الأربعاء 20 نوفمبر 2024
سكن شعب الطوارق الصحراء الإفريقية على مساحة شاسعة، تمتد من موريتا غربا حتى تشاد شرقا، مرورا بالجزائر وليبيا والنيجر وبوكينا فاسو ومالي. فقد كان أمازيغ الصحراء شهودا على أكثر الحقب التاريخية محورية في نصف القارة الشمالي، حيث تنقلوا بحرية مطلقة في ربوع الفيافي، قبل أن تُقسمهم الحدود الاستعمارية شعوبا وقبائل بين الدول.
الطوارق (Tuareg) جمع طارقي؛ أي رجل من قبيلة تارگا، مجتمع من البدو الرُحل، امتزجت أحداث التاريخ بتعقيدات الجغرافيا في تشكيل هويتهم المتفردة في الصحراء؛ فديانتهم الإسلام، وفق المذهب المالكي، مع مسحة تصوف، مكنتهم من المساهمة في كتابة فصول من انتشار الإسلام بمنطقة غرب افريقيا، حيث نسجوا هناك تفاصيل حكاية ومجد خالدين.
أكثر من سردية في أصول التسمية، فرواية سندها التاريخ؛ تربط اسمهم بالقائد "طارق بن زياد" الذي أنهى الحكم القوطي في إسبانيا مطلع القرن الثامن للميلاد. وأخرى أساسها لغوي؛ تعتبر أن طوارق تحريف للفظ الأمازيغي "تماشق"، الذي يعني الرجال الأحرار. وثالثة قوامها الجغرافيا، تعتبر أن النطق السليم هو "التوارگ"، نسبة إلى تارگة؛ وتعني بالأمازيغية الساقية أو منبع الماء، بواحات فزان في ليبيا، التي كانت تحتوي أكبر مخزون للمياه في الصحراء الكبرى، حيث استقر أصغر فروع قبائل صنهاجة (إزناگن).
يتحدث القوم لغة أمازيغية، تعرف باسم "التامارشق" (Tamarshak)، تتفرع إلى ثلاثة فروع، حسب المناطق والقبائل (تماشق، تماجق، تماهق)، لها أبجدية تدعى تيفيناغ، بفضل أثارها في تدرارت أكاكوس؛ جنوب غرب ليبيا، تم كشف الكثير من الحقائق عن تاريخ الطوارق.
عن تلك اللغة، يقول الأكاديمي المغربي والعميد السابق للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، محمد شفيق، في كتابه المعجم الأمازيغي، بأن لغة الطوارق من اللغات التي حافظت على جذروها الأمازيغية، "الطارقية هي التي حافظت على الجذور، وذلك بحكم عزلة الطوارق منذ قرون وقرون في جزيرتهم الجبلية الصحراوية. وبفضل ما احتفظت به من جذور، يمكن للمرء أن يكون لنفسه تصورا واضحا تمام الوضوح لقواعد الاشتقاق الأمازيغي".
على غرار الاسم، تتضارب المعطيات حول تعداد الطوارق في القارة الإفريقية، في ظل غياب إحصائيات رسمية، فالأرقام تتحدث عن 3,5 مليون شخص، من قومية واحدة عابرة للدول، فهم موزعين ما بين مالي والنيجر وليبيا والجزائر وبوكينا فاسو.
استرعى مجتمع الطوارق اهتمام الرحالة القدامى، فكتبوا عنهم بهالة من الدهشة والإعجاب، فتحدث المؤرخ المغربي لحسن بن محمد الوزان، في وصف افريقيا، عن العصر الذهبي لمدينة تومبكتو التي كانت قبلة للعلوم الإسلامية، وقبل ذلك مركزا تجاريا لقوافل الملح الثمين القادم من الصحراء، ناهيك عن تجارة الرقيق والعاج.
وأسهب الرحالة ابن بطوطة في رحلته عبر الصحراء الكبرى، في وصف حياتهم وعاداتهم، ومما دونه في هذا الشأن قوله: "هم قبيلة من البربر (الأمازيغ) لا تسير القوافل إلا في خفارتهم (حمايتهم)، والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأنا من الرجل. وهم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غربية الشكل... ونساؤهم أتم النساء جمالا، وأبدعهن صورا مع البياض الناصع والسمرة".
ارتباطا بالمرأة التي نسجت سيرة استثناء في مجتمع الطوارق، حيث لا يزال النظام الأمومي ساريا، في استثناء فريد بين جماعات البدو، فهي المشرفة على شؤون الأسرة، وعادة ما تكون صاحبة مستوى تعليمي، لكونها من ينهض بمهمة تعليم الأبناء الكتابة وحفظ القرآن، نتيجة غياب الرجال عن القبيلة، بحكم التجوال بسبب الرعي أو التجارة وأحيانا القتال.
يمتد التفرد إلى تفاصيل بناء الأسرة، فالمرأة هي من تختار الزوج الذي ينتقل بعد الزواج للعيش معها حيثما تريد، وإليها ينسب الأبناء، وكذا ملكية البيت والمتاع والمواشي. ومن تقاليدهم أيضا، أن تسهر على استقبال الضيوف، وإطعام عابري السبيل. أكثر من ذلك، تملك المرأة هناك حق تطليق نفسها، لتأخذ وصف "أحسيس" باللغة المحلية، وتعني المتحررة، في إشارة إلى تخلصها من المسؤولية الأسرية. وتبقى المرأة المطلقة ذات شأن وقيمة في وسط القبيلة، فذلك مدعاة للفخر والاعتزاز، كونها تساهم في إنجاب رجال محاربين أقوياء.
كانت للطوارق بصمتهم في المشهد السياسي بدول الصحراء الكبرى، فشهدت مالي والنيجر ثورات لشعب الطوارق، بداية بثورة كيدال (1962-1964) التي جاء بعد استقلال مالي، حيث انتظر الطوارق من حكومة الرئيس موديبو كيتا حكما ذاتيا، لتفاجئهم الحكومة الشيوعية، بقرار تأميم ممتلكات السكان، بعدما خدعتهم بخبر إحضار قطعان المواشي قصد التطعيم بلقاح صيني ضد الأمراض. فوجد القوم أنفسهم أمام استعمار أسود محل الاستعمار الأبيض الذي طروده، فكانت الانتفاضة سبيلهم الوحيد.
تجدد الصراع مطلع التسعينيات، بدخول الطوارق في مواجهة مع الجيش المالي، راح ضحيتها 10 الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال، بعدما تحول هؤلاء، كما جاء على لسان أحدهم، إلى "طرائد للجيش، يطاردنا أينما توجهنا تنفيذا لأوامر قائد عسكري؛ حل مشكلة الطوارق يكمن في إبادتهم". وزادت مواقف المنظمات الإنسانية من تعقيد الوضع، برفضها تقديم المساعدة لهم، باعتبارهم "رحلا وليسوا لاجئين". توقف القتال بين الطرفين، بوساطة جزائرية، أفضت إلى توقيع اتفاق سلام بتمنراست عام 1991.
تفجر الوضع مجددا عام 2010، بتأسيس الطوارق "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" للمطالبة بتقرير المصير، بعد تمكنهم من سحق تنظيمات متطرفة بمنطقة أزواد التي أعلنوها "محررة". الانفصال كان نتيجة سنوات من التهميش والإقصاء من الحكومات المركزية في بامكو، فاستقرارهم في أعماق الصحراء حال دون تقلدهم مناصب رسمية، فضلا عن إبعادهم من المساهمة في اتخاذ القرار.
لم يكن الطوارق في النيجر أفضل حالا من مالي، بعد تعرضهم للاضطهاد خلال حكم الإنقلابي سيني كونتشي (1974-1987)، ما دفع أفواجا منهم إلى النزوح نحو ليبيا. حاول خلفه، الرئيس علي سايبو (1987-1993) فتح صفحة مع زعماء الطوارق، لكن المساعي فشلت ما أشعل فتيل المواجهة مجددا، بتوالي الهجمات المسلحة على الشركات الأجنبية العاملة في الصناعات التعدينية.
بلغت الحراك الطوارقي ذروته، عام 2007، عقب تأسيس تنظيم مسلح باسم "حركة النيجر من أجل العدالة الاجتماعية" الذي صعد عملياته ضد الجيش وعدد من المنشآت الحكومية، مبررين ذلك بكونه أفضل خيارا لإرغام الحكومة على تمكنيهم من عائدات صناعة اليورانيوم التي أضرت بأراضيهم.
اشتهر الطوارق بلقب الملثمين، لالتزام رجالهم البالغين سن الرشد بتغطية الوجه بلثام يبلغ طوله ما بين 4 إلى 5 أمتار، يلازم الرجل الطوارقي طوال حياته، يعرف محليا بلفظ "تاجلموست"، خلافا للنساء اللواتي يبقين مكشوفات الوجه.
تقليد اجتماعي، وإن بدا مفهوما في طبيعية صحراوية، فقد نسجت حول أصوله أكثر من أسطورة، لعل أشهرها تلك التي تفيد بأن رجال القبيلة خرجوا في مهمة، وخالفهم العدو إلى مساكن، فأمرت حكيمة القبيلة النساء حمل السلاح، وارتداء ملابس الرجال مع اللثام، والخروج لمواجهة المهاجمين الذي وجدوا أنفسهم بين جيشن بعد العودة المفاجئة للرجال، ليصبح اللثام بذلك سببا في نجاة القبيلة.
تربطه رواية أخرى بأهقار قائد الجيش، وابن ملكة الطوارق تينهينان، الذي ارتدى اللثام تسترا من قومه، بعد هروبه من إحدى المعارك. فلم يجد غير تغطية الرأس والوجه سبيلا لتورية عار جلبه وجنوده بفرارهم، لا سميا وأن قبائل الطوارق شعب محب للقتال والمعارك، يجيد استخدام السيوف والخناجر والرماح، فضلا عن قوة صبهم على مناخ الصحراء الصعب، فظلوا على تلك الحالة طيلة حياتهم، وهكذا تحول الأمر تقليدا لمن جاء بعدهم وسط المجتمع.
تذهب رواية ثالثة إلى أن التقليد مرتبطة بدولة المرابطين (1056-1147)، فشعب الطوارق، حسب هؤلاء، هم حفدة المرابطين الذين حكموا المغرب والأندلس وغرب افريقيا، ممن كانوا يضعون لثاما على وجوههم حتى إنهم عرفوا بدولة الملثمين.
الطوارق أو المثلمون أو أمازيغ الصحراء مجتمع افريقي عريق نسج تاريخ في أعماق الصحراء في تحد لقساوة الطبيعة التي قهرها، قبل أن تقهره الدولة الوطنية الحديثة بقواعدها وضوابطها وحدودها، فأضحى هذا الشعب محاصرا بين مطرقة البحث عن الاستقرار والعيش الكريم وسندان تحرش الحكومات المركزية والتنظيمات المتطرفة ولوبيات استغلال الثروات والموارد.