تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 20 سبتمبر 2024

حوارات

سلاطين ومشيخات شعب العفر: حوار مع الباحث عراميس حمد صُلي

1 يونيو, 2024
الصورة
أراميس حومد صولي
Share

في قلب القرن الإفريقي، في دول إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا، يعيش شعب العفر، في جغرافيا ذات موقع إستراتيجي، تتخذ شكل مثلث، يُعرف باسمهم، وتمثّل منطقة جيوسياسية هامة، يمرّ بها 600 كم من الطريق الرابط بين أديس أبابا وجيبوتي، الذي يمثّل شريان الاقتصاد في إثيوبيا.

وللشعب العفري ثقافة خاصة مركبة، ضاربة في القدم، وكثيرٌ منهم رحَّل يعتاشون على رعي المواشي والإبل، ولهم تنظيم هيكلي يقوم على البُعدين القبلي والإقليمي. ويُعتبرون من أوائل الشعوب التي اعتنقت الإسلام في القرن الأفريقي، وارتبطت سلطنات (مشيخات) هذا الشعب بالدول الإسلامية قديمًا وحديثًا.

للتعرف أكثر على ثقافة العفر وتاريخهم، أجرينا في "جيسكا" حوارًا مع الباحث عراميس حمد صُلي، وهو مؤرخ متخصص في تاريخ العفر. وصدرت له ثلاثة كتب، وهي "حياتان في تاريخ القرن الأفريقي - محمد هنفر (1860-1902) وعلي ميره هنفر (1944-2011)"، والثاني "سلاطين العفر"، والثالث "العفر - الثورة الإثيوبية ونظام الدرج (1974-1991)"، وقد فاز الأخير بجائزة "ألبرت برنارد" لعام 2014.  بالإضافة إلى ذلك، شارك  في كتب جماعية مثل "ليج إياسو والعفر"، وعمل كباحث في المركز الفرنسي للدراسات الإثيوبية، في أديس أبابا، ويعمل أيضًا كصحفي ومحلل سياسي، متخصص في التطورات السياسية في إثيوبيا وإريتريا.

 

نصّ الحوار

زينب هداجي: نود أنّ تعرفنا على الهوية التي تجمع شعب العفر، وهل ترتبط بالأصول الإثنية أم هي هوية ثقافية؟

عراميس حمد صُلي: شعب العفر لا يدّعون أنّ لهم أصلًا مشتركًا واحدًا، بل لديهم عدة أصول، وهذا ما يعرفه قلة من الناس. أما المجموعات الأصلية التي كانت تحمل اسم العفر، والتي يُشار إليها بهذا الاسم، فهي قبائل قليلة موجودة منذ العصور القديمة في الأرض التي يسكنها شعب العفر اليوم.

وتعززت على مدار القرون بطبقات متتالية من المهاجرين من الخارج، سواء كانوا أفرادًا أو مجموعات، دون أن يغيروا الأساس الإثني. ومن الملاحظ أنّ استيعاب جميع المجموعات، من المهاجرين العرب كان ثابتًا تاريخيًا حتى القرن العشرين. وشعب العفر موحد باللغة والشعور بالانتماء إلى أمة واحدة، ومشاركة نفس العادات والتقاليد. 

أما جغرافيًا، يعيش شعب العفر على امتداد ثلاث دول، وهي إثيوبيا، وإريتريا، وجيبوتي. وتقع أراضيهم ذات المساحة الواسعة بين سواحل البحر الأحمر وخليج عدن من جهة، ومنحدرات المرتفعات الأولى في إثيوبيا من جهة أخرى، وتتخذ شكل مثلث، ومن هنا جاء اسم مثلث العفر.

زينب هداجي: نسمع عن سلطنات وسلاطين شعب العفر، فما هو التنظيم الاجتماعي والسياسي للشعب؟ وكيف يتوزع في الأقاليم الجغرافية؟

عراميس حمد صُلي: بدايةً، لهذه التنظيمات بُعدين: أحدهما قبلي، والآخر إقليمي، يتوازنان ويتكاملان. وإذا بدأنا بالتنظيم القبلي، نجده يستند إلى ثلاثة مستويات رئيسية أو طبقات: أولها وأصغرها المنزل، ثم النسب الذي يتكون من عدة منازل، ويحمل اسم السلف الذي أوجد هذا النسب، وفي حالات نادرة يكون اسم امرأة، في العائلة متعددة الزوجات.

وأخيرًا، اجتماع عدة أنساب يشكل القبيلة، التي تحمل اسم مميز، وشعار مشترك، وتعيش في إقليم واحد أو أكثر، وتضع علامة واحدة على الماشية، وبشكل خاص الجمال.

وفي الإقليم العام توجد تشكيلات قبلية، تعرف كل مجموعة منها على المستوى السياسي باسم "المشيخة"، ويرأسها زعيم العشيرة التي تشكلت حوله تلك القبائل في الإقليم، أو الذي يرتبط بعشيرة السلطة في الإقليم أو السلطنة، ويحمل لقب زعيم القيادة الإقليمية.

وتتشكل الأقاليم الكبرى من عدة مشيخات في كيان سياسي أعلى، يعرف باسم المشيخة الكبرى أو الإقليم. وفي أنحاء بلاد العفر، هناك خمسة أقاليم أو مشيخات كبرى تُعرف عمومًا باسم "السلطنات"، وترتبط بالأسماء الجغرافية "أوسا"، و"بيرو"، و"دوي"، ويحمل سلاطينها لقب "أمويتا"، ولهم رمز هو "الصولجان أو أستا"، والسلطنتين الكبيرتين الآخريين هما "تاجورة" و"راهيتو"، ويحمل حكامهم لقب "داردار"، ورمزهم "الطبلة المزدوجة أو دنكارا"، وإلى جانب الخمس الكبار هناك سلطنات مستقلة.

وبغض النظر عن الروابط العائلية، يتوفر المجتمع العفري على شبكات من التضامن والتعايش، كما هو الحال على مستوى الإقليم الكبير، في المجتمع الرجالي الذي يُسمى في اللغة العفرية "فحما"، والذي يشير إلى القوة البدنية الناتجة عن العمل الاتحادي، أو اتحاد القوى الحية لأعضاء عدة مجموعات قبلية. 

وهو تعريف يتوافق مع مهامه، وهي: ضمان الاستقرار، والتعايش السلمي من خلال تهدئة أو منع الصراعات المحتملة بين أعضائه، وتوسيع دائرة التضامن لمواجهة العدوان الخارجي وتقلبات الحياة. وفي الواقع، على مستوى المساعدة والتضامن المادي، يدعو المجتمع العفري إلى إعادة توزيع الثروات، لضمان عدم وجود شخص معدم تمامًا.

زينب هداجي: قضية الدين هامة في حياة شعوب القرن الأفريقي، فمتى دخل شعب العفر الإسلام، وما هي المذاهب الفقهية والعقائدية السائدة بينهم؟

عراميس حمد صُلي: العفر جميعهم مسلمون، ولأنّهم يعيشون على الساحل مقابل الجزيرة العربية، مهد الإسلام، التي تبعد 25 كم، يُعتقد أنهم كانوا أول من وصلهم الإسلام، سواء من خلال السفر إلى الجزيرة العربية أو في أرضهم، وذلك في إطار العلاقات التجارية. 

وهناك أيضًا حقيقة، أن أوائل المسلمين، أصحاب النبي الذين هربوا من الاضطهاد، والذين نصحهم نبي الإسلام باللجوء إلى ملك أكسوم (الحبشة)، قد عبروا جميعًا عبر أرض العفر. وكل هذا يدل على أن إسلام العفر يعود إلى عهد الإسلام المُبكر. 

ويتبع العفر المذهبين الشافعي والحنفي، وبسبب قلة الدراسات حولهم، فقد استنتج مؤلفو الأعمال القليلة حول هذا الموضوع أنهم يتبعون جميعًا المذهب الشافعي مثل الصوماليين، وذلك غير صحيح. 

وقبل التنقل لأغراض العمل خارج أراضيهم في الستينيات، كان العفر في المناطق الساحلية يتبعون المذهب الشافعي، بينما كان العفر في المناطق الداخلية يتبعون المذهب الحنفي. ويمارس العفر الإسلام بشكل معتدل، وانتشرت السلفية بشكل محدود في الأربعين عامًا الماضية. 

وللصوفية أتباع بين العفر في إثيوبيا، خاصة في واحة أوسا ودلتا نهر أواش والمناطق الجبلية. وفي أوسا، تم رصد ثماني طوائف صوفية أصلية بجانب القادرية، وهو ما يصحح تأكيد "تريمنغهام" بأن الطوائف الأخرى دخلت إثيوبيا في القرن التاسع عشر. وبشكل عام تتميز المنطقة بتعايش المذاهب، حيث تتبع النخبة المذهب الشافعي، بينما يتبع الشعب المذهب الحنفي.

زينب هداجي: لو انتقلنا إلى العفر في إثيوبيا، فما هو دورهم في التغيرات السياسية التي أطاحت بنظام الحكم الإمبراطوري، وتأسيس فترة الحكم العسكري (1973-1991)؟

عراميس حمد صُلي: لم يكن للعفر دور ملحوظ في انطلاق الثورة الإثيوبية، وهو حال شعوب الحواف الأخرى في الإمبراطورية، والذين عاشوا تجارب متشابهة، ومنهم الصوماليين.

اندلعت الثورة في المركز، في العاصمة، أديس أبابا، والمدن الكبرى، بعيداً عن شعوب الحواف، ودون مشاركتهم، وكانت الفئات المشاركة هي الطلاب والعمال وسائقو سيارات الأجرة وعمال الجنس، بالإضافة إلى الجيش، الذي انفرد بالسلطة.

وتعد إثيوبيا البلد الوحيد في أفريقيا الذي شهد ثورة حقيقية، ما أدى إلى تحول جذري في الهياكل الاجتماعية والسياسية. مع ذلك شاركت شعوب الحواف، ومنهم العفر، بنشاط في مسار الثورة للاستفادة من الفرص التي ظهرت بعد إسقاط النظام الملكي، وتأسيس النظام الثوري.

زينب هداجي: ما هي أوجه الاستفادة للعفر من هذه التحولات الاجتماعية والسياسية؟

عراميس حمد صُلي: بسبب الموقع الجيو إستراتيجي لأراضي العفر وشعوب الحواف، سعت القوى الجديدة للتحالف معهم، واهتم قادة الثورة في المركز بالحصول على دعمهم. وينبغي القول إنّه منذ أدرك العفر أنّ الأحداث التي كانت جارية في البلاد ستؤدي إلى سقوط النظام، تشاوروا واستعدوا للاستفادة القصوى من التغيير، وذلك بتدريب الشباب عسكرياً ليكون لهم وجود على الأرض، وأقاموا اتصالات خارجية للاستفادة من الدعم المالي والعسكري.

وإجمالًا حصد العفر مكاسب، منها تحسين ظروف حياة المجتمع، وخاصة من خلال إعادة توحيدهم في إدارة واحدة، بدلاً من تشتتهم في خمس محافظات، وحصلوا على الاعتراف بحقّ الحكم الذاتي، والمزيد من الدعم والعائدات.

زينب هداجي: رغم الثراء الاجتماعي والثقافي والسياسي لشعب العفر، إلا أنّ الدراسات والمعرفة حولهم ضئيلة، فكيف ترى ذلك؟

عراميس حمد صُلي: لفترة طويلة، اقتصرت الكتابة عن العفر على تناول متفرق في كتب التاريخ والأنثروبولوجيا. وتوسعت الدراسات حولهم منذ الربع الأخير من الألفية الثانية، خاصة في عقد الثمانينيات، حيث كان العفر موضوع اثنتين من رسائل الدكتوراه: الأولى في عام 1982، لقاسم شهيم قاسم، وتناولت تأثير الإسلام على العفر، والثانية لمكنون الشامي في عام 1986، حول الاقتصاد السياسي في إقليم العفر في إثيوبيا.

يُضاف إلى ذلك، كتاب كبير لجمال الدين الشامي وهاشم جمال الدين، بعنوان "المنهل فى تاريخ وأخبار العفر (الدناكل)"، والذي نُشر في عام 1997 باللغة العربية، وتُرجم لاحقًا إلى اللغتين الأمهرية والإنجليزية. ويقدم الكتاب رؤية تطورية لتاريخ شعب العفر، على مدى خمسة آلاف عام. وهذا العمل يعتبر أساسيًا، لكنه غير مثالي، سواء على مستوى المعلومات الأولية أو تفسيراتها.

وفي عام 2004، نشر اللغوي الفرنسي، ديدييه موران، قاموسًا تاريخيًا عفاريًا، يُغطي تاريخ العفر من القرن 12 إلى عام 1982، وهو عمل مهم، لكنه يعاني أحيانًا من نقص في التقييم التاريخي والتحقق الميداني، لبعض المعلومات المأخوذة من ملاحظات المسؤولين الفرنسيين الاستعماريين، ومنهم الضابط إدوار شيدفيل.

ما سبق، ليس حصرًا، بل على سبيل المثال، ويجدر التنويه إلى أنّ المركز الفرنسي للدراسات الإثيوبية قام بدور رائد في البحوث حول العفر، منذ بداية الألفية الجديدة. 

زينب هداجي: نشرت كتب ومقالات علمية حول شعب العفر، فما هي أهم القضايا التي تناولتها بالدرس، وكيف اختلفت أعمالك كباحث عفري عن الباحثين غير العفر؟

عراميس حمد صُلي: تهدف أبحاثي عن شعب العفر إلى تقديم رؤية أعمق لتاريخهم، في سياق تاريخ إثيوبيا والإقليم، وموضوع كتابي الأول عن حياة اثنين من سلاطين العفر، وساهم في إعادة النظر في دور شعب العفر في التاريخ الإثيوبي، بعد أنّ كان أقل أهمية في الدراسات الإثيوبية التقليدية التي ركزت على الشعوب المسيحية في المرتفعات. 

واستندتُ في عملي إلى مصادر أوروبية، والتاريخ الشفهي، وقدمت رؤية عن التاريخ السياسي لإقليم "عوسا"، وهو أحد الكيانات السياسية لشعب العفر، وبينت كيف كان للعفر دورٌ حاسم في تطور إثيوبيا السياسي والاقتصادي، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من خلال التحالفات والمنافسات والصراعات. 

أما كتابي الثاني، بعنوان "العفر-الثورة الإثيوبية ونظام الدرغ (المجلس العسكري الماركسي)"، فيقدم دراسة للثورة من منظور الهامش، وتحديدًا الهامش العفري، ويُعتبر هذا العمل رائدًا في تناول علاقة المركز بالهامش في الثورة الإثيوبية. وقبل كتابي، اعتادت الأدبيات حول الفترة الثورية، وصف حركة المعارضة العفرية بأنها في الغالب "رجعية"، بسبب شخصية سلطان أوسا، علي ميرح حنفري. 

ومع ذلك، برهنت في عملي على أن هذه التسمية ينبغي أن تُصحح، استنادًا إلى دوره ونظرة شعبه إليه. كان للسلطان حنفري دوراً في التفاوض مع الإمبراطور في خمسينيات القرن الماضي من أجل حقوق شعبه، ونجح في الحصول على حكم ذاتي غير رسمي لمنطقته، وأعطاه الإمبراطور لقب "نبيل" في المملكة، مما يُظهر مكانته وتأثيره. 

وعُرف السلطان بمعارضة سياسات التنمية الاقتصادية للحكومة المركزية، واستيلائها على الأراضي، وأطلق مشاريعه الخاصة لتطوير منطقة "أوسا"، بدعم سري من العاهل السعودي الراحل، الملك فيصل بن عبد العزيز، وعدد من الشخصيات البارزة في السياسة الإثيوبية، وهو ما عكس قدرته على إنشاء شبكات دعم وتأثير واسعة في الداخل والخارج.

زينب هداجي: هل هناك جوانب غير معروفة أو غير مفهومة بشكل جيد في ثقافة أو تاريخ العفر تود مشاركتها معنا؟

عراميس حمد صُلي: نعم، لا يُفهم نظام الزواج "المُرتب" بين شعب العفر بشكل صحيح. بداية هو نظام يُحدد للرجل خيارات في الزواج، وتكون من نساء قبيلة الأب، وأما الفتاة فيُحدد لها خيارات من رجال قبيلة الأم. وفي الأصل، كان هدف هذا النوع من الزواج هو توسيع القرابة، ومن جهة أخرى ضمان زوجة لكل رجل، لذا لعب دورًا في إعادة إنتاج المجتمع. 

وبغض النظر عن الوضع الاجتماعي للشخص، فإن قاعدة "أبصمة" تمنحه فرصة الحصول على زوجة، كذا للمرأة، مهما تكن حالتهما. ومن الواضح، أن هذا النوع من الزواج عزز استقرار الأسرة، وولد شعورًا بالتضامن، وأسهم في تلطيف وحل الصراعات. 

وهناك تغيرات تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وعلى عكس ما يُعتقد، فإن ممارسة العفر للزواج "المُرتب" مسبقًا لا تنفي وجود الزواج الاختياري، المعروف بـ"سومينا".