تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

رواندا.. ما بين المعجزة الاقتصادية والمعضلة الديمقراطية

19 يوليو, 2024
الصورة
)تصوير لويس تاتو / وكالة فرانس برس(
)تصوير لويس تاتو / وكالة فرانس برس(
Share

شهدت رواندا، وعلى مدار ثلاثة أيام (14 و15 و16 يوليو/ تموز)، انتخابات رئاسية وتشريعية، تجرى بالتزامن للأول مرة في تاريخ البلد. اقترع المهاجرون في أولى أيامها، تلاهم المواطنون داخل البلد، فيما تم تخصيص اليوم الثالث لانتخاب "الفئات الخاصة"، وتشمل النساء والشباب وذوي الاحتجاجات الخاصة.

فتِحت مراكز الاقتراع في وجه 9,5 مليون ناخب من إجمالي سكان يبلغ تعدادهم 14 مليون نسمة، لاختيار رئيس للجمهورية من بين ثلاثة مرشحين يخوضون غمار السباق الرئاسي، و80 نائبا في البرلمان الرواندي من أصل 666 مرشحا، تشغل فيها الفئات الخاصة تمثيلية تقدر ب1/3؛ إذ يتم انتخاب 27 ممثلا عنهم من قبل ممثلين عنهم، وليس من قبل الناخبين المسجلين.

بول كاغامي يخلف نفسه

أظهرت النتائج النهائية أن مخرجات الصناديق منحت الرئيس بول كاغامي ولاية رابعة، فاللجنة الانتخابية في كيغالي، تتحدث عن فوز بنسبة 99٪ من الأصوات لصالح زعيم الجبهة الوطنية الرواندية، أمام المنافسين الآخرين؛ زعيم المعارضة ورئيس حزب الديمقراطي الأخضر فرانك هابينيزا، والمرشح المستقل فيليب مباييمانا اللذين يخوضان السباق الانتخابي، للمرة الثانية، ضد كاغامي.

انتخب بول كاغامي رسميا سادس رئيس للبلاد، عام 2000، بعدما شغل منصب نائب الرئيس باستور بيزيمونغو (1994-2000)، تولى خلالها قيادة البلاد، باعتباره زعيما للجبهة الرواندية، منذ عام 1994، بعد عودته من المنفى في أوغندا، ثم أعيد انتخابه ثلاث مرات، بالاقتراع العام، في 2003 و2010 و2017.

بهذه النتيجة المتوقعة، حسب أغلب المراقبين، في ظل منع المعارضين الرئيسيين من الترشح؛ فيكتوار إنغابيري زعيمة "القوات الديمقراطية المتحدة"، بسبب إدانات جنائية سابقة، وديان رويغارا؛ ابنة رجل الأعمال البارز أسينابول رويغار الذي مول أنشطة الجبهة الوطنية لسنوات عدة، بسبب وثائق غير متوافقة، على غرار ما حدث في انتخابات سابقة، قبل أن يبرئه القضاء عام 2018، يمدد كاغامي حكمه خمس سنوات أخرى، ما يعني البقاء في رئاسة البلاد 30 عاما.

قبضة حديدية تصنع الأمجاد 

يتولى كاغامي قيادة البلد باسم "الجبهة الوطنية الرواندية"، التي ساهمت في إنهاء الإبادة الجماعية ضد التوتسي، بالإطاحة في يوليو/ تموز 1994 بحكومة الهوتو المتطرفة، وتضم حاليا تحالفا قويا مكونا من 8 أحزاب رواندية، ما يمنح الرئيس الارتياح المطلق في الحكم، فالجبهة كانت تشغل في البرلمان 40 مقعدا، ولدى حلفائها الثلاثة سابقا 11 مقعدا.

ونجح في تحويل مستنقع من الدم إلى "سنغافورة إفريقيا"، بنسج خيوط واحدة من أسرع الاقتصاديات نموا في القارة، حيث شهدت البلاد تحولات ضخمة، صيرتها تجربة رائدة عالميا، يضرب بها المثل، في النمو والازدهار. فسجلت، وفقا لصندوق النقد الدولي، خلال عقد كامل (2012-2022)، نسبة %8 كمتوسط في النمو. بذلك، أضحت إحدى أفضل وجهات الاستثمار الموصى بها في إفريقيا. 

رافق ذلك تطوير هائل في البنى التحتية والخدمات الاجتماعية، ما حظي بإشادة من البنك الدولي، لكونها "حققت تطورا مثيرا للإعجاب"، فقد ارتفع متوسط العمر المتوقع إلى أكثر من 30٪. واعتبرت منظمة اليونيسف أن انخفاض معدل وفيات الرضع إلى النصف، منذ عام 2000، والذي يبقى من أهم المقاييس في تنمية الشعوب.

يقدم كاغامي، في أوساط قارية وعالمية، باعتباره مثالا للزعيم السياسي الذي صاغ نموذجا ملهما للتنمية، بعدما أنعش اقتصاد دولة غشاه طوفان الإبادة الجماعية. فالرجل بعث روندا من تحت الرماد، وحقق خلال 30 عاما، مستوى عال من المساواة في الحصول على الخدمات، أفضل مما يحلم به أي بلد آخر في العالم، وزكى ذلك في حملته الانتخابية بشعار "دون ترك أحدهم متأخرا".

ما وراء المعجزة الاقتصادية 

وراء الوجه المشرق للتجربة الرواندية خدوشا وندوبا، عادة ما لا يلتفت إليها عند كل حديث عن سيرة بلاد الألف تل. فصعود الأرقام الاقتصادية يقابل انخفاض في مؤشرات الحقوق والحريات، ما جعل مؤسسات دولية تصنف "المعجزة الاقتصادية" بالدولة السلطوية. وفقا لبيانات منظمة مراسلون بلا حدود، تحتل المركز 144 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة. وتصنف رواندا دولة غير حرة، في تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش، باستحقاقها 22 نقطة من 100؛ ما يمنحها الرتبة 171 من أصل 210 دولة.

يحرص الزعيم الرواندي على التقيد بأدق شكليات العلمية الديمقراطية، بتكريس التمكين السياسي للشباب، في بلد شبابي يمثلون 1/3 من نسبة المسجلين في اللوائح الانتخابية، ويبلغ من هم دون 30 عاما نسبة 65٪ من السكان، كما المرأة التي تحظى بأكبر تمثيلية في البرلمان قاريا (24 من أصل 80).

لكن جوهر الممارسة الديمقراطية؛ أي وجود معارضة في السياسة والإعلام، مفتقدة في كيغالي، فالرجل متعم بإسكات الأصوات المعارضة، بمنع أبرز رموز المعارضة السياسية من الترشح. ناهيك عن فرار عشرات الصحفيين إلى المنفى، مع توالي حملات القمع لأسباب غامضة، مثل حالة الصحفي ديودونيه نيونسينغا عام 2020.

تزيد نسب فوز الرئيس، في مختلف المحطات الانتخابية، تأكيدا لادعاءات المشككين في "الديمقراطية الرواندية" التي انطلق مع تولي كاغامي مقاليد الحكم في البلد؛ فقد بلغت 95٪ عام 2003، ثم 93٪ في 2010. وارتفعت، بعد الدستور الجديد، لتصبح 98٪ عام 2017، لتستقر في هذه المحطة الانتخابية عند نسبة 99٪؟

مساعي غربية للإطاحة بكاغامي 

يحاجج أنصار كاغامي، ممن لا يتصورون رئيسا آخر للبلاد غيره، لا سيما وأن 2/3 تقل أعمارهم عن 30 عاما، بأن هذه الأرقام طبيعية ومقبولة، مبررين دواعي "غياب المعارضة" في البلاد، بانعدام مبررات وجودها، "ما الذي يمكن معارضته في بلدنا... الرعاية الصحية الشاملة، التعليم المجاني؟ التوظيف؟ التنمية الاقتصادية؟ التمثيلية في البرلمان للنساء وذوي الإعاقة...؟

سبق للزعيم كاغامي أن تفاعل في حوار تلفزيوني مع صحفي في قناة فرانس 24، مع المعطى الذي اعتبر هذا الأخير أنه "لا يمكن أن يكون ذات مسار صحيح، وحالة جيدة". فرد عليه الرئيس بقوله: "لماذا يجب أن تقلق إذا تم انتخاب شخص ما بنسبة 90٪ أو 95٪ إذا كان هذا هو ما يسمح به محيطه وسياقه؟ وفي النهاية ذلك السياق هو الذي يقرر".

أكثر من ذلك، يذهب الرجل إلى أن اختيارات الشعب الرواندي رهنية تجربته التاريخية المأساوية، لذلك هو حر في عدم التقيد بالمعايير الغربية للديمقراطية، وإتباع النموذج الديمقراطي الذي يختاره لنفسه. دفوعات لا تجد أذانا صاغية في الغرب، فهذا ومن على شاكلته، مجرد ديكتاتوريين لدى الغربيين.

تصنيف دفع بمجموعة من الصحفيين الاستقصائيين، أسابيع قبل موعد الانتخابات الرئاسية، إلى إنتاج مجموعة من المقالات والأفلام الوثائقية، توزعت على نطاق واسع في الإعلام الغربي، بعنوان "ملفات رواندا" لنّيل من الحكم القمعي الديكتاتوري للرئيس بول كاغامي، أملا في منعه من كسب ولاية رابعة.

مهما يكن تقييمنا للتجربة الديمقراطية الرواندية، وأيا يكن الوصف الذي نطلقه عليها؛ ديمقراطية أم سلطوية، يبقى الشعب الرواندي صاحب الحق الحصري والوحيد في الإطاحة بالرئيس، متى ظهر له ما يفيد بأنه غير كفئ في التعاطي مع قضايا المواطنين وتطلعاتهم، أو بدت سياسته غير مقنعة للقاعدة الأكبر من الشعب، لا سميا مع تزايد التوتر مع جمهورية الكونغو في وسط إفريقيا في السنوات الأخيرة.