الجمعة 22 نوفمبر 2024
مرت عشرون عاما على إقرار النظام الفيدرالي في الصومال، في مؤتمر إمبغاتي، وعقب مداولات حادة بين النخب السياسية المسلحة والمدنية آنذاك، عن طبيعة النظام الحكم في الصومال؛ هل الفيدرالية مناسبة أم المركزية؟ وبعد جلسات مطولة اختير النظام الفيدرالي على مضض.
في البداية، رُوّج على أنه "مشروع أجنبي" يميّع الحل، بل ويراد به تقسيم الصومال "المُقسم أصلا" إلى دويلات صغيرة. بالرغم من أن الواقع يفيد بأن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاسية التي مرت بالصومال قبل/ بعد التسعينات، قد تدفع نحو تبني أطروحة سياسية جديدة، قادرة على إعادة الثقة بين المجتمع الصومالي، والـ "فيدرالية" كانت بمثابة "عقد اجتماعي"، يضمن التوافق بين النخب السياسية المختلفة.
من الغريب أن الفكر السياسي للنخبة الحاكمة في "فيلا صوماليا" لم يراوح مكانه، بعد عقدين من الزمن، فلا تزال السّجالات العقيمة موجودة في بلد عاش سنوات من اللا دولة والفوضوية "الأناركية". وانتعشت الدعاية السلبية المفرطة ضد "الفيدرالية"، في آخر سبع سنوات، بسبب الجهود المضنية التي تبذلها "فيلا صوماليا" في تقويض نظام الحكم في البلاد، وشيطنة كل كيان فيدرالي، يرى عكس ما تراه صحيحا. وتجلى ذلك في إغلاق الفضاء السياسي والاقتصادي لكل من "جوبا لاند وبونتلاند"، في فترة فرماجو وحسن شيخ محمود الحالية.
حيثيات تاريخية
بالعودة إلى سؤال كيف وصلنا إلى هذا النظام الفيدرالي، سنرى أن سياسيين بارزين من إدارة جنوب غرب الصومال، هم من طرحوا فكرة تبني "فدرالية الصومال"، في فترة الوصاية الأممية 1950-1960. لكنها لم تجد قبولا لدى مختلف السياسيين حينذاك، بسبب حسن النوايا السياسية لتوحيد الأقاليم الصومالية الخمسة؛ المنقسمة وفقا لمعاهدة برلين 1884_1885م، واعتقادهم بأن الفيدرالية ستخمد الروح الوطنية المرتفعة للمجتمع الصومالي آنذاك.
أفضى الانشقاق المجتمعي الذي نتج عن السياسات الاستبدادية للرئيس محمد سياد بري، الذي سخر كل قوته لتفكيك المجتمع الصومالي، وبناء منظومة قمعية فتاكة، إلى وقوع الصومال في حالة "اللا دولة"، وقتل عشرات الآلاف من الشعب الصومالي، بسبب انتمائهم القبلي والمناطقي. كل هذه النعرات القبلية، وحركات التمرد المسلحة، كانت بذورا زرعها النظام البائد، وصارت القبيلة بمثابة "الدولة"، بعد فقدان الثقة بالدولة الصومالية.
هكذا أقر السياسيون الفيدرالية، بعد مرور 50 عاما تقريبا من طرح فكرة "فَدْرَلة" الصومال. وكان السبب الرئيسي وراء ذلك غياب الثقة بين أطياف الشعب الصومالي المتحارب، والإرث الاستبدادي المؤلم لنظام "بري" المركزي، والاحتراب القبلي في التسعينات وما بعدها، حيث صارت الفيدرالية أمرا واقعا، ومنصوصا عليه في الدستور المؤقت التي تم التصديق عليه في عام 2012. وهنا نضيف بأن تلك الأسباب كانت وراء انخفاض الروح الوطنية العالية الراغبة في توحيد الأقاليم الصومالية من جديد، بل إن صوماليلاند أعلنت انفصالها عن جمهورية الصومال من جانب واحد.
المركزية مقابل الفيدرالية
لم تكن السيطرة على الحكم لعقدين أمرا سهلا، بسبب غياب ثقافة الدولة. ولكن "بري" نجح في إعادة تشكيل الهوية الوطنية الصومالية، ووظف العواطف الوطنية في الأدب والفن والمسرح، لتطوير "الهوية الجامعة" بشكل يخدم مصالحه الخاصة. لم يكتف بذلك فقط، بل، اعتبر نفسه بمثابة "أبّ لكل الصوماليين"، فـ "الأبوية" كانت إحدى الركائز التي تبرهن وطنية المواطن، فإذا رفضها سيكون مصيره مجهولا أو منسيا في أحسن الأحوال.
قاد اختصار الدولة في "شخص واحد"، إلى قطيعة معرفية وسياسية مع طبيعة الدولة المؤسساتية، ورسخ مفهوم "فرداني-فئوي" للحكم في الصومال، كما عطل السياق التاريخي لتطور الدولة في مخيال الشعب الصومالي.
بعد انهيار النظام الأبوي بداية التسعينيات، صارت الصومال "دولة مستباحة"، بعرف الأدبيات السياسية المعاصرة. تجد اليوم شرائح واسعة من الشعب الصومالي، تحن إلى عودة النظام الأبوي من جديد، مجادلة في فضائل ذلك النظام القمعي، كأننا أمام إحدى الأعراض الأولية لـ "متلازمة ستوكهولم" أو أن الحنين يراودهم إلى مواطنة قوامها الخنوع والقهر تحت حكم رجل مستبد.
ورثت "الحكومة الفيدرالية" تركة ثقيلة من النظام الاستبدادي، واللا دولة التي عاشها الصوماليون قبل مؤتمر امبغاتي، علاوة على النخبة السياسية التي تضمر عداءها لـ "النظام الفيدرالي"، ما يجعل محاولات الرئيس حسن شيخ محمود الأخيرة لاختزال المشهد السياسي في ثلاثة أحزاب، أو تعزيز سلطات "الرئيس" في الدستور، على حساب الصلاحيات الدستورية لرئيس الوزراء والبرلمان، وتغيير نظام الحكم من "برلماني" إلى "رئاسي"، إحدى تمظهرات العودة/الحنين إلى الحكم المركزي من جديد في الصومال. يترجم فشل النخب السياسية الحاكمة في الصومال، في ترسيخ مفهوم الفيدرالية، على أنه النموذج القادر على استيعاب جميع المناطق الصومالية التي عانت بالتهميش والقطيعة في ظل الحكم المركزي المنتهي.
إن الصراع بين "المركزية" أو "الفيدرالية" في الصومال، قد ولى بعد المصادقة على الدستور المؤقت، وهي معركة "خاسرة بامتياز"، وأي محاولة لإحيائها من جديد، ستعني إفلاسا سياسيا لدى الفاعلين السياسيين. فضلا عن ذلك، سيكون النهج السياسي الأحادي بمثابة إعلان صريح عن بدء "حرب أهلية" جديدة، نحن في غنى عنها.
الأوليات الضائعة
شهد العالم في العامين الأخيرين تقلبات ديناميكية متسارعة، فالحرب الأوكرانية- الروسية ما زالت مستمرة حتى الآن، والإبادة الجماعية جارية في غزة، وأكثر من 10 آلف مواطن سوداني راحوا ضحية في الحرب بين الجنرالات، ونزوح 8 ملايين آخرين إلى دول الجوار، والطريقة التي تعامل العالم مع ملف السودان، وتجاهل مجازر النظام الإثيوبي ضد التغراي والأمهرة، كلها مؤشرات تفيد بأن المجتمع الدولي لم يعد يهتم بالصراعات الإقليمية المكلفة، التي تجري في الدول العالم الثالث، وحتى الدول الإقليمية ما من حيلة في يدها، لحلّ الصراعات ذات التكلفة البشرية الهائلة.
ما أريد قوله هو أن الصراع البيني في الصومال، لن يكون ذا أولوية قصوى لدى المجتمع الدولي - كما كان في السنوات الماضية، وأن الحل يكمن في البحث صيغة توافقية لحل المشكلات العويصة التي تواجه الحكومة الصومالية. فالأوليات التي يجب التركيز عليها في المستقبل القريب، هي محاربة الشباب، ودحض فكرهم التطرفي على الشباب الصومالي الذي عاش تحت حكمهم في العقدين الأخيرين.
لم يعرف الصومال رئيسا بذل جهدا جبارا لأجل دحض الشباب من جنوب الصومال، كما فعل حسن شيخ محمود، فيما بين أكتوبر/ تشرين الأول 2022 ومايو/ آيار 2023، وقد دخلت الحركة في ذلك الوقت "مرحلة الأفول"؛ وضع النهاية لحقبة الحركة الشباب في جنوب الصومال. كما شهدت الحركة كذلك "قطيعة شعبية واسعة"، إلا أن حسن شيح محمود عاد إلى "عادته القديمة" ومعاركه السياسية الهامشية؛ كالتعديلات الدستورية الموسعة من طرف واحد، وفضائح الفساد المنتشر في الدوائر الحكومية، حتى وصل الأمر إلى سرقة الحصص الغذائية لقوات "دَنب" المدربة أمريكيا، مما شكل انتكاسة كبيرة للقوات التي تقاتل في الصفوف الأولى من المعارك ضد الشباب، وحدث انسحابات في بعض المناطق التي سيطرت عليها القوات الصومالية بشق الأنفس في العام الماضي.
إذاً، عندما تعجز الدولة الفاشلة في تحقيق دورها الوظيفي، وانشغالها في مصالح ذاتية بدل التركيز على الأولويات الوطنية التي يفرضها الواقع، يكون التفكك الاجتماعي السمة الأكثر تعبيرا عن الوضع الحرج التي تمر بها الدولة. لذا علينا الإقرار بأن الدولة الصومالية في تجلياتها المعاصرة، وبعد العودة من الحرب الأهلية، تعرف هشاشة مجتمعية لم تشهدها في التسعينيات من القرن الماضي، ما يفرض على الفاعلين السياسيين تغليب المصالح الوطنية على المصلحة الشخصية، وتأسيس دولة مؤسساتية بعيدة عن الفساد والمحسوبية.