تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

ثقافة

خريطة الرواية الإفريقية (1/3)

2 سبتمبر, 2024
الصورة
African writers
Share

تعج القارة الإفريقية بكتاب وأدباء أبدعوا روائع أدبية نقلتهم من ضيق المحلية إلى رحاب العالمية، فيما الأدب الإفريقي لا يزال نكرة، يطاله التجاهل والنسيان، على غرار الأكثرية من الأدباء الذين لم يصبوا حظهم، فظلوا مجهولين لدى الأغلبية، إذ لا يتعدى صدى أعمالهم حدود القطر، أو النطاق الإقليمي (غرب، شرق، شمال إفريقيا...) أو الامتداد اللغوي (الإنجليزية، الفرنسية، العربية...) داخل القارة في أفضل الأحوال.

نستكشف في هذه الورقة بأجزائها الثلاثة؛ الأول عن الرواية الإفريقية باللغات الأجنبية، والثانية حول الرواية الإفريقية باللغة العربية، والثالثة عن الرواية الإفريقية باللغات المحلية، خريطة عامة للرواية الإفريقية، بعناوين لأعمال رواية تشكل منتخبات لأسماء روائية بصمت من موقعها، وباللسان الذي اختارته، في سماء الأدب الإفريقي والعالمي.

لقد ساهمت أسماء وأعراق وثقافات مختلفة من ربوع القارة، في تشييد اللبنات المشكلة لصرح أدب أفريقي ناضج، يضم كوكبة من المبدعين من كافة الأقطار. وكان لهذا التنوع الجغرافي والتركيبة الاجتماعية والفسيفساء الثقافية، في هذه القارة، تأثير بالغ على كُتابها، فجاءت إبداعاتهم متماهية مع الواقع بحقائقه وأساطيره، بلغة سردية بسيطة ومباشرة، حاملة في طياتها متعة أدبية آسرة، تشد القارئ منذ أول صفحة.

ليس ذلك بالأمر الغريب، فأهم قاعدة في تاريخ الإبداع الإنساني تفيد بأن الشعوب عادة ما تبدع؛ خصوصا في المجال الأدبي، في ظل المعاناة والألم، فهو أقدر الحقول على عكس مآسيها وإسماع صوتها وإبلاغ معاناتها إلى بقية شعوب العالم. وقد تعين هذا، وبشكل خاص، في الأدب الإفريقي الذي استطاع تجسيد أوجاع وأفراح الأفارقة، في بدائع أدبية خالدة وأعمال أخاذة، لا يزال معظمها يبحث عن الاعتراف.

بعيدا عن سجال بعض المستفرقين؛ أي المهتمين بدراسة إفريقيا، قياسا على كلمة المستشرقين، وتفكيكهم الأدب الإفريقي إلى مجرد قوائم تحلق بآداب أخرى، معتمدين في ذلك معيار اللغة؛ الأدب العربي والفرنكفوني والأنجلوفوني، نعرض هنا أعمالا روائية "غير عربية" منتقاة لمبدعين من شرق وغرب وجنوب القارة، عن إفريقيا أخرى ساحرة وفاتنة، تفتح عينك على تاريخ وأحداث مجهولة عن دول القارة.

كانت البداية من نيجريا مع تشينوا أتشيبي (1930-2013)؛ الملقب بأب الرواية الإفريقية، ورائعة "الأشياء تتداعى" (1958) التي عرض فيها تفاصيل انهيار الحياة القبلية التقليدية أمام الاستعمار البريطاني في بلده، والتي جسدتها حياة بطل الرواية؛ زعيم ونجم المصارعة أكونكو، التي يتخللها أسلوب وصفي قوي ينقل الكثير من أسرار المجتمع القبلي النيجري.

دوما في نيجيريا، تُقدم شيماماندا نغوزي أديشي (1977)، في رواية "نصف شمس صفراء" (2006)، قصة ملحمية، تمزج بين التاريخ والسياسة والحب والحياة عن الحرب الأهلية في البلاد، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بموضوعية وحياد، رغم انتمائها إلى قبائل الجنوب التي كانت أساس الحرب، ما أضفى على الرواية الكثير من المصداقية والجدارة والتميز.

بجوارها في الكاميرون، نكتشف مع الروائية المخضرمة ليونورا ميانو (1973) جوانب من الحياة القبلية والممارسات العنصرية، في سابع أعمالها الروائية "موسم الظل" (2013)، التي تأخذنا إلى قرى الكاميرون زمن ما قبل الاستعمار، حيث يشب حريق في قرية ميكوندو الجبلية، ما أدى إلى اختفاء 12 فردا من أبناء القلبية، لتتناسب الأحداث كاشفا عن ثنائية متضادة من القيم.

في اتجاه الشمال الشرقي نحو تشاد، التي اقترنت في الأوساط الأدبية الفرنسية بالكاتب نمرود بينا جارانج (1959)، الملقب بخليفة شاعر الزنوجة الفرنسي إيمي سيزير. عُرف الرجل بالشعر أكثر من الرواية، رغم براعته فيهما معا، وبلغة الآخرين، كما يقول، في قائمة مواضيع مثل: الحرب والمنفى والوطن... تشكل أحداث الطفولة دوما مصدر إلهام فيها، بالرغم من إفرادها رواية خاصة "الطفل الذي لم يمت" (2017).

حديثا، سطع في دولة جنوب السودان، اسم إستيلا قايتانو (1978)، بقوة في رائعتها "العودة"(2014)  التي شخصت حالة التمزق والانسلاخ، ونطقت بلسان حال المهمشين وضحايا الحروب والنزوح من نساء وأطفال، وحتى الكبار، ممن أضحى الوطن بالنسبة لهم مواعيد وآجال، بعدما صدمة تحديد أجال للرحيل من الدولة/ الوطن (السودان) نحو الوطن/ الدولة الجديدة (جنوب السودان)، في تجربة مثيرة تسحق فعلا التدوين والتوثيق.

عودا إلى السنغال، تحدثك الروائية ميرياما با (1929-1981)، في "خطاب طويل جدا" (1980)، عن أحوال المرأة في مجتمعات غرب إفريقيا، ونضالها هناك ضد الثقافة المنغلقة للرجل، الذي يرى الأنثى أداة للإشباع وتربية الأبناء. الرواية عبارة عن رسالة – قيل إنها سيرة الكاتبة – من البطلة؛ راماتولاي إلى أعز صديقتها؛ عائشتو، تعرض كفاح المرأة السنغالية وحيدة في معركة الحياة، بعدما قرار زوجها الزواج من صديقة بنتها، ليعيش معها عيشة ملؤها الرفاهية.

غير بعيدا، تحديدا في غانا، تنتصب الكاتبة أما آتا أيدو (1942-2023) دفاعا عن المرأة بقلمها؛ روائية وشاعرة قبل أن تصبح سياسية، في أول وأشهر أعمالها "أختنا كيلجوي" (1977)، الذي يثير بأسلوب شيق اللقاء بين الثقافات الإفريقية والأوروبية، مستعرضا خيبة أمل البطلة من خلال تجربتها في إنجلترا وألمانيا، لتقرر في النهاية العودة إلى وطنها غانا.

عودة اختارت الروائية الأمريكية من أصل غاني، يا جياسي (1989)، أن تعنون بها باكورة إبداعاتها  "العودة إلى الوطن" (2016)، التي تروي قصة مؤثرة ذات بعد إنساني عميق، بطلتها شقيقتين (إيفيا وإيسي)، يمتزج فيها الألم والأمل والصراع في إطار سلسلة من الأحداث التاريخية البارزة (الحروب القبلية، تجارة الكاكاو الهجرة الكبرى، وباء الهيروين).

في ساحل العاج، يبرز اسم أحمد كوروما (1927-2003)، أحد رموز معركة الاستقلال، المعروف بنبرته الحادة والناقدة تجاه حكومات ما بعد الاستعمار، منذ باكورة أعماله "شمس الاستقلال" (1976). وتظل رواية "في انتظار تصويت الوحوش البرية" (1998) عن قناص عادي يصير ديكتاتورا، في وصف لاذع لأحوال دول ما بعد الاستقلال، ورواية "الله غير مجبر" (2000) عن طفل يتيم يتحول إلى جندي في جبهات القتال، أكثر أعماله تجسيدا عن الواقع الإفريقي بفرنسية شاعرية مشحونة بالمعاناة والألم.

في أعماق إفريقيا، يستوقفنا الروائي الكونغولي آلان مابانكو (1966) برائعته  "زجاج مكسور"(2005)  التي جعل من بلده الكونغو مسرحاً لأحداثها، في أواخر القرن العشرين، مقدما صورة واقعية شديدة الثراء، مفعمة بالتفاصيل عن خبايا وأسرار المجتمع الكونغولي. ترسم الرواية واقعا المجتمع الإفريقي، بلا مساحيق، من خلال قصة بطلها؛ المدرس الستيني المتقاعد الذي بات مقصد الكثيرين، لسرد حكاياتهم ومشكلاتهم، فيما يسعى هو جاهدا لإيجاد حلول لها، أو على الأقل السخرية منها، وتبسيطها للقراء بشكل هزلي وساخر.

جنوبا، وعلى الساحل الغربي، يحدثنا الروائي الأنغولي أوندياكي (1977)، في سيرة ذاتية، "صباح الخير يا أيها الرفاق" (2001)تروي قصة من زمن الصبا، على لسان الطفل يدعى ندالو، ذي الاثنى عشر ربيعا، يكتشف حقائق لأول مرة في حياته، بدهشة وانبهار شديدين. نكتشف مع الكاتب جوانب رائعة وبسيطة من التاريخ الأنغولي؛ المستعمرة البرتغالية السابقة، والحقبة الثورية (الاشتراكية) والحرب الأهلية في التسعينيات.

بوتسوانا البلد المعروف بصحراء كالهاري، تُعرف في عالم الأدب مقرونة باسم بيسي حيد (1937-1986)، فالكاتبة حظيت بتكريم أكثر من مرة بعد وفاته، نظرا لمساهمته المتفردة في مسيرة النضال من أجل الحرية والسلام. تحكي في رواية "سحب المطر" (1968) التي تكاد تكون قصتها، حيث يغادر البطل ماخايا موطنه في جنوب افريقيا، بعد خروجه من السجن، نحو قرية صغيرة في بوتسوانا، بحثا عن الأمان والهدوء. لتبدأ الأحداث في الاشتباك والتعقد مع زعيم القبيلة ماتينجي من جهة، ومع الطبيعة والتحيزات القبلية من جهة أخرى.

في أقصى جنوب القارة، إلى جانب نادين جورديمير وجون ماكسويل كوتزي الحائزين على جائزة نوبل، وكتاب أخرين كتبوا باللغات الأصلية في البلد، وهذا نقاش آخر عن الأدب الإفريقي باللغات الأم، كتب أندريه برينك (1935-2015) رائعة "إشاعات المطر" (1978) حيث حول التجربة السياسة العنصرية القاسية إلى أدب يخاطب العالم، بأحداث بطلها رجل الأعمال القومي مارتن مينهاردت الذي يعود لقضاء العطلة في مسقط رأسه، قبل أن يجد نفسه ضحية دوامات العنف الذي جعلت المجتمع بأسره على حافة الانهيار.

عن نظام الميز العنصري دائما، تسرد مارغريت بولاند (1950) في "خطيئة الإغفال" (2014) صفحات منسية من تاريخ جنوب افريقيا في القرن التاسع عشر؛ أي ما قبل إقامة نظام الفصل العنصري. بطل الرواية كاهن أنغليكاني يدعى ستيفن مالوسي، وجد نفسه بعد العودة من إنجلترا يواجه تحيزات المجتمع الاستعماري التي تكشفها الرواية في أكثر من مكان.

في رواندا، تحفر الأديبة سكولاستيك موكا سونغا (1956) عميقا في الذاكرة الرواندية بحثا عن الحقائق، في رواية "نوتردام النيل" (2012) التي تشكلت تفاصيل أحداثها المتشابكة في مدرسة داخلية، حيث يتم إعداد نخبة نسوية للمجتمع الرواندي، ما يمكن اعتباره أنطولوجيا للذاكرة، بما تثيره من صراع بين الأقلية والأغلبية داخل المجتمع.

شرقا نحو كينيا، مع نغوغي وا ثيونغو (1938)، صاحب رائعة "حبة القمح" (1967) التي تحكي قصة سكان قرية انقلبت حياتهم رأسا على عقب، وفي مركز الحكي موغو بطل القصة المعذب. وفي جوهر الرواية اتهام مباشر لتهميش الإرث الإفريقي على مائدة المستعمر، الذي تجسده شخصية الرجل الأبيض الذي انقلب من مبشر إلى مستعمر وناهب. يرجِح الكثيرون أن جلْد نغوغي القاسي للغرب، قد يكون سببا في عدم دخوله حتى الآن قائمة المتوجين بجائزة نوبل.

في اتجاه الشرق دائما، في الصومال يكثف الروائي إبراهيم يوسف هاود أزمات البلد ومشاكل المجتمع في رواية بعنوان "اقتصاص نچيي" (2013)، اتخذت ضواحي مقديشو مسرحا لانطلاق أبطالها (نچيي وديرية وروبلي...) في مساراتهم المعقدة التي تصنع كل منها، بتقدم الأحداث واشتباكها نماذج لمعضلات وقضايا الصومال (ثقافة الثأر، مشكلة التحديث، بناء الدولة، فساد الجيش...). في الراوية صفحات من تاريخ آخر عن صومال البادية وما بعد الاستقلال وسنوات الاشتراكية.

في إرتيريا، يختار سليمان أدونيا (1974) أن يلعب دور من رأى لا من سمع، في روايته "الصمت لغتي" (2018) التي تحكي، على لسان بطل الرواية الشاب جمال، عن تجربته الشخصية، في مخيم اللاجئين بالسودان، في ثمانينيات القرن الماضي. يعيد الرواية بأسلوبها وشخوصها (سابا وناتسنيت وهاجوس والإمام والكاهن...) بناء إرتيريا صغيرة داخل المخيم، بأحداث اجتماعية بسيطة تكشف عن مرارة المنفى والألم، وقدرة الإنسان؛ لا سيما المرأة، على التحمل والصمود للبقاء على قيد الحياة. 

جيبوتي تلك الدولة الهادئة في القرن الإفريقي، نذكر عبد الرحمن وابري (1965) الذي يحرص الوفاء للأصل بتحويل التفاصيل البسيطة إلى ركيزة في النص الأدبي، على غرار "أرض بلا ظل"(1994) و"دفتر بدوية"(1996) و"في الولايات المتحدة الإفريقية" (2006)، وتبقى رواية "لماذا ترقص عندما تمشي؟" (2019) من النصوص القوية التي تغوص بنا في ذاكرة خصبة، تسبح بين الماضي والحاضر بأسئلة رهيبة وقوية وشاعرية، مع قدر من قسوة البراءة، حول أسئلة الهوية والاختلاف والعنف.

قد يطول بنا السرد هنا، فالقائمة طويلة في كل بلد العشرات وحتى المئات من الأسماء التي خلفت أعمالا روائية، تثبت للمشككين وجود أدب إفريقي متكمل الأركان، هذا دون الإشارة إلى الأعمال المكتوبة باللغات الأصلية. كما تثبت كذلك سيادة وسيطرة العقلية الاستعمارية – وأحيانا العنصرية – ليكون التهميش والنكران من نصيب هذا الأدب، فقارة حبلى بالتنوع العرقي والاثني والثقافي... بكتاب أبدعوا في مواضيع تتراوح ما بين المحلية الخالصة وأخرى ذات أفق عالمي إنساني (السلام والحرية والمرأة والحياة والقبيلة والهوية...) لم يحظ منهم سوى أربعة بجائزة نوبل للآداب؟!