تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 16 مايو 2024

فكر

بفضل غزة.. انكشف الإفلاس الأخلاقي للفلسفة الأوروبية

27 مارس, 2024
الصورة
Juergen
Juergen Habermas (Photo by aslu/ullstein bild via Getty Images)
Share

بعد أكثر من شهر من عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل، قام الفيلسوف الألماني المعاصر، يورغن هابرماس (مع ثلاثة آخرين) بكتابة بيان مقتضب تحت عنوان: "مبادئ التضامن" حول مواقفهم من الحرب على غزّة. أدان البيان "المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام". وتجاهل البيان العدوان الصهيوني وآثاره التي تحوّلت إلى حرب إبادة وتطهير للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة بل واعتَبرها "مبررة من الناحية المبدئية". تفاعل مع هذا البيان باستهجان العديد من المثقفين حول العالم، منهم آصف بيات وعزمي بشارة. في هذه المقالة القصيرة يواصل حميد دباشي نقده اللاذع ضد الفلسفة العرقية الأروبية التي لا تعترف بوجه الآخر غير الأوروبي. من ترجمة: صهيب محمود.

 

من نازية هايدغر إلى صهيونية هابرماس، لا تعني معاناة "الآخر" الكثير

تخيل لو كانت لإيران أو سوريا أو لبنان أو تركيا - مع دعم كامل وتسليح وحماية دبلوماسية من روسيا والصين - الإرادة والقدرة على قصف تل أبيب لمدة ثلاثة أشهر، ليلًا ونهارًا، وقتل عشرات الآلاف من الإسرائيليين، وتشويه عدد لا يحصى منهم، وتشريد الملايين، وتحويل المدينة إلى كومة أنقاض لا يمكن العيش فيها، مثلما هي غزة اليوم. فقط تخيل الأمر لبضع ثوان: إيران وحلفاؤها يستهدفون بشكل متعمد أجزاء مأهولة في تل أبيب_ مستشفيات، وكنائس يهودية، ومدارس، وجامعات، ومكتبات، أو بالفعل أي مكان مأهول – لضمان أكبر قدر من الضحايا المدنيين. سيخبرون العالم إنهم يبحثون عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته الحربية وحسب. سلْ نفسك عمّا  ستفعله الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا وألمانيا على وجه الخصوص في غضون 24 ساعة من تفجّر  هذا السيناريو الخيالي.

 عد الآن إلى الواقع، وفكر في حقيقة أنه منذ 7 أكتوبر (وقبل ذلك بعقود من الزمن)، لم يكن حلفاء تل أبيب الغربيون شهودًا على ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زودوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل والذخائر والتغطية الدبلوماسية، في حين قدمت وسائل الإعلام الأمريكية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين وإبادتهم.

لن يتسامح النظام العالمي الحالي مع السيناريو الخيالي المذكور أعلاه ولو ليوم واحد. وفي ظل البطلجة العسكرية الأمريكية والأوروبية والأسترالية والكندية لدعم إسرائيل بالكامل، فإننا، نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، غير مرئييين. هذا ليسواقعًا سياسيًا فحسب، بل يشمل  أيضًا التصور الأخلاقي والكوني الفلسفي لمن يُطلق على نفسه "الغرب". ليس لمن هم خارج مجال المخيلة الأخلاقية الأوروبي، لا نوجود في كونهم الفلسفي. فنحن العرب والإيرانيون والمسلمون، أو شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، مجردون من  أي حقيقة وجودية بالنسبة للفلاسفة الأوروبيين، باستثناء اعتبارنا تهديدًا ميتافيزيقيًا  يجب التغلب عليه وإسكاته.

بدءاً من إيمانويل كانط وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، واستمراراً مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، نُعدُّ  غرباء وأشياء ومواضيع معرفة أُوكِل للمستشرقين فك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى توقف في أذهان الفلاسفة الأوروبيين.

 

قبائلية الجماهير الأوروبية 

إذا كنت تشك في ذلك، فما عليك سوى إلقاء نظرة على الفيلسوف الأوروبي الرائد يورغن هابرماس وعدد قليل من زملائه، الذين خرجوا في عمل فظ ومذهل بطريقة مبتذلة وقاسية، لدعم المذبحة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. لم يعد السؤال يتعلق بما قد نفترضه عن هابرماس الإنسان، البالغ من العمر الآن 94 عامًا، بل بما قد نفترضه عن العالم الاجتماعي والفيلسوف والمفكر النقدي. ألا تزال أفكاره مهمة للعالم، إن كانت كذلك في الأصل؟

لقد كان العالم يطرح أسئلة مماثلة عن فيلسوف ألماني رئيسي آخر، مارتن هايدجر، في ضوء انتمائه الضار للنازية. في رأيي، يجب علينا الآن طرح مثل هذه الأسئلة عن الصهيونية العنيفة لهابرماس والعواقب الوخيمة لماقد نفكر فيه بشأن مشروعه الفلسفي برمته.

إذا لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأمثال الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطًا بأي شكلٍ ببقية البشرية - بما يتجاوز جمهوره الأوروبي القبلي المباشر؟ 

في رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال العالم الاجتماعي الإيراني البارز آصف بيات أنه، "يناقض أفكاره ذاتها" عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة. مع كامل الاحترام دعوني أختلف مع ذلك. أعتقد أن تجاهل هابرماس لحياة الفلسطينيين متماشٍ تمامًا مع صهيونيته. إنه متماشٍ على نحوٍ مثالي مع النظرة العالمية التي لا تعتبر غير الأوروبيين بشرًا بالكامل، أو تعتبرهم "حيوانات بشرية"، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالنت صراحةً.

إن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في مخيلة الفلسفة الألمانية والأوروبية. تقول الحصافة السائدة أن الألمان، بسبب ذنب المحرقة، طوروا التزامًاقوياً اتجاه إسرائيل.

ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يظهر الآن من خلال الوثيقة الرائعة التي قدمتها جنوب إفريقيا إلى المحكمة الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال فترتها النازية وما تفعله الآن خلال فترتها الصهيونية.

أعتقد أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه "اليسار الألماني"، مع كراهيته العنصرية الإسلاموفوبية والزينوفوبية للعرب والمسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية.

ويجب أن نُسامح إذا تصورنا أن ما تعانيه ألمانيا اليوم ليس ذنب المحرقة، بل نوستالجيا الإبادة، حيث شاركت بشكل غير مباشر في قتل الفلسطينيين على مدى القرن الماضي (وليس في المائة يوم الماضية فحسب).

 

فساد أخلاقي

لا تستند تهمة المركزية الأوروبية التي يتم توجيهها باستمرار ضد تصور الفلاسفة الأوروبيين للعالم على خلل معرفي في تفكيرهم فحسب، بل هي علامة ثابتة على الفساد الأخلاقي. في مناسبات عديدة سابقة، أشرت إلى العنصرية غير القابلة للشفاء والتي تكمن في قلب التفكير الفلسفي الأوروبي وممثليه الأكثر احتفاءً اليوم. وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء، بل هو محفور بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبائلية بشكل لا يمكن الشفاء منه..

وهنا يجب أن نلخص العبارة الشهيرة للشاعر المارتينيكي المجيد إيمي سيزير: "نعم، سيكون من الجدير أن ندرس سريريًا، وبالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والنازية، وأن نكشف للبرجوازي المسيحي المتميز جدًا والإنساني جدًا في القرن العشرين أنه، دون أن يدرك ذلك، يحمل هتلر بداخله، وأن هتلر يسكنه، وأن هتلر هو شيطانه، وأنه إذا انتقده، فهو يناقض ذاته، وأنه في النهاية ما لا يستطيع أن يغفره لهتلر ليس الجريمة في حد ذاتها، الجريمة ضد الإنسان، وليس الإهانة للإنسان على حد سواء، بل الجريمة ضد الرجل الأبيض، وإهانة الرجل الأبيض، وحقيقة أنه طبق على أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي حتى ذلك الحين كانت مقتصرة على [الشعوب العربية والهندية والإفريقية]”.

إن فلسطين اليوم امتداد للفظائع الاستعمارية التي يستشهد بها سيزار في هذا النص. يبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية لهيريرو وناماكوا. وعلى غرارمثل النعامة، دفن الفلاسفة الألمان رؤوسهم داخل أوهامهم الأوروبية، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم.

في النهاية، برأيي، لم يقل أو يفعل هابرماس أي شيء مفاجئ أو متناقض؛ بل على العكس تماما، لقد كان متسقًا تمامًا مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسبه الفلسفي، والتي اتخذت بشكل خاطئ دورًا عالميًا. 

لقد تحرر العالم الآن من هذا الشعور الزائف بالعالمية. إن فلاسفة مثل في واي موديمبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مزاعم أكثر شرعية بالعالمية من التي  لدى هابرماس وأمثاله.

في رأيي، يمثل الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائف. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، الذين أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها "الحضارة الغربية".