدين بشكل مباشر على الأرض في الحصول على دخلهم. إضافة إلى أن كثيرا من البلدان الإفريقية بها أعداد كبيرة من السكان يمارسون الرعي، ومعظمهم لم يعد يستطيع الهجرة عبر مسافات طويلة بقطعان من الحيوانات بحرية، كما هو الحال، قبل إنشاء الحدود الوطنية وشراء وبيع وتسييج الأراضي. ويرجح أن يزيد التغير المناخي من جهته، في أسعار الأراضي الصالحة للزراعة أو الرعي.وسبق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP، التأكيد بأن تدهور الأرض أمر خطير في اثنين وثلاثين بلدا إفريقيآ، حيث تعرضت65% من أرض القارة الصالحة للزراعة للضرر.
تظل ملكية الأرض وتوزيعها من المشكلات الحساسة، عبر معظم الدول الأفريقية، فجذورها مرتبطة بقيام الحكومات الاستعمارية بتشريد أعداد كبيرة من السكان المحليين قسراً، لإفساح الطريق للمستوطنين الأوروبيين. ما وّلد التأسيس لمفهوم ملكية الأرض الذي كان غريبا على بعض مجتمعات القارة، واقترنت الاستحواذ على الأرض بالتوفر على صك الملكية، الذي يمنح للسكان المحليين. لكن السلطات الكولونيالية تقدم هذه الصكوك فقط إلى "رب الأسرة" الذي كان رجلاً، فيما كان الطبيعي ألا تكون الأرض مملوكة لفرد بل للأسرة أو المجتمع. هذه القواعد الكولونيالية الجديدة حرمت النساء من حقوقهن في الأرض، فلم يتبق لهن سوى الحق في استخدام الأرض برضا الوالد أو الزوج، الذي كان اسمه يكتب علي صك الملكية.
صحيح أنه انتقلت ملكية الأرض غداة الاستقلال، لكن ظلت تفاصيل الصكوك مستمرة (من امتلك ماذا، ومن اشتري ماذا، وما مقداره؟) معلقة حتى يومنا هذا، وظلت الأرض ساحة صراع، تستخدم على نحو يشبه التمييز العرقي إلى حد كبير، من قبل الزعامة المدنية أو القبلية كوسيلة لكسب الأفضلية السياسية. وعلى مدى عقود عدة مضت، فقدت أراضي ذات ملكية جماعية وفريدة في افريقيا، بفعل مجموعة متنوعة من العوامل؛ بعضها من صنع الانسان والآخر من الطبيعة. فقد انتشرت الصحاري، وجرفت التربة الفوقية بعد إزالة الغابات والغطاء النباتي، وفقدت الأرض خصوبتها نتيجة الإجهاد بفعل دورات الزراعة والرعي والمواد الكيميائية. ناهيك عن تكرار تقسيم أراضي شاسعة صالحة للزراعة إلى قطع أصغر، على نحو مستمر، مع زيادة أعداد السكان، وانتقال ملكية الأرض من جيل إلى الجيل التالي.
غالبا ما كانت الحكومات الإفريقية عند توليها السيطرة على الأرض، ما كانت تشرد المجتمعات المحلية، من أجل مشروعات البنية التحتية (منها النافع لدولة ما بعد الاستعمار، وأغلبها بخلاف ذلك "عديم الفائدة")، واستيعاب المستوطنات الحضرية الممتدة عشوائيآ أو المنتزهات والمحميات الوطنية. أكثرية الأفارقة اليوم يمتلكون أقلية قليلة من الأراضي، ففي جنوب أفريقيا على سبيل المثال، لا تزال %96 من الأرض الصالحة للزراعة مملوكة للمزارعين البيض. وكذلك الوضع في ناميبيا، حيث يمتلكون نحو %50 من الأرض الصالحة للزراعة. أما في زيمبابوي التي مزقت محاولات إعادة توزيع الأرض البلد لسنوات، مطلع الألفية الثالثة، لا يزال 4500 من المزارعين البيض يستحوذون على %70 من الأراضي المميزة.
السيطرة على مساحات شاسعة من الأرض غير مرتبطة فقط بالمنحدرين من نسل المستوطنين البيض وحدهم، ولا تعود الأراضي التي أعيد توزيعها دائماً إلى المزارعين على نطاق ضيق أو الذين لا يملكون أرضا، ففي معظم الأحيان تؤول ملكية الأراضي المميزة إلى النخب الحاكمة أو دوائرها المقربة. وسوف تستمر مشكلة توزيع الأرض في إزعاج الدول الأفريقية، حتى يكف الساسة عن استخدام الأرض كأداة سياسية، ويجري الاتفاق على تسويات عادلة تنهي الماضي الاستعماري للخلافات حول الأرض.
برزت أحقية الأرض في افريقيا وعلاقتها بالاقتصاد والزراعة، وفرص الحد من الفقر في كينيا عام 2005، عندما أطلق توماس كولمونديلي؛ الحفيد الأكبر للورد البريطاني ديلامير (1870-1931)، الرصاص على سيمون أوليه ساسينا؛ حارس صيد بدائرة الحياة البرية الكينية، أثناء قيامه بالتحري عن الصيادين المخالفين المشتبه بهم. وعندما أطلق النار على روبرت نجويا، فأرداه قتيلاً، بزعم أنه كان يصطاد في أملاكه. أثارت هذه القضية اهتمام الرأي العام الكيني بشكل جلي، لأنها لخصت التقسيمات العرقية والطبقية والعقارية التي لا تزال تسيطر على كينيا.
كان اللورد ديلامير شخصية بارزة في العقود الثلاثة الأولي من الإحتلال البريطاني لكينيا، وسيطر على الأرض التي امتدت لمئات الآلاف من الأفدنة في المرتفعات الوسطى والوادي المتصدع، بعد أن انتزعها بالقوة من قبائل الماساي. حاليا، تعد الأسرة من بين أكبر ملاك الأراضي في كينيا، بما يصل إلى 100 ألف فدان، وما عليها من حيوانات. مع زيادة عدد السكان والتوسع في الزراعة التجارية، جرى الدفع بالحياة البرية إلى داخل الأراضي الذي يمتلكها أمثال عائلات "الديلامير" البرجوازية، ما حولها إلى متنزهات السفاري والصيد غير القانوني على مرأى ومسمع النخب الكينية.
يحظى القطاع السياحي بأهمية كبرى في عدد من البلدان الإفريقية، لكن تدبيره يظل بمعزل عن الحكومات الأفريقية، فالسياح يصلون على متن طائرات مملوكة لشركات أجنبية، ويقيمون في فنادق ونزل مملوكة لهذه الشركات، ويستبدلون الأموال في بنوك أجنبية، ويتنقلون إلى المتنزهات البرية في وسائل نقل (حافلات أو سيارات أجرة) بدورها في ملكية الأجانب، ما يقلل من حجم عائدات القطاع التي تصل إلى أصحاب الأراضي الحقيقيين (الأفارقة)، من خلال الإرشاد أو العمل في المنازل والفنادق والمطاعم التي تخدم السائحين.
مع توافد الأوروبيين على دول افريقية، مثل كينيا، استمر مسلسل الاستيلاء على أجود الأراضي، وتحويلها إلى متنزهات أو استغلالها بمساعدة الدولة، تحت ذريعة المنفعة العامة، بإتباع سياسة الإبعاد والحصر؛ أي إقصاء السكان المحليين الذي ينتهي بهم المطاف بالهجرة إلى المدينة، ليس كسكان ذوي دخل مرتفع أو حتى كسكان في أحياء الطبقة الوسطى التي تتقلص يوما بعد يوم. جاء ذلك نتيجة ندرة الإجراءات ذات الأولوية والبرامج التي تبنتها الحكومات المتعاقبة بغية دعم الفقراء، وإيجاد حلول سكنية لهم. فقد أدى عدم إتاحة الأسواق السكنية الرسمية والقانونية لهذه الفئات، بشكل مباشر، إلى نشوء أسواق الأراضي غير الرسمية أو غير الشرعية، إلى جانب نشوء الأحياء العشوائية والسكن الصفيحي؛ الظاهرة التي باتت منتشرة في العالم الثالث. وذلك لأن هذه الحلول غير الرسمية للمساعدة الذاتية، تمثل الخيار الوحيد المتاح للفئات الأكثر فقرأ في غالبية مدن الدول النامية، فقوانين أمن الحيازة (حق كافة الأفراد والجماعات في الحصول على الحماية من جانب الدولة ضد عمليات الطرد القسري) في أغلب الدول الأفريقية تم اهداراها بشكل مباشر، من خلال قوانين نزع الملكية للمنفعة العامة أو من خلال نصوص دستورية استثنائية لنزع ملكية منطقة بعينها لصالح رأسمالي أجنبي تحت مظلة الاستثمار.
تحول عمليات التنمية والتطوير وتجميل المدن في رواندا وإثيوبيا إلى مرادف لعمليات الإخلاء القسري؛ أي نقل مجموعات من الناس، غالبا ما يكونوا مهمشين، من المناطق الجغرافية التي تربطهم بها جذور تاريخية، إلى التشرد أو المساكن الصفيح. هذه ممارسات نابعة من سياسات العولمة الاقتصادية التي تعمل على المضاربة على أراضي الفقراء، لصالح رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب من خلال:
1-استعمال القوة أثناء تنفيذ عمليات الإخلاء.
2-عدم إخطار المتضررين قبل عمليات الإخلاء بوقت كاف.
3-عدم وجود معايير واضحة لعمل لجان حصر المتضررين.
4-عدم توفير بدائل سكنية ملائمة قبل تنفيذ الإزالة.
كما أن هناك صعوبة في مقاضاة المستثمرين، بسبب منظومة القوانين الدولية المرتبطة بمجال الاستثمار، وآثارها على الحق في الأرض، بسبب؛
1-هذه الاتفاقيات التي تؤدي في حالات عديدة إلى تقليص المساحة المتاحة لإعادة النظر في سياسات الأراضي، والحق في الأرض، ودعم دور المزارعين والرعاة وتعزيزهما.
2- يجري في إطار هذه الاتفاقيات تطوير وحماية المستثمر وعقود الاستثمار على حساب السكان المحليين، في حين أنها تفرض قيودا معينة على كيفية معاملة الحكومات للمستثمرين الأجانب أو الشركات التي تملكها جهات أجنبية. فهذه الاتفاقيات لا تضع الشروط أو الالتزامات على عاتق المستثمر. يُذكر أن الأمم المتحدة قامت، في عام 2001، بمراجعة للعديد من اتفاقيات الاستثمار، حيث وجدت أقلية من الالتزامات فقط تفرض على المستثمرين.
3-تمنح اتفاقيات الاستثمار الثنائية للمستثمر خيار اللجوء إلى عدد من آليات التحكيم، وفض النزاعات الدولية منها: (UNCITRAL)، الاتحاد الدولي لغرف التجارة (ICC)، الاتفاقية المتعلقة بالمركز الدولي لفض النزاعات (ICID) التابعة للبنك الدولي، لكن الشفافية تغيب في هذا المجال، حيث لا تلزم بالإفصاح عن القضايا أو القرارات المتخذة، لهذا من الصعب للغاية تعقب مجموعة القضايا القائمة والمفاهيم القانونية التي تشكل أساس منظومة القوانين الدولية في مجال الاستثمار، ومقاربتها من قبل المحكمين، خصوصا وأن القضايا التي ينظر فيها غالبا ما لا يعلن عنها، ففي العديد من الحالات تبقى غير معروفة للعامة.
بعض الحالات المعروفة:
1-أقام عدد من المستثمرين البريطانيين دعوى قضائية ضد حكومة زيمبابوي، عام 2005، بعد أن أذنت الحكومة باستعادة عدد من الأراضي، لإعادة توزيعها على المواطنين (landless).
2-كما واجهت حكومة ناميبيا التهديد بدعاوى قضائية مماثلة، بعد إقبالها على استعادة عدد من الأراضي المملوكة من قبل جهات ألمانية، وذلك ضمن برنامجها لإعادة توزيع الأراضي.
3- حكومة جنوب افريقيا بدورها واجهت دعوى في إطار اتفاقية الاستثمار الثنائية مع سويسرا، عام 2008، (عرف عنها القليل بعد سنوات من إبرامها). حيث رفع مستثمر سويسري دعوى قضائية ضد حكومة جنوب افريقيا، لفشلها في توفير مستوى كاف من الحماية للأراضي المستثمرة، وذلك حسب الشروط التي تنص عليها إتفاقية الاستثمار، فيما يخص الحماية التي توفرها الشرطة للمستثمر. كما سعى المستثمر لمقاضاة جنوب افريقيا، زاعما نزع الملكية عنه (والمطالبة بالتعويض الكامل)، وذلك نتيجة مطالبة عدد من سكان جنوب إفريقيا (السود) بملكية الأراضي، كجزء من عملية محلية للمطالبة بالأراضي (land-claims process).
يمنح هذا الواقع القطاع الخاص القدرة على استدراج الدول إلى قضايا قد تؤدي إلى تكلفة عالية على الميزانية العامة للدولة، فإعطاء الحق للمستثمر الخاص بمقاضاة الدولة المضيفة في حال الإقدام على تشريع أو تنظيم لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية يقوض دور الدولة، لهذا لا بد أن نعي بأن التحكيم الدولي المتعلق باتفاقيات الاستثمار يمثل القناة الرئيسية التي يتم من خلالها الطعن بعمليات الإصلاح في البلدان النامية. هكذا يفتح الطريق أمام المستثمرين الأجانب لتحدي عمليات إصلاح الأراضي، وغيرها من مبادرات إعادة توزيع الأراضي التي تهدف إلى دعم السكان الأصليين والمجتمعات المحلية في افريقيا.
إن الملاحظات والمفاهيم المختلفة بشأن استخدامات الأرض وملكيتها لدى الرعاة ودعاة حماية البيئة والمزارعين، هي مظاهر للاهتمامات الحاضرة دائماً فيما يتعلق بضمان الأمن الغذائي والحد من الفقر في افريقيا. اليوم، تسعى السياسات التي تنفذها الليبرالية الجديدة في الكثير من الدول الفقيرة إلى القضاء على نمط الإنتاج الفلاحي، الذي يشكل النسبة الغالبة لأنماط الإنتاج الزراعي في الدول الأفريقية، وفي نفس الوقت يمثل العائق الرئيسي الذي يعرقل سيطرتها الكاملة على السوقين الحيوين في الريف، وهما: سوق مستلزمات الإنتاج الزراعي وسوق الحاصلات الزراعية. علما بأن السيطرة على الأول تفتح الطريق واسعا للسيطرة على الثاني. كما تمهد لتحويل مساحات الأرض الصغيرة إلى مزارع واسعة، تستخدم طرق الزراعة الكثيفة؛ وفي نفس الوقت تحول الجزء الأكبر من الفلاحين إلى عاطلين، بعد أن تستوفي حاجتها منهم كعمال زراعيين في تلك المزارع الواسعة.
وتتمثل الأدوات التنفيذية لليبرالية الجديدة في:
1-المؤسسات المالية (البنك الدولي – صندوق النقد ومؤسسة التجارة العالمية وغيرها).
2-شركات إنتاج وتجارة مستلزمات الإنتاج الزراعي.
تقود الدولة هذه العملية بالتعاون مع تلك المؤسسات من ناحية، ومع ملاك الأراضي من ناحية أخرى.
وتتمثل الوسائل المستخدمة:
أ/وسائل عنيفة: طرد الفلاحين بالقوة من الأراضي.
ب/وسائل غير عنيفة: برفع تكلفة الزراعة من خلال:
1- رفع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي (بذور وأسمدة ومبيدات وأعلاف وآلات زراعية ولقاحات وأمصال)
2-رفع أسعار ايجارات الأراضي الزراعية.
3-رفع أسعار فوائد القروض الزراعية.
4-احتكار تجارة المحاصيل التي ينتجها الفلاحون، لتبقي أسعارها دون المستوى الاقتصادي.
وبالنظر إلى التوزيع غير العادل للأرض في كثير من بلدان القارة، والتفاوتات التي أبقت عليها النظم الإدارية والاقتصادية الظالمة على نحو متأصل، فمن الصعب تجنب الصراعات المتعلقة بالأرض والسكن، وتساهم بشكل كبير في الإفقار والتشريد والجوع.
المصادر:
1-Africa: Atlas of our changing environment, UNEP, 2008; for details see “glacial retreat to rapid urbanization chronicled in landmark satellite report to africa’s environment minister’s” UNEP press release, June 10, 2008.
2- Charlyne Hunter-Gault, “Land ownership elusive for South Sfrica’s poor all thing’s considered,” August 7, 2006.
3-“Government warns Namibia’s white farmers,” February 20, 2008.
4- “White farmer’s under siege in Zimbabwe’ BBC news, August 15, 2002.
5- Ostieno Nameaya, “Who owns Kenya?” East African standard, October 1, 2004; Clemence Manyukwe, “Judge allocated farm after ‘special duties’” Financial gazatte, June 12, 2008; and the discussion regarding South Africa.
5- Peterson, Luke Eric. Human rights and bilateral investment treaties, (Montreal: rights & democracy, 2009).
6- Cotula, Lorenzo. Land grab or devolopment opportunity? (2009)