تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

حوارات

كيف أفلت الغرب باغتياله للومومبا؟

6 فبراير, 2024
الصورة
Stuart Reid’s new book, The Lumumba Plot
Share

يعيد كتاب ستيوارت ريد الجديد "مؤامرة لومومبا" النظرفي اغتيال باتريس لومومبا، مع نظرة ثاقبة لدور الولايات المتحدة في اغتياله وفي إسقاط حكومة أحد أكثر قادة أفريقيا أيقونية.

يحتل باتريس لومومبا، رئيس الوزراء الأسبق لجمهورية الكونغو الديموقراطية (المعروفة آنذاك بجمهورية الكونغو)، مكانةً شبه أسطورية بين الناس في جميع أنحاء أفريقيا وخارجها، وقد سعى الكثيرون إلى استعادة إرثه الأفريقوي الوحدوي والمناهض للاستعمار للتعبير عن تصوّراتهم لمعانى إنهاء الاستعمار وقسوة الإمبراطورية والمرونة في الكفاح من أجل الاستقلال.

ويرتبط تحوّل لومومبا إلى أيقونة سياسية للوحدوية الأفريقية ارتباطًا وثيقًا بظروف اغتياله عام 1961م، مع ذلك فقليلون من يتذكّرون الكثير عن الرجل في رأي ريد، فقد تعاون البلجيكيون -المستعمر القديم لجمهورية الكونغو الديموقراطية- مع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة لإقالة لومومبا وقتله بوحشية؛ حيث كانت بلجيكا تهدف لحماية أصولها التعدينية، والولايات المتحدة "تحارب" الشيوعية، فيما كانت الأمم المتحدة شريكًا متأخرًا في المسيرة الإمبراطورية ضد ديموقراطية الكونغو.

تحتوي القصة على كل عناصر الفيلم السياسي المثير: إمبراطورية انتقامية جشعة، معادن، ديموقراطية انحرفت عن مسارها، زعيم طموح يسعى لتغيير حظوظ بلاده، وخيانة. ورغم أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعبت دورًا حاسمًا، كان مابوتو، الحليف السياسي المُفترض، هو من قتل لومومبا، وبينما أُذيبت جثة لومومبا في الحمض ولم تبق منه سوى أسنانه، استمر موبوتو في حكم البلاد لثلاثين عامًا.

وعلى مر السنين، ظهرت تفاصيل موت لومومبا ببطء، فحمّل المؤلفون الأوائل البلجيكيين المسئولية الأساسية عن اغتياله؛ فقد كانت بلجيكا تمتلك امتيازات تعدين في منطقة كاتانغا الغنية بالمعادن، وحاولت منع الكونغو من السيطرة على هذه الموارد. كما أصبح دور الأمم المتحدة أكثر وضوحًا بمرور الوقت، من خلال أمينها العام حينذلك داج همرشولد، الذي قال سرًا للدبلوماسيين الأمريكيين أن "لومومبا يجب أن يُكسَر"، ورشى القوات الكونغولية لتمتنع عن التحرّك لمساعدة رئيس وزرائها المُحاصر. وقد أظهر فيلم "اغتيال لومومبا" للمخرج لودو دي ويت مدى المشاركة البلجيكية في العملية، والأكثر أهمية، محاولاتها استعداء الولايات المتحدة ضد لومومبا.

فقد كانت الولايات المتحدة حتى ذلك الوقت تتخذ موقفًا مراوغًا بشأن ما إذا كانت ستقف، على حد تعبير أحد كبار المستشارين الاقتصاديين لأيزنهاور، إلى جانب "القوى الكبرى" أو ستميل لأن "ندعم بنفوذنا أولئك الذين يسعون إلى الاستقلال السياسي والاقتصادي، مُخاطرين بالعلاقات مع أعضاء تحالف الناتو"، لتقف في نهاية المطاف إلى جانب بلجيكا، ملقيةً بكامل قوة أجهزتها الدبلوماسية والسرية ضد إدارة لومومبا الهشّة بضوء أخضر من أيزنهاور.

وهنا نلتقي ستيوارت ريد، الذي يحاول كتابه الجديد "مؤامرة لومومبا: التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية واغتيالات الحرب الباردة" تسليط مزيدًا من الضوء على دور الولايات المتحدة في اغتيال لومومبا، متحدثًا إلى موقع جيسكا Geeska عن التدخل وإرثه في الكونغو.

 

فيصل علي: لقد سُكب كثيرًا من الحبر حول هذا الموضوع، لهذا أتسائل ما الذي دفعك للاهتمام به؟ وما الذي تأمل إضافته له بمساهمتك؟

ستيوارت ريد: نعم، يوجد الكثير من الأعمال الجيدة حول الدور البلجيكي في الأزمة، لكن بدأ الدور الأمريكي يظهر بدرجة أكبر في السنوات الأخيرة، ففي عام 2013م، رُفعت السرية عن مجموعة كبيرة من برقيات وكالة المخابرات المركزية؛ وهكذا فأي شخص كتب عن الموضوع قبل هذا التاريخ لم يكن قادرًا على تكوين صورة كاملة؛ فأردت الاستفادة جزئيًا من هذه الفرصة، خصوصًا أنه حتى وقت متأخر كهذا العام، كنت أجد وثائقًا أقل تنقيحًا مما كانت عليه في السابق.

 

فيصل: أنت حريص في كتابك على عدم القول بأنك وجدت تعليقًا صريحًا من دوايت أيزنهاور، لكنك تجادل بأنه أمر فعلاً باغتيال لومومبا، ما يمثل الأمر الأول من نوعه من رئيس أمريكي بقتل رئيس دولة أجنبية خلال الحرب الباردة، هل يمكن أن تفصّل لنا بعض ما أقنعك بإصداره هذه الأمر؟

ستيوارت: ليس لديّ أدنى شك في أن أيزنهاور أمر باغتيال باتريس لومومبا، نعرف ذلك من خلال بعض الأدلة، أولها بالنسبة لي هو لجنة الكنيسة التي كانت هيئة تحقيق شكّلها مجلس الشيوخ الأمريكي -للتحقيق في انتهاكات أجهزة الأمن الأمريكية داخليًا وخارجيًا (المترجم)-، بتقريرها الصادر عام 1975م، الذي تضمّن مقابلةً أجرتها مع أحد مدوّني الملاحظات بلقاءات أيزنهاور مع كبار موظفيه، شهد فيها بأن أيزنهاور قال شيئًا مفاده ضرورة اغتيال لومومبا، وعندما سأل عما إذا كان يجب أن يسجّل ذلك، جاءه الأمر بعدم التسجيل. 

دليل آخر هو ما عثرت عليه بالصدفة في مكتبة أيزنهاور الرئاسية في كانساس، حيث عثرت على ملاحظة تحمل اسم لومومبا مُؤشّرًا بجانبه بعلامة X سوداء كبيرة، وهذا بالطبع ليس دليلاً بحد ذاته، لكنه موحٍ للغاية. كذا فبالنسبة لي "ما يحدث لاحقًا" يعتبر دليلاً كذلك، فقد أُرسلت السموم لقتل لومومبا من طرف وكالة المخابرات المركزية، وعندما سأل رئيس فرع الوكالة من أين جاء الأمر، قيل له أنه من الأعلى، من الرئيس دوايت أيزنهاور.

وهكذا، فبجمع كل ذلك، ليس من المُتصوَّر ألا يكون أيزنهاور قد قال شيئًا بهذا المعنى.

 

فيصل: يمثل لاري ديفلين أحد الشخصيات الرئيسية في كتابك، وهو عميل لوكالة المخابرات المركزية، يتسم بضعف الخبرة ويتمركز فيما تصفه بـ"الذيول المتأخرة الأكثر تخلفًا" بالنسبة للوكالة، كما تزعم أن ديفلين كان يعمل دون إشراف وأن محاولة الاغتيال تبدو عشوائية تمامًا، هل يمكن أن تخبرنا عن محاولات المخابرات المركزية النيل من لومومبا واغتياله؟

ستيوارت: كانت هذه أيام الغرب المتوحش بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية، حينما كانت منظمة ناشئة (تأسّست عام 1947م -المترجم) تحتاج مع ضعف الاتصالات لأناس يستطيعون العمل بدرجة من الاستقلالية، كما كانت تحظى بالكاد بأي إشراف من الرئاسة أو الكونجرس؛ فأدى ذلك لسلوك متخبط غير مُنظم في بعض الحالات، مثل خطة تسميم لومومبا، فيما كانت ناجحة بشكل قاتل في حالات أخرى. فعلى سبيل المثال، شجّعوا الرئيس كاسافوبو على إقالة لومومبا وفعل كما طلبوا، كما شجّعوا انقلاب موبوتو على لومومبا ونظّموا فريق البحث الذي قبض عليه، كانوا كذلك قد أعطوا الضوء الأخضر لموبوتو للنقل النهائي للومومبا إلى المنطقة التي كان مُخططًا قتله فيها.

 

فيصل: أحد الأشياء التي أدهشتني في كتابك هو أن العديد من المسئولين الأمريكيين قد خلصوا إلى أن لومومبا لم يكن السياسي الراديكالي المتعصب ولا "إنسان الغابة البدائي" الذي توقعوا أن يقابلوه. بل الواقع أنه، حسب الروايات الواردة بالكتاب، قد ترك انطباعًا إيجابيًا نسبيًا على معظم من قابلوه، فلماذا لم يغيّر ذلك موقف نخبة السياسة الخارجية الأمريكية نحو إدارته قصيرة العمر؟

ستيوارت: بعد موته، أصبح لومومبا هذا النوع من الأسطورة، ونُسبت إليه جميع أنواع الأفكار الي لا يوجد سوى القليل من الأدلة على تبنّيه لها، لقد كان مناهضًا شرسًا للاستعمار والبلجيكيين بالطبع، لكن ما أدهشني كان هو مدى ميله للأمريكيين في البداية، وقد بذل قصارى جهده لتذكير الجميع مرارًا وتكرارًا أنه لم يكن عميلاً سوفييتيًا. وأبرز مثال على ذلك كان زيارته لواشنطون في يوليو 1960م، التي دعى فيها حكومة الولايات المتحدة لإرسال قوات إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية، والتي يصعب أن تكون خطوة من مؤيد للسوفييت، كما طلب من الولايات المتحدة تقديم المزيد من المنح الدراسية.

لقد أُسيئت قرائته بشكل جوهري، فقد طرق بابهم للمساعدة ورفضوه، وكانت هذه هي النقطة التي دفعته للجوء إلى موسكو. لقد دفعته الولايات المتحدة بشكل من الأشكال إلى أحضان السوفييت، وحتى حينها لم تكن موسكو متحمسةّ لاستيعابه ولم تكن لديها القدرة حقًا.

 

فيصل: هل تعتقد أنهم أساؤا فهم قوميته الكونغولية القوية وكراهيته للحكم البلجيكي باعتباره تعاطفًا مؤيدًا للسوفييت؟

ستيوارت:  نعم، كانت الحرب الباردة السياق المهيمن، وكانت الولايات المتحدة غارقة في نوع من البارانويا؛ ما شوّه تفكيرها تمامًا.

 

فيصل: هل يدهشك أن الكونغو ليست أكثر عداءً لأمريكا على غِرار إيران مثلاً؛ بالأخذ في الاعتبار قتل الأخيرة زعيم كونغولي سابق واعد؟

ستيوارت: إنه موقف مدهش من بعض النواحي، لكن عليك أن تأخذ بالاعتبار أنه بعد لومومبا، نُصِّب عميل أمريكي رئيسًا للكونغو وحكمها لأكثر من ثلاثين عامًا، فلم يكرّس موبوتو كثيرًا من الطاقة لإثارة المشاعر المعادية لأمريكا؛ فلم يكن ذلك مفيدًا له.

 

فيصل: يجادل كتابك بأن المنافسة في الكونغو كانت الطلقة الافتتاحية للعولمة الصريحة للحرب الباردة، فكيّف ترى الحروب الكورية وإسقاط مُصدّق وغيرها من أحداث سبقت الإطاحة بلومومبا واغتياله؟

ستيوارت: قصدت ذلك بمعنى أن اغتيال لومومبا كان نتاج أول صراع -بين القوتين العظميين- لم يكن قريبًا من "أفنيتهما -الجيوسياسية- الخلفية"، بالمقارنة بجواتيمالا وكوريا وإيران، لا أريد المبالغة في هذه النقطة، لكن الكونغو كانت مسرحًا مبكرًا مهمًا للحرب الباردة في العالم الثالث، كما أصبحت نموذجًا للعمل السري للولايات المتحدة جرى تقليده وتكراره إلى حد ما في أماكن أخرى، وقد رأينا هذا السيناريو يُعاد مرارًا من الولايات المتحدة بعد الكونغو، بدعمها بعض الشخصيات الكريهة عندما كانت "فضيلتهم" الوحيدة أنهم مؤيديين لأمريكا.

فيصل: دعنا ننتقل إلى تَرِكَة هذه الواقعة، وتحديدًا موبوتو، لقد أمّم الكثير وكان يصعب التنبؤ به بشكل لا يُصدّق؛ حيث اتبع سياسات -كما تشير- ربما لم ينتهجها لومومبا كالتأميمات على سبيل المثال، فلماذا لم ينظروا إليه بنفس الطريقة؟

ستيوارت: في بعض النواحي، يمكنك القول أن أمريكا لم تحصل حتى على ما دفعت ثمنه بوضعه في السلطة، لكن نظامه كان مختومًا بعبارة "صُنع في أمريكا"، وقد كان الأمر بسيطًا حقًا؛ فعندما تكون الخيارات المُتاحة استبدال شخص آخر بموبوتو ربما يكون مُعاديًا لها، مقابل إبقاء نظامه المضطرب لكن المعروف لها جيدًا؛ يكون الخيار الأخير أسهل دومًا. لقد مثّل موبوتو -حسب افتراضهم- الاستمرارية والاستقرار، وقد انتهت فائدة نظامه بعد الحرب الباردة.

فيصل: لقد تم التخلّي عنه كعادة سيئة بعد فترة من الحكم كديكتاتور كارتوني، يمكن القول بكونه واحدًا من أسوأ ديكتاتورييّ أفريقيا، والحقيقة أنني أستمتعت بالطريقة التي ضفّرت بها القصتين معًا، لكني أتسائل عن المعنى الذي تعطيه لموبوتو بالنظر إلى ما حدث للومومبا، وما يمثّله كلُ منهما؟

ستيورات: لقد كان موبوتو ربيب لومومبا أو متدربًا لديه، وقد أعطاه لومومبا قدرًا كبيرًا من المسئولية، وخاصًة ما يتعلق بأفرقة الجيش الكونغولي، الذي كان قبل موبوتو يتكوّن على مستوى ضباطه من البلجيكيين حصرًا، لقد كانا مُقربيّن جدًا؛ فليس من المبالغة القول بأن لومومبا هو من خلق موبوتو، فعلاقتهما هي جوهر هذه القصة، وبخاصة خيانة موبوتو للومومبا عندما ساعد في قتله، أما ذروة المفارقة، فكانت استغلاله لاحقًا لميراث لومومبا، عندما قام ببناء نصب تذكاري للرجل الذي قتله وبإحياء ذكرى وفاته، وبهذه الصورة تتصل نهاية القصة ببدايتها مُشكّلةً دائرة مكتملة.

 

فيصل: كيف تتوافق القصة التي رويتها مع المشهد الأوسع للتاريخ الكونغولي، وخاصةً عدم الاستقرار المستمر الذي اُبتليت به البلاد منذ رسّمَت وكالة المخابرات المركزية نظام موبوتو حاكمًا؟

ستيوارت: أعتقد أن البلد لم تُمنح أبدًا فرصة للاستمتاع بثمار الاستقلال والمضيّ قُدمًا بسلاسة، وفي هذا الصدد، كان صعود موبوتو لحظةً حاسمةً، فقد أنهك البلد حقًا وفاقم المشكلات القائمة بل وخلق مشكلات جديدة، وهو الحدث التاريخي الأهم الذي يفسّر وضع الكونغو اليوم؛ لأن المؤسسات دُمرَت أو لم تتكوّن من الأساس، كما طُبّعَت السرقة، وكان موبوتو نفسه قمعيًا ومتقلّبًا؛ ليؤدي الانهيار إلى حرب أهلية لا تزال جذوتها مشتعلة في بعض الأماكن. لكني أظن أيضًا أنه يمكن تحميل الولايات المتحدة الأمريكية قدر كبير من المسئولية.