تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الخميس 19 سبتمبر 2024

رأي

كينيا وفرص الزعامة الإقليمية في القرن الأفريقي

8 يونيو, 2024
الصورة
روتو
أثناء زيارة روتو واشنطن العاصمة في تاريخ 23 مايو 2024 .(تصوير تشيب سوموديفيلا / Getty Images)
Share

أثارت زيارة الرئيس الكيني وليام روتو مؤخرًا إلى واشنطن، موجة من التساؤلات عن الدور الكيني المتنامي في القرن الأفريقي، ما اعتبره مراقبون تتويجًا لطموحها المتصاعد في المشهد السياسي الدولي والإقليمي، فقد وُصفت "نيروبي" بكونها دولة محورية في القرن الأفريقي، لاسيما بعد تراجع نفوذ المارد الإثيوبي الذي كان يتمتع بنفوذ كبير في ترميم وتصميم سياسات الدول الواقعة في القرن الأفريقي. وبدا تأثير الظروف الداخلية على الأداء الإقليمي لـ "أديس أبابا" واضحا.

في كينيا، تغير المشهد السياسي الخارجي بعد صعود وليام روتو، في انتخابات 2022، فالرئيس الجديد بات أقرب إلى الغرب أكثر مما كان متوقعًا، مقارنة بسلفه أوهورو كينياتا (2013-2022) الذي كان ميالا إلى الصين، ورغم أن روتو عمل كنائب للرئيس السابق، إلا أنه لم يكن مؤثرا وفاعلا في السياسات الخارجية آنذاك. وكانت له محاولات محدودة من أجل استمالة الغرب إلى كينيا، في بداية عهد كينياتا، لكنها باءت بالفشل، وصار مُهمشًا في أروقة صنع القرار طيلة فترة شغله هذا المنصب.

على الرغم من الحماسة التي يبديها روتو نحو الغرب مؤخرا، فإن العلاقات الكينية – الصينة ليست عرضية، بل هي لعبة أدوار مشبوهة لتقويض نهوض أفريقيا في الساحات الدولية، والاهتمام الغربي المتزايد بالقارة الأفريقية، ما هو إلا "غيرة" غربية من تغلغل الصين الناجح في القارة، فضلا عن سياستها المُحايدة في الشؤون الداخلية الأفريقية. كان روتو دبلوماسيا لحظة إجابته على سؤال الصحفي الإنجليزي ريتشارد كويست، أيهما تفضل: استثمار الغرب أم الصين؟  بأنه يفهم جيدا، صعوبة المقاربة بين هاتين القوتين في بلد ذا اقتصاد واعد، وأنه أمام مهمة صعبة للغاية، إن لم تكن شبه "مستحيلة" في قادم الشهور.

الظروف الإقليمية المواتية

استغلت كينيا غياب الدور الإثيوبي في الساحة الإقليمية، بعد تولي رئيس الوزراء آبي أحمد الحكم، وذلك عقب خوضه حربًا أهلية ضدّ القوى الفيدرالية في إثيوبيا، ما انعكس سلبًا على الدور الإثيوبي إقليميا، رغم محاولة آبي أحمد الأخيرة التأثير على المشهد السياسي في السودان، وتقاربه مع محور محمد حمدان دقلو "حميدتي" (قائد قوات الدعم السريع)، على حساب الجيش السوداني، ممثلا في الفريق أول عبد الفتاح البرهان.  نهاية شهر مايو/ أيار الماضي، أقيم في أديس أبابا، المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى المدنية والديمقراطية "تقدم"، إلا أن هذه المساعي لا تضمن لإثيوبيا لعب دور فاعل ومحوري، فالأزمة السودانية مستعصية حاليًا، وذلك لكثرة التشققات الداخلية.

في خضمّ جهود إعادة رسم خريطة دورها الإقليمي المتراجع، أشعلت إثيوبيا فتيل صراع دبلوماسي جديد مع الصومال، حين أبرمت صفقة مع صوماليلاند؛ ما فجر أزمة دبلوماسية بين مقديشو وأديس أبابا، وصلت حدّ استدعاء السفراء. هذا، وتشير الدلائل إلى أنّ مقديشو تفكر جدّيًا في إنهاء مهام القوات الإثيوبية المتواجدة في جنوب الصومال، بحلول نهاية العام الجاري، كردّ فعل على تفاقم الأزمة.

في المقابل، تقدّم كينيا نفسها نموذجا للاستقرار الأمنيّ والانتعاش الاقتصادي، مستفيدة من الفوضى المحيطة بها لبلورة أجندة خارجية واضحة، تسعى من خلالها التأثير على ديناميكيات الصراع الإقليمي، بما يتوافق مع مصالحها الخاصة، فقواتها منتشرة في جنوب الصومال (إدارة جوبالاند)، لمحاربة تمدّد حركة الشباب إلى الشريط الحدودي مع الصومال منذ حوالي عقدين.

نيروبي وملفات السلام في القرن الأفريقي

تشهد المنطقة تطورات هامة على صعيد السعي لتحقيق السلام والاستقرار، حيث تجري حاليًا مفاوضات بين الحركات المسلحة والحكومة في جنوب السودان، برعاية كينيا في نيروبي، بهدف إنهاء الصراع المسلح، ووضع دستور متفق عليه، من قبل جميع الأطراف. وقبل أسبوع، تمّ التوصل إلى اتفاقية "إعلان نيروبي" بين الفرقاء السودانيين. وكان لرئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، دور محوري في هذه المفاوضات، فقد كان طرفًا في القوى المدنية التي دعت إلى وقف فوري للاقتتال في السودان. دوليا، أعلنت كينيا مشاركتها في بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في هايتي، وستلعب دورًا قياديًا في تلك العملية. وأكد الرئيس وليام روتو، في زيارته الأخيرة إلى واشنطن، استعداد كينيا لإرسال ألف شرطي إلى هايتي. بهذا تصبح القوات الكينية، أول قوة من دول شرق إفريقيا تشارك في صراع قاري

تُمثّل هذه الخطوة بدايةً لتعزيز مكانة كينيا كقوة ناعمة، قادرة على حلّ النزاعات الإقليمية والدولية، من خلال السعي إلى حلول وسطى، دون الانحياز لأيّ طرفٍ من الأطراف المتصارعة. ويأتي بروز الدور الكيني، في ظلّ تراجع إثيوبيا إقليميًا، وعدم جاهزية أوغندا للعب دورٍ محوريٍّ في سياسة القرن الأفريقي، وعدم اهتمام رواندا بحلّ الفوضى المتصاعدة في المنطقة.

الاستقرار الاقتصادي لـ "نيروبي"

يُعد اقتصاد كينيا ثاني أكبر اقتصادٍ في القرن الأفريقي بعد إثيوبيا، ويسجل بفضل تنوعه الكبير، في السنوات الأخيرة، نموا ملحوظا قدره %5.4. يبقى القطاع السياحة والخدماتي من أكثر القطاعات نموا في كينيا، وذلك بفضل الاستقرار السياسي منذ 2002، فقد نجحت في جذب آلاف التجار من أنحاء القرن الأفريقي، وبقاع مختلفة من العالم، بفضل اقتصادها الليبرالي مقارنة ببقية دول شرق إفريقيا، فالقطاع الخاص يساهم ب 70% من الناتج المحلي الإجمالي، ممّا يدلّ على حيويته، ودوره في دفع عجلة التنمية.

تسعى حكومة كينيا جاهدةً إلى تقليل البيروقراطية في السوق الكيني، ومكافحة الفساد المستشري في الدوائر الحكومية. وإدراكًا منها لخطورة الفساد على الاقتصاد والسمعة على الصعيد الدولي، خصصت الحكومة نصف مليار دولار لمكافحة الظاهرة بمساعدةٍ أمريكية. لكنه، بالرغم من ذلك، لا يزال معضلةً كبيرةً في البلد، لدرجة أن الزوار الجدد يعتبرونه ظاهرةٌ "مُقننة"، بسبب انتشارها وسط المسؤولين الحكوميين.

دخلت كينيا مؤخرا إلى السوق الإثيوبي، بعد أن سمح "آبي أحمد" بولوج شركة "Safaricom" للاتصالات إلى السوق الإثيوبي المنتعش، بسبب انغلاقه على الأسواق العالمية نتيجة سياسة الحكومة الاتحادية. فضلا عن ذلك تسعى نيروبي إلى الاستفادة من الممر التجاري الرابط بين كينيا وتنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وتتوقع أن تصل التبادلات التجارية بين هذه الدول، بحلول عام 2035، إلى 200 مليار دولار.

تأثير "البطة العرجاء" على زيارة "روتو"

يُستخدم مصطلح "البطة العرجاء" (Lame Duck) للإشارة إلى ضعف نفوذ الرئيس الأمريكي في القضايا المحلية والدولية، مع اقتراب موعد الانتخابات، فالظاهر أنّ جو بايدن دخل مرحلة "البطة العرجاء" في سعيه لإيجاد فرصةٍ سانحةٍ لمنافسة الصين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتقديم نفسه الطرف المثالي القادر على صدّ وتقليل التأثير الصيني في إفريقيا.

أجَّل البيت الأبيض الزيارة المتوقعة للرئيس بايدن إلى إفريقيا، في نهاية العام الماضي. في المقابل، حضر الرئيس الصيني شي جين بينغ قمة البريكس (BRICS)، في جوهانسبرغ، في أغسطس/آب الماضي. ولدى هذا الأمر دلالةً على النفوذِ الناعمِ للصين في أفريقيا، واهتمامها الجاد بالقارة، بينما تبدو واشنطن منشغلةً بملفاتٍ أخرى، لا تتصل بالقضايا الملحة والجوهرية التي تحتاجها إفريقيا.

تأتي زيارة الرئيس الكيني وليام روتو إلى البيت الأبيض، كاستفاقةٍ أمريكيةٍ متأخرةٍ، على التغيرات في الوضع الإقليمي، والوضع الانتخابي المتقلب في الولايات المتحدة، ما يفسر اهتمام الرئيس الأمريكي جو بايدن المفاجئ بكينيا، والذي يبدو كردّ فعلٍ على الدور المتصاعد للصين في أفريقيا بشكلٍ عامٍّ، وكينيا بشكلٍ خاصٍّ، ومحاولة يائسة من واشنطن تقليل النفوذ الصيني في القارة.

تمثل زيارة روتو إحدى الأجندات التي يسعى بايدن من خلالها إظهار قدرته، على التنافس مع الصين في أفريقيا، أمام الناخب الأمريكي، وتأكيدًا على بقاء كينيا حليفا استراتيجيٍا للغرب في ملف القرن الأفريقي، على الرغم من التغيرات في الوضع الإقليمي والوضع الانتخابي في الولايات المتحدة، يبقى السؤال حول قدرة الولايات المتحدة، في ظلّ حالة "البطة العرجاء" التي تعيشها، على تقديم ما تريده نيروبي من دعمٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ.

"كينيا" والزعامة الإقليمية

أمام كينيا فرصةٌ كبيرةٌ لتوسيع سياساتها في دول شرق إفريقيا. ويعزى ذلك إلى غموضِ المشهدِ الإقليمي في بقية الدول التي تواجه تحدياتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ. وتُمثّل نيروبي الضوءَ الوحيدَ الذي ينيرُ دول القرن الأفريقي، لما تتمتع به من استقرار سياسي واقتصادي، فأيّ زائرٍ يُقارنُ بين أديس أبابا ونيروبي وكمبالا، على سبيل المثال، سيُلاحظُ الفرقَ الشاسعَ بين هذه المدن، وكيف أن "نيروبي" تفوقت من حيث الاستثمارِ البشريّ والاستقرار السياسي والاقتصادي، وبناء مؤسساتٍ حكوميةٍ قادرةٍ على الحدِّ من تطلعاتِ الفاعلينِ السياسيين في بقية عواصم المنطقة.

أكدت زيارةُ وليام روتو "التاريخية" إلى الولايات المتحدة الأمريكية الدورَ الجديدَ لكينيا في المنطقة، فقد تمّ تصنيفُها كحليف رئيسي من خارج منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من قبل الولايات المتحدة. وتُعدّ كينيا أول دولةٍ أفريقيةٍ، من جنوب الصحراء الكبرى، تحصل على هذه الصفة، وهي الدولة الرابعة بعد مصر وتونس والمغرب، ما يُتيحُ لـها الاستفادةَ من فوائدِ ومزايا، تعزّزُ علاقاتها الأمنية والدفاعية مع الولايات المتحدة.

كان العامل الاقتصادي لـأديس أبابا في العقود الأخير، إحدى الدعائم الراسخة في ريادتها الإقليمية، وحققت إثيوبيا الترتيب السابع في 2013، وفقا لمؤشر الجذب الاستثماري في القارة الافريقية، وكافح الرئيس الوزراء الأسبق، مليس زيناوي (1995-2012)، إلى أن تصبح أديس أبابا مركز ثقل للقارة، والقرن الإفريقي بصورة خاصة، وقد نجح فعلا - زيناوي - إلى استمالة الغرب إلى أديس أبابا، ورسخ علاقة قوية مع الولايات المتحدة، والصين، والهند، وبعضًا من الدول العربية، علاوة على أنها تصنف الترتيب الخامس كأقوى جيش في القارة الافريقية، والأولى في الدول الشرق الافريقية، وبعد الاحتجاجات التي أطاحت "ديسالين" انتخب الائتلاف الحاكم في إثيوبيا الدكتور أبي أحمد، رئيس الوزراء، دخلتإثيوبيا مرحلة جديدة من الحكم، وتصرف أبي أحمد كرجل ثوري ، مما فجر احتجاجات داخلية ، في إقليمي الأرومو التي ينحذر أبي أحمد نفسه، وحروب إقليمَيْ الأمهرة، وتيغراي. من جانبها، حققت كينيا انجازات اقتصادية كبيرة في العقد الأخير، واستقرار سياسي منقطع النظير، ورغم أنها ليست قوة عسكرية مثل إثيوبيا، إلا أن العوامل القوى الناعمة التي ذكرناها سابقا رجحت كفتها، في تأثيرها المتصاعد في القرن الافريقي. ولكن السؤال الأبرز هنا، هل القوى الناعمة مع غياب التأثير العسكري كاف لإدارة القرن الافريقي الملتهب ؟ 

يتطلب الدور الإقليمي الجديد لكينيا مرونة دبلوماسيةً كبيرة، واستجابة للتحديات الأمنية المتجددة في المنطقة. كما يحتم عليها تطويرِ قواتها الأمنية، تكون جاهزةً للمشاركة في العمليات الأمنية ضد الجماعات الإرهابية في المنطقة. فضلا عن وجوب استثمارَ دورها الإقليمي الجديد، بما يخدمُ مصلحةَ دول القرن الأفريقي. خصوصا أن فرصةُ عودةِ إثيوبيا؛ منافستها الوحيدة إلى الساحة الإقليمية ضئيلةً، في السنوات القادمة، بسبب الأزمات الداخلية التي تعاني منها، وفقدانها لعضويتها مؤخرًا في قانون الفرص والنمو الأمريكي "إيجو".