الجمعة 22 نوفمبر 2024
أعادت التطورات الأخيرة، في إقليم نيوكاليدونيا (جنوبي المحيط الهادئ) وردود الفعل الفرنسية الاستعمارية الطابع، التذكير بأزمة هوية طاحنة لا زالت تكتنف بقاع متفرقة من "الجنوب العالمي"، بعد عقود ممتدة من الاستقلال الوطني الكامل أو المشروط؛ وكانت تلك الأزمة، ببعديها السيكولوجي والاجتماعي، مناط خروج فكرة الزنوجة على يد رائدها الأول، بلا منازع، إيميه سيزار (Davis, Gregson, Aime Cesaire-1997, p. 13. ).
ربط سيزار (1913-2008)، بعد سنوات من صكه المفهوم، نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، الزنوجة بالاستيعاب (داخل الثقافة الفرنسية) مشيرًا إلى دورية "L’Etudiant noir" (التي أصدرها في باريس بالتعاون مع رفيقيه ليوبولد سيدار سنغور وليون داماسL. Damas ) وما رسخته من أفكار الاستيعاب وسط "الزنوج" كوسيلة للترقي والتمدين، باعتبارها (الدورية) أولى مراحل التعبير عن الزنوجة، منتقدًا عدم تفهم طائفة من اليساريين والشيوعيين (ممن عاصرهم حينذاك) للفكرة، بل واعتبارها تحيزًا عرقيًا ممقوتًا، وأن ما فصل بينه وبينهم تحديدًا الموقف مما وصفه بالقضية الزنجية (Cesaire, Discours sur le colonialism, Presence Africaine, 1955) . وانتقاده وقتها تجاهل الشيوعيون "سماتنا الزنجية"، ولم ينف في حديثه الذائع مسعاه لصياغة نوع خاص من الشيوعية، كوسيلة لتضمين هذه السمات "والتفرد التاريخي" للزنوج في مجمل جهود التحرر السياسي، بالنظر لخصوصية المشكلة الزنجية.
لكن زنوجة سيزار، والتي طورها سنغور وغيره من أنصارها، كانت أداة طيعة لترويض "الثورة" ضد الاستعمار، كما كان السجال معها، لاسيما من قبل فرانز فانون تلميذ سيزار في فصول الدراسة الثانوية بالمارتينيك، وجهد تفكيكها باعثًا لأفكار التحرر، ووضع الاستعمار ودينامياته وسبل مواجهته بخيارات عنيفة بالضرورة، في إطاره التاريخي الأكثر ملائمة: أفريقيًا على وجه التحديد.
سيزار والزنوجة: الشاعر في خدمة الإمبريالية؟
حاز سيزار مكانة رفيعة في فرنسا، باعتباره شاعرًا ومثقفًا فرنسيًا رائدًا، وعلى نحو يذكر - مع اختلافات هامة - بذي الأصل الأفريقي ألكسندر بوشكين شاعر روسيا الأول، بفضل مؤلفاته الشعرية الأصيلة باللغة الفرنسية. ويلاحظ ريلاند راباكا (Reiland Rabaka) في مؤلفه حول "حركة الزنوجة" (2015) في فصل كرسه لزنوجة سيزار (إلى جانب فصول أخرى مماثلة لداماس وسنغور وفانون)، أن أهمية إسهامه الفكري تعود لكونه رجل دولة، أسهمت رؤيته السوسيو- سياسية في صياغة المشهد السياسي الفرنسي، بعد الحرب العالمية الثانية وحتى التسعينيات، والخطاب المعني بالقضاء على الاستعمار "كعملية متدرجة".
اتضح هذا التشابك، بغض النظر عن قيمة سيزار الفكرية، في مواقفه السياسية الداعمة لإصدار وتطبيق La loi de départementalisation (مرر في مارس/آذار 1946) الذي حول أربع مستعمرات فرنسية حينذاك وهي: جوادلوب والمارتينيك ورينيون وغيانا إلى إدارات تابعة لأعالي البحار، وتحول سكان تلك المستعمرات إلى مواطنين فرنسيين لهم حقوق مساوية لأقرانهم في فرنسا. وبغض النظر عن تداعيات هذا القانون، وانتقائية تطبيقاته لاحقًا، فإن رؤية سيزار للزنوجة في إطار عملية الاستيعاب (الفرنسي) تطل واضحة تمامًا، وإن حاول راباكا تسويغها واضعا إياها في سياق مبادئ الثورة الهايتية، وتأثيرات اليعاقبة السود black Jacobinism (في مطلع القرن 19) ومساواة القضاء على الاستعمار بالتخلص من نظم الرق وتحقيق المساواة الشاملة.
تتعمق تلك المقاربة "السلطوية" في واقع الأمر والمؤدية، حسب تحليل سياقي تاريخاني، لتدعيم أسس الإمبريالية، عند قراءة نص موجز لسيزار وجهه في يونيو/حزيران 1945 (عبر جريدة Justice الصادرة في المارتينيك عن الحزب الشيوعي الفرنسي) لمواطنيه بأن "النظام (الفرنسي) الذي أطلب منكم احترامه هو النظام الثوري (نسبة للثورة الفرنسية التي ظلت محل ولع سيزار طوال حياته) الذي يُحل حكم القانون محل حكم المحاباة، والذي سيخضع السفاهة، التي طالما قوَّت أعداء الشعب، لنظام المنطق (order of reason).
يكرس هذا النص رؤية سيزار (الضمنية) بضرورة بدء الإصلاحات في المستعمرات المختلفة، من التماهي مع سلطة الاستعمار نفسه، وإقناعها، عبر الترقي الثقافي والفكري للشعب المستعمَر، بأهلية الأخير، واستحقاقه المساواة مع بقية المواطنين الفرنسيين.
يمكن تحقق فهم أكبر لمنطق سيزار عند وضعه في سياق ملاحظة مهمة، صاغها ج. ديفز في نهاية كتابه "Aime Cesaire" بإمكان النظر إلى الزنوجة مرادفًا لأيديولوجية الهوية العرقية لدى سيزار؛ ما يحيل إلى رؤية محتملة بأن الزنوجة تعمل - في حد ذاتها - وسيلة لتمرير الهيمنة الإمبريالية من المركز للأطراف، ووفق صيغ سياسية غير متكافئة (مثل ضم أقاليم ما وراء البحار واستمرار استغلالها واستنزاف مواردها الاقتصادية على المدى البعيد).
في تفكيك الزنوجة ونقدها
عُدت حركة الزنوجة بريادة سيزار، لاسيما مع تعاظم مد التحرر الوطني الأفريقي في الستينيات، استجابة رجعية للاستعمار، كما عُدت، في أفضل الأحوال، دعوة لتغيير العالم "سلمًا"، ليكون أكثر مساواة (Bird, Gemma K. Foundations of Just Cross-Cultural Dialogue in Kant and African Political Thought, 2019) باعتبار ذلك الغاية الأسمى لتحقيق العلاقة المثالية بين الاستعمار ومستعمراته؛ مما يشير بشكل غير مباشر إلى قدر من مقبولية الاستعمار، والاكتفاء بتوجيه النقد "الداخلي" لإصلاح سياساته.
رأى "بيرد" أن الزنوجة قد فقدت الكثير من زخمها في الستينيات، مع توجه الحركات المناهضة للاستعمار لتحقيق وجود سياسي أكبر مع تركيز أقل على الاستجابات الثقافية والفنية تجاه القمع؛ وهو "التراجع" الذي مثل، حسب قراءات متنوعة وخلافًا للمتوقع، مؤشرًا إيجابيًا على نجاح الثقافة الأفريقية، بفروعها المختلفة، في الاندماج في الثقافات العالمية، وعدم الحاجة الملحة إلى التأكيد المبالغ فيه على "زنوجة" هذه الثقافة، وكونها، في النهاية، ثقافة متميزة في حد ذاتها وبمفرداتها وتجلياتها، وليس بحكم معيار لوني مصحوب بتفسيرات معقدة.
مع ملاحظة مثال سنغور، رفيق سيزار، الذي مثل ذروة التطبيق العملي للزنوجة ومقارباتها، بعد رئاسته السنغال، وحرصه على وضع خطط تنمية البلاد بالتعاون مع "أوروبا"، ورؤيته بوضوح وحسم تامين (1962) وجوب بناء السنغال لخطتها التنموية الخاصة بها، استنادًا إلى الإسهامات الأوروبية والاشتراكية، وأفضل ما أنتجته الحضارة الأفريقية الزنجية، وهو التوجه الذي انتقده سيزار نفسه (2000)، وأردفه بإدانته المتأخرة نسبيًا لأوروبا وأخلاقها، وعدم تحمسه للتعاون مع القوى الاستعمارية (السابقة) إلا في حدود ضيقة للغاية، لا تصل إلى مستوى اعتبارها "الشريك" المؤتمن، كما رأى سنغور.
ولم يخف المفكر الكاميروني البارز أشيلي مبيمبي، الذي يلعب دورًا هامًا، في السنوات الأخير، في التقريب بين فرنسا والشباب الأفريقي، ولعه بسيزار في مؤلفه الأبرز "Critique of Black Reason" (2013) إذ خصه بقسم موجز (pp. 156-62) لكن بالغ الدلالة. ورأى مبيمبي أن سيزار ناضل بسلاح شعره، واضعًا نصب عينيه الأبدية، وأن فكرته القائمة على النضال والعصيان - حسب إيجاز الأول - كانت من ناحية تأكيدا على التعددية العالمية التي لا يمكن اختزالها، أو كما يقول سيزار "حضارات العالم"، ومن ناحية أخرى على قناعته بأهلية "البشر" لحقوقهم، لكونهم بشرًا (دون ارتباطات أخرى مثل الطبقة أو اللون أو العقيدة، الخ). وأكد مبيمبي على ضرورة نزع وصم سيزار (وزنوجته) بالنزعة العرقية أو العنصرية المتحيزة للسود.
كما جنح مبيمبي في مؤلفه المثير للجدل "On the Postcolony" (2001) إلى تناول مسألة العنف (أو تجلي الثورة)، من زاوية مغايرة لمفهوم فانون، تتضح فيما قدمه لاحقًا من تقسيم لمفاهيم العنف عند فانون بأنها ثلاثة أشكال: العنف الاستعماري، ولحظته الأبرز في الحرب الجزائرية، والعنف التحرري "emancipatory violence" الذي يمارسه المستعمَر، والذي ينتهي بمرحلة حرب التحرر الوطني، والعنف في العلاقات الدولية. وفي المقابل، أرجع مبيمبي بروز العنف (أفريقيًا) في وعي الأفارقة إلى القرن التاسع عشر، وبتأثير من تجارة الرقيق، باعتبارها النشاط الذي دلفت منه أفريقيا إلى الحداثة؛ وأن الأفارقة باتوا، من خلال تجارة الرقيق والاستعمار، في مواجهة نطاق سلطة استعمارية محكمة تقوم على نهب البشر، على نحو ربما يفسر صعود الديكتاتوريات في القارة بعد الاستقلال.
وعنى ذلك -في عجالة- أن مفهوم العنف "الثوري"، عند مبيمبي، لا يرتبط بالضرورة بثنائية خير وشر (تحرر في مواجهة المستعمر)، بقدر ارتباطه بتباينات "توظيف" العنف، وإعادة إنتاجه في مراحل ما بعد الاستقلال. وطور مبيمبي هذا التصور في "Critique of Black Reason" بتأكيده أن خطاب فانون حول العنف، بشكل عام وعنف المستَعمَر بشكل خاص، ينشأ من خلفية فانون الأكاديمية (دراسة الطب النفسي)؛ إذ تمثل السياسة والعيادة موقعين نفسيين بامتياز، وأن العنف الثوري هو الصدمة التي تدمر الازدواجية الماثلة في صلة الاستعمار بإضعاف المستعمَرين، وأن العنف الذي يمارسه الأخرون مرحلة رئيسة في سبيل نيل مكانة الرعية السياسية، وإن كان العنف نفسه مسببًا، حال وقوعه، جروحًا نفسية.
خلاصة
كشفت الأزمة الأخيرة في نيو كاليدونيا عن عمق الارتباط القائم مع فرنسا، وتراجع احتمالات تحقيق البلد الواقعة جنوبي المحيط الهادئ استقلاله المنشود، كما اتضح من تركيز الميديا الفرنسية على آثار تضرر قطاع إنتاج النيكل في الأولى (والتي تملك وحدها 30% من الاحتياطي العالمي، وتحتل المرتبة الثالثة عالميًا في إنتاجه بعد إندونيسيا والفلبين وقبل روسيا وأستراليا) على الصناعات الفرنسية، وتهميش عمدي لمطالب سكانها بإصلاحات دستورية جوهرية لصالح تكريس استغلال باريس لمورد النيكل، رغم سياسات الإفقار التي ترتبط بها، وتثير حفيظة دعاة استقلال الإقليم الذي يملك احتياطيات مهمة من إجمالي الاحتياطي العالمي من النيكل. ومع ربط هذا النهب بسياسات الاستيعاب الفرنسية في الإقليم (مثلما دافعت عنها الزنوجة في شكل مطلق)، والتي لم تسهم إلا في تكريس هيمنة السكان من ذوي الأصول الأوروبية، والسماح بهوامش محدودة في مناصب إدارية متوسطة "للسكان الأصليين"، فإن طرح جدل الزنوجة لدى سيزار (كوسيلة للاستيعاب وتمرير الهيمنة الإمبريالية في المحصلة)، ونقد فانون لها، وفيما بينهما ما قدمه المفكر الكاميروني مبيمبي دفاعًا عن زنوجة سيزار "وتفنيدًا" لنقد فانون لاسيما في مسألة العنف، يسهم في فهم جانب من جوانب الأزمة في نيوكاليدونيا وغيره من المناطق التي لا تزال قابعة مباشرة في قبضة الاستعمار، وتلك التي لا تزال تحاول ضبط ارتباطاتها بالقوى الاستعمارية السابقة.