الأربعاء 13 نوفمبر 2024
حلت الذكرى الـ47 لاستقلال جيبوتي في 27 يونيو/ حزيران، من العام الجاري، في وقت تتعاظم فيه مكانة الدولة صغيرة المساحة، التي تقع وسط إقليم مضطرب، على خلفية الحرب في السودان، والمخاطر الأمنية في إثيوبيا، وعدم استقرار الملاحة الدولية المارة من جنوب البحر الأحمر، حيث السواحل الجيبوتية، بسبب استهداف جماعة أنصار الله اليمنية "الحوثيين" لسفن تجارية دولية، كأحد تداعيات الحرب في غزة.
شهدت السياسة الخارجية لجيبوتي مراحل ثلاث، منذ الاستقلال عن فرنسا، عام 1977، بدءًا بالتبعية التامّة للمستعمر السابق، ثم البحث عن شراكات جديدة، وأخيرًا اللعب على تناقضات العلاقات الدولية، بالاستفادة من الموقع الاستراتيجي، والاستقرار الذي يندر في منطقة القرن الأفريقي.
يتطلب نجاح الدول الصغيرة في إدارة العلاقات الدولية الالتزام بعدة مبادئ، وهي: الاعتماد على التحالفات الدولية، واحترام القواعد والقوانين الدولية، وتجنب المخاطرة، وتطوير استراتيجيات تعويضية مبتكرة. تقدم جيبوتي مثالًا لهذه الحالة، فعلى الرغم من صغر حجمها، نجحت في الاستفادة من مميزاتها الجغرافية، لتصبح لاعبًا رئيسيًا في قضايا المنطقة، خصوصًا في مكافحة الإرهاب، والقرصنة، ورعاية المصالحات في جوارها الإقليمي. لكنها خاطرت بعض الشيء بالجمع بين النقيضين، كما في استضافة قاعدة عسكرية لكلٍ من الولايات المتحدة والصين.
يُعتمد في تقسيم السياسة الخارجية لجيبوتي على أعمال سونيا لو جوريليك، الأستاذة في جامعة "بو" Pau، التي عنونت المرحلة الأولى بـ"استقلال مع هيمنة فرنسا"، وهي فترة امتدت من عام 1977 إلى 1991، إبان ذروة العالم ثنائي القطب، الذي قام على الصراع بين الاتحاد السوفيتي والقيم الاشتراكية من جانب، والقيم الرأسمالية والمعسكر الغربي من جانب آخر. اختارت جيبوتي أن تكون أقرب إلى المعسكر الغربي، وإن تبنت نظام الحزب الواحد حتى عام 1991.
لم تستقل جيبوتي عن السياسة الفرنسية، ودارت في فلكها، وسعت من خلالها إلى الحصول على المساعدة المالية والتقنية الضرورية لبناء الدولة الفتية. قابلت باريس ذلك الولاء بممارسة تأثير لدى المؤسسات المالية الدولية، لعرقلة تمويل مشروعات مستعمراتها السابقة، حرصًا على نفوذها. كما أنّها أبقت على قاعدتها العسكرية لضمان هذا النفوذ، وتأمين الحضور في واحد من أهم المواقع الاستراتيجية، وفق ما يتردد في أروقة السياسة الجيبوتية.
شهدت البلاد مرحلة ثانية في علاقاتها الدولية، منحتها الباحثة عنوان "توتر في العلاقات مع فرنسا وبداية دخول الولايات المتحدة الأمريكية"، وكانت بين أعوام 1991 حتى 2002، وهي الفترة التي وقعت فيها الحرب الأهلية (1991إلى 1994)، والتي مثّلت الحلقة الأخيرة من الصراع العرقي الاجتماعي الذي تأجج في عهد الاستعمار الفرنسي. خلال هذه المرحلة عرفت البلاد أول دستور مبني على قيم الديمقراطية الغربية، وتخلت عن حكم الحزب الواحد. خارجيًا، تراجعت العلاقات مع فرنسا، وتوجهت جيبوتي إلى البحث عن شركاء جدد، خاصة أن الشراكة مع فرنسا ظلت منحصرة في التعاون العسكري، فيما البلد في أمس الحاجة إلى الاستثمارات والمساعدات الدولية، وتعززت تلك التوجهات الجديدة بانتقال السلطة إلى الرئيس إسماعيل عمر جيله، بعد انتخابات عام 1999.
عمل جيله على تنويع العلاقات الدولية، وتعزيز مكانة جيبوتي كوسيطٍ إقليمي، في وقت شهدت فيه منطقة القرن الأفريقي تحولات جذرية، بدءًا بسقوط الحكم العسكري في الصومال، ووقوع جنوب البلاد في براثن الفوضى، وسقوط النظام العسكري في إثيوبيا، والحرب بين إريتريا وإثيوبيا، وهي أحداث كانت علامة على التحولات الدولية الكبرى التي تبعت تفكك الاتحاد السوفيتي، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، وتحول العدو من الاشتراكية إلى الجماعات الإسلامية الراديكالية.
مقابل ذلك، عززت جيبوتي الاستقرار الداخلي والانفتاح الخارجي، وترجمت ذلك إلى مكاسب دولية، باكتساب صداقة أهم القوى الكبرى؛ الولايات المتحدة، التي افتتحت قاعدة عسكرية في جيبوتي، عام 2002. كما قامت الأخيرة بدور كبير في رعاية المصالحة بين الفرقاء الصوماليين، ومن ذلك مؤتمر"عرتا" عام 1999. شهد عام 1993 متغيرًا كبيرًا، حين نالت إريتريا استقلالها عن إثيوبيا، لتفقد الأخيرة منافذها البحرية، وتتحول إلى دولة حبيسة، تقرر الاعتماد على الموانئ الجيبوتية كبوابة حصرية لتجارتها الخارجية إلى العالم، وهو ما دفع الثانية إلى البحث عن شراكات دولية، لتطوير وتنمية الموانئ والطرق، ناهيك عن انخراطها أكثر في قضايا الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
تبدأ المرحلة الثالثة في العام 2002، وحتى الوقت الحاضر، ومنحتها الباحثة جوريليك عنوان "تعدد الشركاء". وتميزت بانفتاح جيبوتي على تعزيز علاقاتها مع البلدان العربية الرائدة اقتصاديًا، ومنها: الإمارات وقطر. وكذا الانفتاح على الصين التي زاد حضورها منذ مطلع الألفية الثالثة، وعبر الرئيس جيله عن ذلك التحول في أكثر من مناسبة، بقوله إنّ "بلاده لا تمنح امتيازًا حصريًا لأحد، ولا تُقصي أحدًا، وأنّها في حاجة إلى ذلك لتحقيق التنمية".
تتسم تلك المرحلة بديناميكية متسارعة، بدايةً من الحرب العالمية التي قادتها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والتي كانت الصومال إحدى محطاتها، وفي ظل وجود قاعدة عسكرية أمريكية في جيبوتي، فمن المرجح أنّ تلك القاعدة ساهمت بدور في هذه الحرب، خاصة كقاعدة لانطلاق المُسيرات لاستهداف قادة جماعة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة.
بالتوازي مع ذلك، تحول القرن الأفريقي إلى محط أنظار العالم، مع ظهور القرصنة المنطلقة من السواحل الصومالية في عام 2005 حتى عام 2013 الذي شهد انحسارها، وخلال تلك الفترة توسع الحضور العسكري الأوروبي في المنطقة، بعد تشكيل العملية "يوناف فور أتلانتا" عام 2008. كما وجدت الصين منفذًا إلى واحد من أهم الممرات البحرية للتجارة الدولية، وأرسلت أولى قطعها الحربية إلى المنطقة في عام 2008، حيث زارت الموانئ الجيبوتية، لتكون تلك بدايةً للعلاقات العسكرية بين البلدين، التي تُوجت بتوقيع شراكة استراتيجية عام 2014، ثم افتتاح قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي عام 2017.
يُلاحظ في كل ما سبق، أنّ جيبوتي استفادت من التحولات الدولية والإقليمية، وفي المرحلة الحالية من علاقاتها الدولية حدث تحول كبير في الجهة الشرقية لمضيق باب المندب، وذلك باندلاع الثورة في اليمن عام 2011، ثم تحولها إلى حرب أهلية بعد استيلاء جماعة أنصار الله على السلطة، وما أعقبه من تدخل عسكري خليجي بقيادة السعودية عام 2015، وهو ما خلق في النهاية قوة عسكرية موالية لإيران ومعادية للغرب، تطل على واحد من أهم المضايق البحرية في العالم.
إجمالًا، تحولت السياسة الخارجية لجيبوتي من تنويع الشركاء، إلى الوقوع تحت عبء تلك الشراكات، سواء في الجمع بين أكبر قوتين عالميتين متنافستين، وهما: الولايات المتحدة والصين، وكذا التأرجح على حبال الحياد في الحرب المحدودة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب، وجماعة أنصار الله في اليمن من جانب آخر. ورغم نجاح جيبوتي حتى اليوم في تجنيب البلاد تبعات هذه التناقضات، إلا أنّها لا تزال تشكل خطرًا على المديين المتوسط والبعيد، في حال استمرارها، وهو ما ورد على لسان رئيس هيئة الموانئ الجيبوتية أبو بكر عمر حدّي.
يمكن القول إنّ السياسة الجيبوتية تتسم بالطابع البراغماتي، الذي مكنها من الاستفادة من الحضور الدولي المتزايد في جنوب البحر الأحمر، لتحقق عوائد مالية كبيرة من استضافة القواعد العسكرية الأجنبية، تُقدر بنحو 226 مليون دولار سنويًا، بما يوازي أكثر من 15% من الإيرادات الحكومية السنوية تقريبًا. إلى ذلك، يبقى أنّ تُبحث تأثيرات هذه المرونة السياسة على الأوضاع الاقتصادية للبلد الفقير في موارده، والذي يعاني من عدد لاجئين غير شرعيين، يكاد يوازي 20% من سكانه، وبالعودة إلى الإحصاءات الدولية، لا يزال الفقر الواسع مشكلة تواجه البلاد، وهو ما يؤشر على أنه رغم النجاحات السياسية إلا أنّها لم تحقق محركها الأساسي بعد، وهو تحقيق التنمية من خلال تنويع الشراكات الدولية.