الخميس 21 نوفمبر 2024
درس مصطفى مناوي الهندسة المدنية ابتداءً، وأثناء عمله في أحد البنوك قرر أن يأخذ دورات ليلية حول التاريخ العثماني في المساء أثناء إقامته في تورونتو، وقال لي في مكالمة مرئية: "انكببت بالصدفة على مجال الدراسات العثمانية الذي فسر لي أمورا عديدة لم أتساءل عنها سابقا، والتي أصبحت منطقية بالنسبة لي حاليا". الجدير بالذكر أن جده الأكبر كان جنديا في الجيش العثماني.
ومع تعمقه في التاريخ العثماني ودراسته لاحقا بشكل أكاديمي؛ تفاجأ البروفيسور ميناوي بوجود فجوة كبيرة في الذاكرة الثقافية للمنطقة حول دور الإمبراطورية العثمانية في تاريخ دول ما بعد الاستعمار التي ظهرت في القرن العشرين، يقول ميناوي: "لا يتم الحديث عن ذلك مطلقا، المدارس في الشرق الأوسط لا تأتي على ذكرها إطلاقا، ويعتبر الأتراك عموما غرباء في نظر دول الجوار". ويأسف لمحو هذا الفصل من الذاكرة العامة حيث وجه نداء قويا - عبر موقع قناة الجزيرة الإنجليزية - لزيادة الوعي بتأثير الإمبراطورية في المنطقة قائلا: "لقد تم اقتلاع شعوب المنطقة من واقعهم التاريخي وتُركوا عرضة للروايات الكاذبة للسياسيين والمؤرخين القوميين".
ويضيف أن الصومال لا يختلف في هذا الصدد؛ فقد لعبت الإمبراطورية دورا حاسما في تاريخ المنطقة على فترات مختلفة. وعلى غرار الدول العربية المجاورة؛ يظل هذا التاريخ غير مستكشف إلى حد كبير في الصومال الحديث.
ومنذ ذلك الحين أصبح مؤرخا رائدا في شؤون الإمبراطورية حيث نشر كتابين، أحدهما صدر عام 2016 ويتحدث عن دور الإمبراطورية في التدافع إلى أفريقيا بعنوان (التدافع العثماني إلى أفريقيا)، والآخر يرسم مخططا بيانيا يعكس ما حدث لثروات عائلة عربية عثمانية حين بدأت الإمبراطورية في الانهيار أوائل القرن العشرين بعنوان (خسارة اسطنبول) صدر عام 2022، وهو يعمل حاليًا على تأليف كتاب عن وجود الإمبراطورية في شمال شرق إفريقيا. فيما يلي تفاصيل المقابلة مع البروفيسور مناوي حول الإمبراطورية، ودورها في أفريقيا، وسبب أهمية فهم دورها في تاريخنا المشترك.
فيصل علي: لنبدأ بمقالك الأخير على قناة الجزيرة والذي أثار الكثير من النقاش حول الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط، البعض أغضبه كلامك بينما سارع البعض الآخر للاحتفاء به. ما الذي دفعك لكتابة تلك المقالة؟
مصطفى مناوي: شعرت في هذه المرحلة من مسيرتي المهنية أنني ببساطة لم أعد أملك الأجوبة لبعض التساؤلات الأكاديمية التي كانت لدي حول الإمبراطورية العثمانية، لذا أردت التواصل مع الجمهور بشكل عام ومشاركته ببعض ما كنت أفعله. إن الكثير من هذا العمل له آثار هائلة على كيفية رؤية هذه البلدان المختلفة لذواتها ومكانتها في المنطقة، فضلا عن المشاكل الموروثة من الحقبة الاستعمارية الأوروبية والتي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
هناك قول مأثور مفاده أنك إذا كنت لا تعرف ماضيك، فسوف تتعثر في الظلام خلال مسيرتك نحو المستقبل لأنك لست واثقا تماما من تموضعك في المكان المناسب داخل المعادلة التي تشرح تطور التاريخ. أردت أن يستكشف الناس تاريخهم، التاريخ العثماني في الشرق الأوسط هو في الواقع تاريخ محلي، أريدهم أن يستعيدوه ويفهموه ويتحكموا في كيفية سرد تلك القصص.
فيصل علي: تم تصوير الإمبراطورية العثمانية على أنها إمبراطورية في خطر منذ القرن السادس عشر، وبحلول القرن التاسع عشر كانت الكثير من الأدبيات تشير إلى أن النهاية كانت حتمية وربما وشيكة. ومع ذلك، يشير كتابك الأول إلى أنها كانت لا تزال تتوسع حتى أواخر القرن الثامن عشر في أفريقيا وتتنافس مع الإمبراطوريات الأوروبية. هل يمكنك إيضاح هذه النقطة؟
في البداية، لم تكن الإمبراطورية العثمانية تعيش حالة صعود ثابتة، ومن المؤكد أنها لم تشهد تراجعا مستمرا حتى النهاية، حتى في العصر الذي ظهرت فيه إمبراطوريات أوروبا الغربية على الساحة العالمية. لقد مرت بفترات صعود وهبوط، وحققت نجاحات وإخفاقات كبيرة، حتى أنها حاولت تنفيذ مشروع إصلاحي طموح خلال القرن التاسع عشر أطلق عليه المؤرخون عصر التنظيمات ("التنظيمات" هي كلمة تركية تعني إعادة التنظيم).
وفي حين أن الإمبراطورية قد توقفت فعلا عن التقدم في أوروبا؛ فإن القول بأنها توقفت عن التوسع تماما هو تصور أوروبي بامتياز. على أية حال، لا ينبغي اعتبار ميل الإمبراطورية للتوسع مقياسا للحكم على جودة أدائها على الرغم من أنها دخلت في منافسة أوسع لكسب الرعايا والسيطرة على الأراضي في أفريقيا مع القوى الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، وهذا هو ما يسمى بـ "التدافع نحو أفريقيا" الذي كتبت عنه من منظور عثماني. كان العثمانيون يخشون أنه لن يكون بوسعهم الاستمرار بوصفهم قوة فاعلة في النظام السياسي العالمي إذا لم يدخلوا تلك اللعبة وإلا فسيتحولون إلى فرائس للإمبراطوريات الأخرى، إما أن يأكلوا وإلا فسوف يُؤكلون.
فيصل علي: صادق مؤيد باشا العظم (1860-1910) شخصية رئيسية في كلا كتابيك، سافر عبر أفريقيا كمسؤول عثماني كبير مسجلاً انطباعاته، لماذا اخترته وماذا كشفت لك أفكاره عن نظرة العثمانيين إلى أفريقيا في هذا العصر؟
مصطفى مناوي: في كثير من النواحي؛ فإن صادق مؤيد باشا العظم - وهو عضو في النخبة العثمانية من أصل عربي - يمكن تشبيهه بـ"فورست غامب" الإمبراطورية العثمانية، لقد كان حاضرا بشكل ما في العديد من الأحداث المهمة التي بحثت فيها ولذلك لفت انتباهي.
كان يرى نفسه في البداية جزءًا من طبقة النخبة الإمبراطورية التي امتدت من إسطنبول مرورا بسانت بطرسبرغ وانتهاء بباريس، ولكن نظرا لأن الأوروبيين تجنبوا الإمبراطورية العثمانية باعتبارها كيانا مختلفا لا يشبههم، فقد كان لذلك تأثير عليه.
يبدأ صادق العظم بعد ذلك بالسفر عبر أفريقيا حيث يلتقي بمسلمين آخرين من خلفيات عرقية وإثنية مختلفة في الصحراء الكبرى والقرن الأفريقي، هاجس نظرة الأوروبيين له بوصفه غير أوروبي ألقى بظلاله على نمط نظرته إلى هؤلاء الأشخاص. لقد أدرك أسلوب أوروبا في إسباغ صفة "الآخر" على الإمبراطورية العثمانية، ولكنه أدرك أيضًا كيف تبدأ النخب في الإمبراطورية العثمانية في إسباغ صفة "الآخر" على العروبة كشيء غير مرغوب فيه وفق عملية مماثلة.
لقد قام بعملية إسقاط تجربته الخاصة في إضفاء الآخرية عليه من قبل الأوروبيين على أسلوب تفكيره تجاه الأشخاص الذين يقابلهم في إفريقيا، وذلك عبر محاولته تمييز ذاته عنهم باستخدام لغة عنصرية لوصفهم. إنه يعتبر نفسه شخصا عربيا عثمانيا وأبيضا، في حين أن الأشخاص الذين يقابلهم مختلفون نظرا لبشرتهم الداكنة.
عندما انتقد الأوروبيون الإمبراطورية العثمانية فلربما كان يقول لنفسه: "نحن أيضًا من البيض، أظن أنكم تقصدون هؤلاء الناس، لأننا ننتمي لكم".
فيصل علي: ما الذي توصلت إليه خلال بحثك حول كيفية إدارة الإمبراطورية العثمانية لعقيدتها المشتركة مع المجتمعات الشقيقة في جميع أنحاء أفريقيا من زاوية أسلوب تعاملها معهم دبلوماسياً؟
مصطفى مناوي: كان العثمانيون عمليين للغاية بشأن كيفية تعاملهم مع هذا الأمر. كانت الرسالة، إذا فكرت في الأمر على نطاق واسع، هي أنه سيكون هناك سيد إمبراطوري مطلق في كلتا الحالتين، وكان الاختيار في نهاية المطاف محصورا بين إمبراطورية إسلامية تستوعب ثقافتها وتسمح بممارسة حكم ذاتي محلي وبين إمبراطوريات أوروبية من المرجح أنها ستستغل بقسوة المناطق التي تستولي عليها.
فيصل علي: كيف أثر ذلك على الدور الفريد الذي لعبته الإمبراطورية العثمانية في العالم في ذلك الوقت باعتبارها مقر الخلافة وكذلك بوصفها آخر نظام سياسي إسلامي مستقل في عالم تحكمه بالكامل تقريبا إمبراطوريات أوروبية؟
مصطفى مناوي: لقد أخذوا هذا الأمر على محمل الجد، وتحديدا عبد الحميد الثاني الذي قرر أن يلعب بالبطاقة الإسلامية في كيفية إدارته للدبلوماسية على نطاق عالمي، لقد أدركوا أن هذه كانت وسيلة لهم لكسب النفوذ على الإمبراطوريات الأوروبية - كالبريطانية والروسية والفرنسية - التي يقطن فيها عدد هائل من السكان المسلمين.
كانت العديد من الإمبراطوريات تخشى أن يدعو الخليفة السلطان العثماني إلى انتفاضات ضدها، وكان عبد الحميد على وجه الخصوص يعتبر هذا التهديد بمثابة ورقة رابحة. لم تعد الإمبراطورية العثمانية قادرة على منافسة الإمبراطوريات الأوروبية الصناعية الحديثة اقتصاديا أو عسكريا، لكنها استطاعت تحدي شرعيتها بهذه الطريقة.
فيصل علي: أنت تعمل حاليا على تأليف كتاب عن الإمبراطورية العثمانية في شرق إفريقيا، ما الذي تستطيع أن تشاركنا به بخصوص هذا العمل؟
مصطفى مناوي: اعتبرت الإمبراطورية العثمانية أجزاء كبيرة من شرق إفريقيا جزءا من الأراضي العثمانية ذات السيادة، من جزيرة سواكن ومصوع في البحر الأحمر، وحتى جنوبا على طول ساحل أفريقيا الشرقي وصولا إلى بربرة. العثمانيون ليسوا بالتأكيد وافدين جدد في شرق أفريقيا بل لديهم تاريخ يعود إلى أوائل القرن السادس عشر، لقد كانوا هناك عام 1517 وبعد ذلك في أواخر القرن التاسع عشر.
في أواخر القرن التاسع عشر واجه العثمانيون تحديا من قبل البريطانيين الذين شرعوا في التعدي على هذه الأراضي. لذا من ناحية؛ فأنا أدرس تساؤلات حول مفهوم السيادة وتعريفها وفقا للقانون الدولي وما يعادله لدى العثمانيين ونظرائهم الأوروبيين. ومن ناحية أخرى؛ فأنا مهتم أيضا بالبحث في كيفية تعامل العثمانيين مع نظيرهم الإمبراطور منليك الثاني في إثيوبيا وذلك بغرض إظهار التباين في نمط تعاملهم معه مقارنة بتعاملهم مع الإمبراطوريات الأوروبية التي هددت أراضيهم، لذلك هناك الكثير من الأحداث والوقائع التي تنتظر من يميط اللثام عنها.