الخميس 21 نوفمبر 2024
في قلب العاصمة جيبوتي، وقرب الأماكن المحيطة بجامع" الحمودي "التاريخي، وعلى الطريق المؤدية إلى مبنى البلدية، وناحية أطراف ساحة محمود حربي المكتظة بالحافلات، تنتشر مجموعة من النساء اللاتي يحملن حقائب من القماش، مملوءة بعملات نقدية محلية وأجنبية. تجلس هؤلاء النسوة على كراسٍ بلاستيكية، من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل، تنتظرن زبائنهن من المواطنين والأجانب، لتصريف وتبديل العملات لهم، ويُعرفن بالصرّافات أو "صرّفلي" كما يُطلق عليهن محلياً.
تفترش الصرّافات الطرقات، كما بائعات الخضراوات والغلال في الأسواق الشعبية، وإن اختلفت بضاعتهن، إذ يقمن بتبديل وصرافة العملات النقدية المحلية والأجنبية، دون الخشية من النّشل أو السرقة، رغم اكتظاظ الشوارع بالناس.
دخلت النساء العمل في الصرافة، حين اجتمعت مجموعة منهن، واتفقن على تجميع رأس مال من خلال فكرة الجمعيات المالية الدوّارة، أو ما يُعرف محليًا بـ"الهكبة". واشترين مجموعة من العملات الأجنبية، واقتحمن الأسواق الشعبية مثل بائعات الخضراوات، وبدأن في تصريف وتبديل العملات، ثم لحقت بهن مجموعات أخرى. حدث ذلك خلال ثمانينات القرن الماضي، في مرحلة ما بعد الاستقلال، في وقت لم تكن البلاد شهدت فيه توسعا في مجال البنوك والشركات المالية. واللافت أنّ النساء تمكنت من اقتناص فرصة العمل المربحة هذه، واحتكارها دون الرجال، وخلال عقود من العمل بتن يحظين بثقة كبيرة من المواطنين/ ات.
تجمع هؤلاء النسوة خلفيات اجتماعية متشابهة، فالعديد منهن غير متعلمات أو حصلن على تعليم بسيط، والكثير منهن اضطررن لمزاولة هذه المهنة بسبب مرض الزوج أو وفاته، وتحملهن مسؤولية إعالة الأسر، والبعض منهن لم يسبق له الزواج، وينظرن إلى المهنة باعتبارها عملا مربحا، في ظل شح الوظائف في البلاد، فيما تصفه أخرى بأنّه "وسيلة لكسب لقمة العيش بشرف".
تكاد هذه المهنة تكون حكرًا على النساء، تقول إحدى العاملات فيها، وتدعى حبيبة عمر لـ"جيسكا" إنّ "هناك رجلا واحدا في جيبوتي العاصمة يعمل صرّافًا في الشارع، في حي "إنجيله". ولكنه لا يلتزم بمواعيد معينة للعمل، ولا يجلس لساعات طويلة في انتظار الزبائن". وتضيف فاطمة أحمد، التي تمارس العمل منذ 14 عامًا، لـ"جيسكا"، بأنّ "الرجال لا يستطيعون تحمّل الجلوس على كرسي لوقت طويل مثلنا، فأنا أعمل من الصباح حتى وقت متأخر من الليل، ونستقبل الزبائن بطريقة جيدة".
بدأت حبيبة العمل مع والدتها، ثم تابعته بمفردها بعد مرض الأم، وتقول إنّ "هناك الكثير من الأمهات، أغلبهن لم يرتدن المدارس. ولكنهن تعلمن هذه المهنة، التي تناسب المتعلم وغيره، فأنا لا أجيد القراءة والكتابة، لكني قادرة على عدّ مبالغ بالملايين، بينما يفضل الرجال العمل في الوظائف الإدارية والحكومية". وتضيف أنّ بعض النسوة يحملن ملايين الفرنكات في حقائبهن، وقد تحتوي الواحدة منها على أربعة ملايين فرنك جيبوتي، أي ما يعادل 22.6 ألف دولار.
تمسك الصرّافات العديد من العملات الأجنبية، من الدولار الأمريكي واليورو والجنيه الإسترليني والدولار الكندي واليوان الصيني والين الياباني والعملات الخليجية والليرة التركية والجنيه المصري والبير الإثيوبي، والعديد من عملات الدول الأفريقية المجاورة. تتمتع العملة المحلية، الفرنك الجيبوتي، باستقرار وثبات كبيرين، لكونها مقيدة بشكل أساسي بسعر الدولار الأمريكي مقابل الذهب. يبلغ سعر الدولار 177.7211 فرنك جيبوتي، وذلك بحسب البنك المركزي. ويتغير سعر صرف الفرنك، وفق هامش محدود، تبعًا لأسعار الدولار، ولا يتدخل البنك المركزي في تحديد سعر العملة الوطنية، ويكون الهامش بين سعر السوق الموازية (السوداء) ومكاتب الصرافة ضئيل. يتأتى الربح الأكبر لهؤلاء الصرّافات من تغيير العملات الأخرى، مثل اليورو.
شاهدنا، ونحن بصدد إعداد التقرير، نحو 40 سيدة تعمل في تبديل النقود، خلال الجولة في ساحة محمود حربي، وبالقرب من جامع الحمودي، كما وجدنا عشرات السيدات منتشرات في شوارع وأزقة المدينة. قد تبدو المهنة بسيطة، إلا أنها تتطلب مهارات خاصة. تقول خضراء علي، التي تعمل كصرّافة منذ 15 عاماً، لـ"جيسكا": "نستطيع تمييز الأوراق النقدية الحقيقية من المزيفة بسهولة، بمجرد النظر أو اللمس".
لا تخشى الصرافات من التعرض للسرقة، حيث الشوارع آمنة، ولا يخشين من التعرض للسرقة بالإكراه أو النشل. تتحدث صرّافة تُدعى سعاد لـ"جيسكا"، حيث ذكرت أنّ وجود كاميرات المراقبة في المحلات التجارية والشوارع يعزّز من شعورهن بالأمان، مضيفة أنّ التضامن والتكافل بين الصرّافات يساعد في كشف من يحاول التحايل عليهن، من خلال سحب النقود من أيديهن بشكل سريع قبل حساب المبلغ بشكل صحيح.
يتنوع زبائن هؤلاء النسوة، ما بين الجيبوتيين المسافرين إلى الخارج، والمهاجرين اليمنيين، وسائقي الشاحنات الأثيوبية، وحتى السياح الأجانب. تقول فاطمة: "الزبائن يأتون لأن سعر الصرف عندنا يكون أفضل من البنك أحيانًا، وعندما تكون البنوك مغلقة يأتون، خاصة أنّ معظمهم يغير مبالغ صغيرة".
تعرف الصرّافات زبائنهن من بعيد، فتراهن أحيانًا يركضن نحو سيارة بعينها، ويفتح صاحبها النافذة، وتقوم الصرّافة بتغيير ما يريده من عملات بشكل سريع. وقد تستعمل النساء الهواتف لحساب المبلغ أو آلة حاسبة صغيرة، وأحيانًا تقوم بعملية حساب ذهني سريعة.
تمثّل النساء العاملات في الصرافة جزءًا من الحياة الاقتصادية في جيبوتي، ويعملن في ظروف آمنة، رغم صعوبة العمل في الشارع، بالجلوس لساعات طويلة من الصباح إلى وقت متأخر في الليل، خاصة في أيام الحر الشديد والرطوبة في فصل الصيف. يقدمن خدمات حيوية للمجتمع من المساعدة في رعاية الأسر، وتوفير سوق مستدام وسريع لتصرّيف العملة، تستفيد منه فئات متنوعة، خاصة العمال والمهاجرين.
إن قدراتهن على التكيف مع متطلبات السوق، والتحديات اليومية من الجلوس لساعات طويلة، وتحمل درجات الحرارة المرتفعة، تجعل منهم مثالًا حيًا على القوة والصمود لدى النساء، في مجتمع يعاني من معدلات كبيرة من الفقر، وقلة فرص العمل.
يعلق الاقتصادي عبد القادر حسين محمد على ذلك، قائلا بأنّ: "الاقتصاد غير الرسمي له وزن كبير من حيث خلق الوظائف، حيث يمثل ثلثي النشاط الاقتصادي في جيبوتي". وحسب وزارة التجارة تمثّل النساء %73 من العاملين في القطاع غير الرسمي. هذا ويزداد الاعتماد على الاقتصاد غير الرسمي، في ظل إخفاق النمو الاقتصادي المسجل خلال العقد الأخير في توليد فرص عمل تغطي الطلب، ويعمل الكثير من المهاجرين في الأنشطة الاقتصادية غير المسجلة، وهم أهم الفئات التي تتعامل مع الصرّافات في السوق الموازية (السوداء).
من جهته، يقول أحمد بشير محمود؛ أستاذ الاقتصاد في جامعة جيبوتي، لـ"جيسكا" إنّ "النساء الشرشاري (هي عبارة باللغة المحلية تطلق على تجمعات النساء التاجرات) يساهمن بشكل كبير في الحفاظ على النسيج الاجتماعي والاقتصادي الجيبوتي، ويجعلنه قابلاً للحياة". ويعقب بأنّ دخل هؤلاء النسوة، اللاتي تعتبر أنشطتهن الاقتصادية "غير رسمية" يشكل جزءًا أساسيًا، إن لم يكن الجزء الرئيسي من الدخل الأسري، ومن خلال عملهن يقمن بتلبية احتياجات أطفالهن الأساسية، بما فيها توفير تعليم جيد للأبناء والبنات.
يعتمد الاقتصاد في جيبوتي على تجارة الخدمات، وخاصة الموانئ وتجارة الترانزيت وإعادة التصدير، وتبلغ مساحة البلاد 23200 كلم مربع، ويقدر عدد سكانها بمليون نسمة، يعيش 42 % منهم في فقر مدقع، بحسب تقديرات برنامج الأغذية العالمي، أما نسبة الفقر فتصل إلى 79%. تسعى الحكومة بالتعاون مع البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية لمكافحة الفقر، وتنويع الاقتصاد من خلال بناء مجمعات صناعية وجذب الاستثمارات الأجنبية.