تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

الجمعة 8 نوفمبر 2024

رأي

النزعة القومية في الصومال؛ من محمد فرماجو إلى حسن شيخ

26 فبراير, 2024
الصورة
Somalia
تولى حسن شيخ منصبه رسميًا باعتباره الرئيس العاشر للصومال؛ ويرافقه الرئيس السابق محمد فرماجو, 2022/فيلا الصومال
Share

أشعل فرماجو جذوة النزعة القومية، لكنها في ظِلِّ إدارة حسن شيخ انقلبت مجددا ضد إثيوبيا 

حين تمَّ انتخاب محمد عبدالله فرماجو رئيسا تاسعا للصومال عام 2017 احتفل سكان مدينة مقديشو بإطلاق النار - الذي عادة ما يكون نذير شؤم – بطريقة احتفالية ترحيبا بهذا التغيير الذي أسفرت عنه نتائج الانتخابات. كان الرئيس المنتخب فرماجو يبلغ حينها من العمر 55 عاما وقد وعد بـ"بداية جديدة" في السياسة الصومالية حيث أخبر الصحفيين بشيء سيكون أحد أبرز صفتين تميزت بهما إدارته حين صرح قائلا: "إنها بداية الحرب ضد الفساد"، بينما تتمثل الصفة الأخرى في الصعود الحاد للنزعة القومية الصومالية، وبالرغم من أنها كانت في العادة تركز على النزاع الحدودي مع إثيوبيا؛ إلا أنها تخففت من حمولتها العسكرية لتوجه اهتمامها إلى المطالبة بعدم التدخل في شؤون الصومال الداخلية و"إعادة كرامة الأمة الصومالية". قد يبدو الأمر لأول وهلة وكأنه رد اعتبار وصدى لشعار دونالد ترامب: "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، لكنه كان شيئا جديدا على الجمهور الصومالي ولقي رواجا كبيرا طوال فترة ولايته.

أخبرني الأكاديمي الصومالي محمد حاجي إنغريس بأن "الرؤساء السابقين توسلوا بالإسلام أو العشائرية أو شبكاتهم الخاصة، لكن فرماجو هو أول رئيس - منذ الدكتاتور العسكري الراحل سياد بري - يتوسل بالقومية الصومالية"، وذلك حين كان يسعى لإعادة انتخابه عام 2019، وهذا يتعارض تماما مع ما يفعله الرئيس الحالي حسن شيخ محمود والذي - بغرض تحقيق هدفه الأكبر المتمثل بدحر حركة الشباب - قام بتأطير صراعه مع الجماعة المسلحة بتصورات دينية من خلال المزاوجة بين صيغة خاصة للقومية ومفهوم للإسلام يعترف بالحدود الإقليمية على الضد من أيدولوجيا الشباب العابرة للحدود. الصيغة التي اعتمدها حسن شيخ محمود للقومية ترى أن "الآخر" ليس من ينتمي لدولة أجنبية بل لسلالة من الإسلاموية تجسدها حركة الشباب والتي لا تعترف بشرعية الدولة الصومالية.

ولكن على حد تعبير رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ماكميلان؛ فإن التحدي الأعظم الذي يواجهه رجال الدولة هو "الأحداث يا عزيزي.. الأحداث" اللامتوقعة. الاتفاق الأولي المفاجئ على مذكرة تفاهم بين صوماليلاند وإثيوبيا أجبر الرئيس حسن شيخ محمود على نشر نوع مختلف من القومية الصومالية لحشد الشعب الصومالي ضد إثيوبيا نظرا لاشتماله على بنود تؤدي للاعتراف باستقلال صوماليلاند حسب تصريحات مسؤولين في هرجيسا.

تبدو السياسة الصومالية ميالة للاضطراب في أفضل الأوقات؛ ولكن حين تولى فرماجو زمام الأمور في القصر الرئاسي في الصومال كان ترامب قد اُنتخب للتو في أمريكا، وكانت بريطانيا قد صوتت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وكانت تركيا قد أجهضت محاولة للانقلاب على الحكم، وكان الشرق الأوسط قد بدأ يتمزق بين كتلة تقودها إيران وتحالف يضم تحت أحد جناحيه تركيا وقطر وتحت الجناح الآخر السعودية والإمارات. خلال تلك الحقبة كان القرن الأفريقي في خضم تحوله الخاص؛ حيث أدت الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية إلى حدوث انقلاب ضد الزعيم المخضرم عمر البشير في عام 2018، وكانت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية التي تقودها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي تقوم بتصفية حساباتها مع الجمهور الإثيوبي الذي سيلتئم شمله في النهاية حول آبي أحمد - وهو ينتمي لقومية الأورومو - لقيادة البلاد.

كان فرماجو يتبنى خطابا سياسيا منمقا عالي المخاطر، وطبقه على السياق الصومالي حتى ذاع صيته عالميا، ولكن كيف يمكن أن تنجح القومية في دولة تسيطر بالكاد على أراضيها؟ خلال اجتماعاتي مع مسؤولين من حكومة فرماجو؛ صارحوني بشعورهم في كثير من الأحيان أن القوى الأجنبية التي تساعد الصومال لها تأثير بالغ على الطريقة التي تدار بها البلاد، وأنه بسبب هشاشة الدولة الصومالية لم يتم معاملتهم بالاحترام الذي يستحقونه. وكان من تداعيات ذلك طرد نيكولاس هايسوم؛ كبير مبعوثي الأمم المتحدة في الصومال؛ لأنه تصرف مثل "حاكم" البلاد كما قال آنذاك وزير الخارجية أحمد عوض. وكثيرا ما تشاجرت الحكومة الفيدرالية في مقديشو مع جوبالاند التي اتهم فرماجو رئيسها - أحمد ماذوبي - بأنه قريب للغاية من نيروبي.

أفظع منتهك لسيادة الصومال في نظر فرماجو وأنصار إدارته أصحاب شعار Nabad Iyo Nolol (معناه بالعربية: "أمان و حياة") تمثَّل في إثيوبيا التي تقودها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، ولكن عندما بدأ آبي أحمد في تفكيك نفوذ هذه الجبهة في أديس أبابا وأعلن الحرب عليها في نهاية المطاف في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 كان فرماجو يدعمه إلى أقصى حد، لقد نظر إلى كفاح أديس أبابا ضد جبهة تيغراي كصراع مشترك مع آبي. شبَّه فارماجو نفوذ جبهة تحرير شعب تيغراي في الصومال والقرن الأفريقي خلال خطاب ألقاه في عام 2018 بقناة تسببت في فيضانات تُغرق الحديقة، وفي معرض شرحه للاتفاق الثلاثي الذي توصل إليه مع إثيوبيا وإريتريا قال للجمهور: "من أجل وقف الفيضانات؛ عليك إغلاق القناة لحماية الحديقة".

لم يشعر أي من الزعيمين (فرماجو وآبي أحمد) أنهما قادران على ممارسة السلطة في بلديهما طالما أن جبهة تحرير تيغراي كانت بمثابة السيد الذي يُحرِّك الدمية من خلف السِّتار. في هذه النسخة من الأحداث؛ لم تكن إثيوبيا هي المشكلة بحد ذاتها ولكنها كانت ضحية لنفس قوى الظلام التي كانت موجودة في الصومال، لدرجة إقدام فرماجو على إقالة وزير خارجيته أحمد عوض لدعوته إلى إجراء حوار بين الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية عندما أوضح آبي أحمد تصميمه على فرض سلطانه عليهم.

يقول محمد حاجي إنغريس أن فرماجو "أنشأ حكومة لم يعد وجودها محصورا في الأوراق الرسمية بل أصبحت موجودة في أذهان الناس وفي السوشال ميديا وفي الشارع"، حيث كان الرئيس ووزراؤه يتواصلون بشكل مباشر مع الجماهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التلفاز مستخدمين لغة قومية شرسة من أجل تعبئة الناس لتأييد لقراراته، وقد نجح هذا حتى عندما كانت أفعاله تتعارض مع أهدافه المعلنة، التسليم المثير للجدل لـ عبد الكريم Qalbidhagax مجرد مثال. ومع ذلك؛ فإنه يؤكد على نقطة مفادها أن نسخة فرماجو من السياسة القومية لم تنظر إلى إثيوبيا بوصفها خصمها الرئيسي، وهذا يتناقض بشكل صارخ مع أيدولوجيا رابطة الشباب الصومالية ونظام سياد باري الاشتراكي الذي يمكن تشبيه سعيه لضمِّ أوغاذين بـ "كيزيل إلما" (التفاحة الحمراء) في الفكر السياسي العثماني أو فكرة "القَدَرْ المُتَجلِّي" التي ظهرتْ في أمريكا خلال القرن التاسع عشر.

اختلفت الظروف مع استلام حسن شيخ محمود مقاليد الحكم حيث وعد باتباع نهج سياسي أقل حِدَّة تمثَّل في شعار حملته الانتخابية: "شعب متصالح مع ذاته ومتصالح مع العالم"، وعلى الرغم من شهرته بلهجته الرصينة والمدروسة - إذ غالبا ما يتجنب الخطاب الشعبوي - فقد أظهر نزاعه مع حركة الشباب وإثيوبيا مدى قدرته على ممارسة اللعبة السياسية ببراعة. بالنسبة لحركة الشباب؛ فقد تعهد بدحرها خلال فترة ولايته، وهي حيلة يمارسها العديد من الرؤساء الصوماليين، ونظرا للطابع الأيدولوجي للصراع العسكري فقد بدأ في إعادة صياغة القومية الصومالية عبر إضافة "صبغة دينية صريحة" على خطابه السياسي لإضعاف حدة توسل حركة الشباب بالدين، وأشار في سياق إيضاحه لهوية الصومال التي يطمح لترسيخها - وذلك أثناء محاضرة له في مركز الدراسات الاستراتيجية في سبتمبر عام 2022 - بأن "الصومال مُلكٌ للمسلمين؛ بشرط أن يكونوا صوماليين وليس كل مسلم". وذكر لاحقا لصحيفة الغارديان بأن الدين يمكن أن يكون بمثابة "غراء يحفظ تماسك أمة ممزقة"، ويمكن اعتبار تعيينه النائب السابق لأمير حركة الشباب المثير للجدل - مختار روبو - وزيرا للشؤون الدينية مجرد مثال على جديته بهذا الخصوص.

لكن مذكرة التفاهم الأولي التي وقعها رئيس صوماليلاند موسى بيحي مع رئيس إثيوبيا آبي أحمد وضعت حسن شيخ محمود في مأزق. أثارت هذه المذكرة غضب الصوماليين في كل الأقاليم الصومالية فضلا عن حركة الشباب التي أظهرت اعتراضها عليه بقوة، وبينما كان من الصعب أن نتخيل الرئيس حسن شيخ محمود وهو يتزيا برداء القومية الصومالية الرائج في القرن الماضي؛ إلا أنه قرر فيما يبدو ركوب هذه الموجة قبل أن تجتاحه. خلال زيارته لإيطاليا في أواخر يناير/كانون الثاني 2024؛ شبَّه حسن شيخ محمود الاتفاق الإثيوبي مع صوماليلاند بغزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، وصور بلاده في صورة ضحية لجار قوي باستثناء أنه قرن ذلك بخطاب يتحدى فيه إثيوبيا بشكل مباشر. وفي وقت سابق من نفس الشهر وأثناء إلقائه لكلمة بعد صلاة الجمعة في أحد المساجد؛ أثار حسن شيخ محمود مسألة تُعتبر من التابوهات السياسية وهي الحدود الطويلة الممتدة من الشمال إلى الجنوب مع إثيوبيا، ووصفها بأنها "حدود مصطنعة" - في إشارة واضحة لشبح اجتياح إقليم أوغاذين عام 1977 - وصرح قائلا: "إنها ليست إشكالية أو قضية راهنة بل هذا هو الوضع التاريخي".

وقد وصف العديد من وزرائه إثيوبيا بأنها عدو، وصرَّح أحد مستشاريه لصحيفة الغارديان أن مقديشو ستكون مستعدة للحرب إذا لم تتراجع إثيوبيا عن موقفها. وعلى الرغم من المساعدة التي قدمتها أديس أبابا للصومال في حربها ضد حركة الشباب؛ قام نائب رئيس الوزراء الصومالي صلاح جامع - وذلك في مقابلة مع قناة TRT World - بإلقاء اللوم على الغزو الإثيوبي العنيف عام 2006 وحمَّله مسؤولية صعود هذه الجماعة المسلحة. وذهب وزير الدولة للشؤون الخارجية علي محمد عمر إلى أبعد من ذلك، حيث قال لقناة الجزيرة العربية أن اتفاق إثيوبيا يشكل تهديدا أكبر لسلامة أراضي الصومال من التهديد الذي تمثِّله حركة الشباب. ألقت القضية بظلالها على صوماليلاند حيث استقال وزير الدفاع عبد القادر عطية بسبب مذكرة التفاهم واصفا إثيوبيا بأنها "العدو رقم واحد" للشعب الصومالي، ويبدو الأمر كما قال الشاعر الروماني هوراس: "حين يشتعل حريق في بيت جارك؛ فإنه يصبح قضية تثير قلقك".

لم تساعد تصريحات المسؤولين الإثيوبيين النارية واللامسؤولة عن التاريخ الصومالي في حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي في تخفيف حِدَّة هذه القومية الصومالية بل ساهمت في تأجيجها بسبب طابعها الاستفزازي؛ فقد وصف سفير إثيوبي الصومال بأسلوب غير دبلوماسي بأنه بلد صنعه الاستعمار قبل أن يتراجع عن تعليقه، اللافت هنا أن الجهر بمثل هذه التعليقات علنا داخل الدوائر الحاكمة تُعتبر سابقة من نوعها. وعلى الرغم من تشكك المحللين في احتمال نشوب حرب بين إثيوبيا والصومال؛ فإن مذكرة التفاهم الموقعة بين أديس أبابا وهرجيسا أثارت تساؤلات عميقة حول علاقة الصومال بجارتها التي تبدو وكأنها تلاشت منذ زمن ليس ببعيد بفعل الأجواء المضطربة للقرن المنصرم.