الجمعة 22 نوفمبر 2024
بدأت المخرجة الجيبوتية لولا علي اسماعيل (مواليد 1978) في عام 2014 العمل على فيملها الروائي الطويل "Dhalinyaro"، بعد عدد من الأفلام القصيرة، ويعرض الفيلم في هذا العام في فرنسا وجيبوتي وعدد من دول العالم. وقد كان الإنتاج مشتركًا في كندا والصومال وفرنسا وجيبوتي، بدعمٍ من المنظمة الفرنكوفونية الدولية، كما صُوِّر بالكامل في جيبوتي.
تؤسس لولا إسماعيل فيلمها على ثلاث فتيات من خلفيات اجتماعية وطبقية مختلفة. بحيث تتمكن عبرهن من تقديم المجتمع الجيبوتي عبر عدسة مقربة تُظهر الطبقية في المجتمع والعلاقات الأبوية وتفاصيل الشباب والمرأة والحياة الحضرية والديناميات الاجتماعية في البلاد. وتعني كلمة Dhalinyaro الشباب باللغة الصومالية، ويلتقط الفيلم تجارب فريدة من نقطة التحول في حياتهم.
لا ينشغل الفيلم بالتسميات، لكن المشاهد يعرف من الدقائق الأولى أن الفيلم كله يدور حول تفاصيل الطبقية الاجتماعية، والأحداث توصل إليك الفقر الذي يعيشه الناس، من دون تسمية. الصورة تتكلم وتقول، من خلال يوميات الفتيات الثلاثة: أسماء، وهي شابة متوفقة بالدراسة وتحلم بالذهاب إلى كلية الطب وتنحدر من عائلة فقيرة. وهيبو، الفتاة الليبرالية والمدللة، وهي من عائلة ثرية. وديقا التي تجد نفسها ممزقة بين تحقيق طموحات والدتها المطلقة لإعطائها حياة أفضل بالذهاب إلى الجامعة في فرنسا، ورغبتها الخاصة بالدراسة والنجاح في بلدها.
تجمع بين تلك الفتيات علاقة صداقة قوية تخترق الزمن وخلفياتهم الطبقية المتباينة، تكون علاقتهن مع بعضهن مدخلًا لفهم معالم علاقتهن بأنفسهن، بتناقضاتهن وتمزّقاتهن وكذلك ارتباكاتهن، كل واحدة منهنّ لديها أحلام وآمال ويردن جميعًا النجاح في حياتهن. يقترب تخرجهن من الثانوية ويقع عليهن ضغط اختيار الدراسة الجامعية، واكتشاف الحياة الشبابية والعلاقات والحب.
تبدو المدينة في الفيلم مقفرة وكئيبة، حياةً خشنة في أمكنةٍ تسحق بشرها الذين لم يتقبّلوا نمط الحياة فيها، وإنّما اعتادوا عليه فقط. يوميات "أسماء" و"ديقا"، مثقلة بقلقٍ وتمزق وخوف وأوهام حب ورغبات، وتحاولان إيجاد منفذٍ لخلاص تسعيان إليه بجهدِ شابات برغباتٍ مُشوّهة في حبّ ملتبس، وأوهام ضاغطة.
تُقدم لنا مشاكل "أسماء" على أنها مشاكل عملية بحتة ناتجة عن الفقر: انقطاع الكهرباء والماء عن البيت. أما "ديقا" فتجمعها علاقة مع رجل يكبرها ومتزوج من امرأة أخرى، وبسبب ذلك، تعيش خيارات صعبة؛ صعوبة اختبار الشريك المناسب، والوطن المناسب، وعلى الأب الغائب وعلى سلبياتٍ تحاصرها وتحاصر عائلتها، وعلى مدينة تنغلق، أكثر فأكثر.
في إحدى الأيام، يحدث ما لم يكن في الحسبان، إذا تصادف حبيبها مع زوجته في بهو فندق، آنذاك تقرر مراجعة حسابتها معه، لم تعد أولوية لديه كما كان يوهمها، أو توهم نفسها، تواجه نفسها، تتعرّى أمام مرايا روحها ومخاوفها وتفاصيلها، ستقرر ترك حبيبها، وفي هذا الجزء من الفيلم بالأخص، تقوم الموسيقى بدورها في رسم مشهد مُحزن للزمن وهو يدير ظهره للنجوم.
ورغم أن لديها فرصة الذهاب إلى فرنسا للدراسة بسبب تفوقها الدراسي، ورغم إلحاح أمها المطلقة للدراسة في فرنسا، تقرر "ديقا" في النهاية أن تدرس في "جامعة جيبوتي" وترفض أن تترك وطنها وتناضل بعفوية للحياة والبقاء بعكس مفهوم الهروب السريع، تتمسك بحياتها في وطنها رغم كل مساوئه.
في حكاية ديقا، وعلى عكس الفتاتين الأخريين، يغيب دور الأب، لا تحكي أمها عن زوجها المطلق، ولا تحكي هي كذلك عنه. صحيح أننا نرى، مشهداً لها وهي تتلصص عليه وهو في طريقه إلى مجلس مضغ القات. إلا أن إحدى من البطلين لا يأتِ على سيرة الرجل، يبدو منفياً ومنبوذاً وربما لم يمرّ أصلاً في الحياة.
يقدم الفيلم أشكال التضامن الاجتماعي الذي يخفف من وطأة الطبقية، فنرى إهداء الفتيات جرة غاز إلى بعضهن، أو توزيع الأطعمة على الجيران بمناسبة العيد. الرجل الكهل جار ديقا، ينتظر الأذان، ويسبّح بمسبحته كل يوم. تسأله في أوج حيرتها عن السفر عما إذا غادر البلاد قبلًا، فيحكي لها عن مشاركته في الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي حين جنّدت فرنسا الصوماليين للمشاركة للقتال في صفوفها.
يقدم الفيلم حكاية مغايرة عما سبق تناوله عن المنطقة "سينمائيًا"، وعلى المستوى الفني والتقني مادته شديدة البراعة، ويحفل شريط الصوت في الفلم بالموسيقى الصومالية والفرنسية. ويلتقط الكثير من تفاصيل الحياة في جيبوتي، والتي على الرغم من خصوصيتها (منها الحديث بالفرنسية الطاغي على مادة الفيلم) إلا أن الكثير من تلك التفاصيل تنسحب على الشباب الصومالي عامة، الذي يعيش اندفاعة تحقيق أحلامه، مع الحشد الذي يحاصره من كل جهة.
ينتهي العمل بمشهد "تقرّر" فيه ديقا مواجهة أبيها الغائب عندما تُنهي الدراسة، حيث تزوره في بيته، لتجدها هنالك بوجهٍ يكسوه الخجل، تسأله سؤالًا واحدًا، وينتهي الفيلم، "أين كنت طوال هذا الوقت؟"
فيلم يتحدث عن الكثير.. الحياة والمستقبل والطموحات والعلاقات والحب والصداقة والمرأة والآباء السيئين، ويحرك مشاعر دفينة عند المشاهد. لقيَ الإنتاج احتفاءً من الجيبوتيين والصوماليين كون المخرجة جيبوتية، أي أنه يقدم سردية محلية عن المجتمع، على عكس ما كان سائدًا منذ عقود، فقد نجحت المخرجة الجيبوتية بجدارة تقديم فهمٍ مختلفٍ عن الحياة في بلدها، في تلك المنقطة التي تحترف إسالة لعاب هوليوود بمواضيعها عن الحياة البرية الأفريقية والقراصنة والإرهاب إلى آخر تلك "المواضيع اللعابية".