الجمعة 22 نوفمبر 2024
عندما حقق الصومال قدرًا مقبولًا من الاستقرار بحلول العام 2012، الذي شهد إقرار الدستور الانتقالي، وتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بدأ توافد العديد من المواطنين/ ات المغتربين/ ات من دول المهجر. وتعددت أسباب العودة والأهداف المرجوة منها، ومن بين العائدين فئة سعت لنيل وظائف في مؤسسات الدولة الوليدة، على المستويين الفيدرالي والإقليمي. لكن تلك العودة، لم تُقابل برضا كبير من فئات واسعة من المواطنين المقيمين في الصومال، الذين رأوا فيهم منافسين على فرص التوظيف المحدودة.
تثير تلك القضية الكثير من السجال، بين المغتربين الذين يقولون إنّهم عادوا للمساهمة بخبراتهم في نهضة وطنهم، وبين معارضيهم الذين يتهمون أغلبهم بالتربح، من جنسياتهم المزدوجة، على حساب معاناة المواطنين.
اتّهامات تلاحق المغتربين
يقول مدير عام في إحدى وزارات حكومة بونتلاند، طلب حجب اسمه، إنّ السبب وراء تهافت المغتربين على العمل الحكومي هو سهولة الحصول عليه لعوامل منها، ترشيح قادة العشائر للمغتربين من الأقارب، الذين يواظبون على دفع اشتراكات القبيلة. إلى جانب نظرة المجتمع إلى المغترب، على أنّه يتمتع بسمات حضارية وذوق عال، وأنّه لديه قدرة على تسيير العمل، بغض النظر عن مؤهلاته وخبراته وتخصصه.
ويضيف لـ"جيسكا" بأنّ المغتربين العائدين الذين يسعون لنيل الوظائف الحكومية ينقسمون إلى فئتين، الأولى؛ هم المغتربين القدماء في الدول الغربية، منذ عام 1982، والذين حققوا قدرًا كبيرًا من التعليم والثروة، ويهدفون من وراء التوظيف الحكومي إلى الحصول على الشهرة، ويشغلون مناصب عليا في الحكومة؛ كوزراء ونواب وزراء أو يترشحون في انتخابات البرلمانات. أما الفئة الثانية؛ فحظهم قليل من التعليم، وعادوا إلى البلاد هربًا من ضغوط العمل، والحياة الصعبة في المهجر، حيث يعمل معظمهم كعمال مطاعم أو سائقي سيارات أجرة هناك.
يذكر - ذات المصدر - أنّ هؤلاء حين يعودون إلى البلاد، يدخلون المعترك السياسي من خلال دعم حملات المرشحين للاستحقاقات العامة، وحين يفوز مرشحهم تكون لهم الأولوية في نيل المناصب الحكومية، التي يحولونها إلى وسيلة لاسترداد ما دفعوه لدعم المرشحين، وتحقيق مكاسب شخصية على حساب تطلعات المواطنين.
يرى المهندس المعماري محمد عول، أنّ المغتربين العاملين في الحكومة بمثابة خطر على البلاد، ويعلل بأنّهم "علموا الناس الفساد والرشوة واختلاس الأموال، وزاحموا الشباب على فرص العمل"، وفق قوله. ويستنكر قائلًا: "كيف لمغترب لم يكد يملك حقّ تذكرة عودته من أوروبا، أنّ يسافر بشكل أسبوعي إلى نيروبي بعد نيله وظيفة في الحكومة؟". ويفسر "عول" شراء موظفين حكوميين من المغتربين عقارات داخل وخارج البلاد، بالتربح على حساب المال العام، ويتهمهم بأنّهم تسببوا في انقسام طبقي داخل المجتمع.
يقول لـ"جيسكا" إنّ العديد من مشاريع البناء التي تمولها الهيئات الدولية، تذهب إلى شركات مقاولات يملكها مغتربون، بسبب قربهم من القصر الرئاسي، وحصولهم على المناصب العليا في الدولة. تلك الأفضلية التي يتحدث عنها المعماري محمد عول، يراها أحد أسباب الهجرة غير الشرعية للشباب، حيث يرون أنّ المجتمع يفضل المغتربين، ويقدم لهم الامتيازات، ولهذا فهم يسعون إلى الهجرة لنيل مثل هذا التقدير.
المشاركة في بناء الوطن
قاسم عبد الله، مغترب صومالي نشأ في فنلندا، وعاد إلى الصومال، واستقر في مقديشو لعدة أعوام، وعمل في إحدى المؤسسات الحكومية. يقول إنّه عاد للمساهمة في بناء منظومة إدارية في البلاد، تستند إلى ثقافة عمل ترسخ قيم الجودة والنزاهة. وينفي لـ"جيسكا" أنه جاء لكسب المال، قائلا: "كشاب تخرجت من إحدى الجامعات في فنلندا، وعملت في كبرى المؤسسات في هلسنكي برواتب جيدة للغاية، لا يمكن أن يكون هدفي من العمل في حكومة بلدي مجرد كسب المال".
تقول السيدة عنب عمر علي التي تقيم في السويد، عن تجربة عملها في إدارة الهجرة والجوازات في مقديشو عام 2019، إنّ "العمل في الصومال مرهق، والظروف الأمنية لا تساعد في تحقيق طموحات المغترب العائد، فضلًا عن غلاء السكن في الأحياء الأكثر أمنًا في العاصمة، وارتفاع تكاليف المعيشة". وتضيف لـ"جيسكا" أنّها عادت لتكون قريبة من والدتها المسنة، وسعت لتحقيق استقرار وظيفي، وتحقيق أحلامها. لكن تدني الأجور، ومشقة العمل مقارنةً بالدول الغربية، كانت تحديات دفعتها للعودة إلى السويد.
من جهته، يرى القيادي في حزب "إيفي" في بونتلاند، عبد الرشيد محمد، أنّ أمام المغترب المتعلم فرص كبيرة في الصومال، ويقول: "نستفيد من خبرات وتجارب العديد من المغتربين في الإدارة، بما لديهم من خبرات في مؤسسات أوروبية واطلاع على ثقافات مختلفة". ويذكر لـ"جيسكا" أنّ كثيرًا من المغتربين تقلدوا مناصب هامة في المؤسسات الحكومية، وبعضهم كان مثالًا في الإدارة الرشيدة والجودة والنزاهة، والبعض صار أيقونةً للفساد وسرقة المال العام. ويتابع بأنّ المغتربين ليسوا سواء، ولكن المجتمع يمنحهم الكثير من التقدير، ولهم كلمة مسموعة، وهم من يتصدرون في الإدارة الحكومية للتعامل مع المؤسسات الدولية المانحة، ومن يتفاوضون مع الشركات الدولية.
ويلفت إلى أنّ لديهم مميزات، لا توجد لدى أقرانهم من المواطنين المحليين، وهي تمتعهم بجنسيات دول أوروبية، واتقانهم اللغة الإنجليزية، مما يمنحهم أفضلية في القبول في المؤتمرات الدولية والمنح الدراسية. يقول عبد الرشيد: "علينا تقبل هذا هو الواقع، فالمغترب هو مواطن. لكن لديه امتيازات اكتسبها بجهده، ولا سبيل لنا غير أن نتعايش مع هذا الواقع". ويلفت إلى أنّ الحكومة تفضل المغتربين، في بعض الأحيان، ليساعدوا في تمثين العلاقات مع الدول الغربية التي يحملون جنسيتها، بهدف جلب تمويل المشاريع والمنح المالية.
المحلي أم المغترب؟
ليس المواطن المحلي باستثناء من الاتّهامات التي تطال المغترب في القطاع الحكومي، ولا يخفى أنّ هناك شعور بالغضب تجاه المغترب، لأنّه عاش حياة بعيدة عن المعاناة التي عاشها نظيره في الوطن، ثم جاء حين استقرت الأمور نسبيًا، لينافس على الفرص القليلة المتاحة.
مع ذلك، لدى المواطن المحلي الحقّ في انتقاد فئة المغتربين غير المؤهلين، والذين ينالون وظائف عليا للأسباب السابق ذكرها. ومن أمثلة ما سبق - دون تحديد الأسماء والتواريخ - في ولاية بونتلاند، تعيين مغترب يحمل الجنسية الأمريكية في منصب وزير التجارة والصناعة، رغم أنّ خبراته لم تزد عن عمله في شركة للصرافة، وآخر استثمر مبلغ تقاعده في النرويج لينال منصب وزير الداخلية في الولاية.
كما شغل مُعلم سابق في مدرسة ابتدائية في الولايات المتحدة منصب وزير التربية والتعليم في الولاية، وتحول سائق تاكسي سابق في بريطانيا إلى وزير للتجارة والصناعة، بعد عودته إلى الصومال. وعلى المستوى الفيدرالي تولى مغترب منصب وزير الخارجية، بعد عودته من بريطانيا التي كان يعمل فيها موظف في إيصال الطرود البريدية. والأمر المثير لغضب الكثيرين أنّ المغترب لا يدفع ثمن أخطائه في الوظيفة العامة، إذ بإمكانه العودة في أي وقت يشاء إلى دولته الأجنبية التي يحمل جنسيتها.
وحول الأحقية في نيل الوظائف الحكومية، يقول الموظف في وزارة المالية في بونتلاند، والمحاضر في جامعة "غرين هوب"، محمود عبد الله علي، إنّ الأحقية يجب أنّ تكون للمواطن غير المغترب شريطة أنّ يكون مؤهلًا للوظيفة التي يتقدم إليها. ويعلل ذلك، بأنّ المواطن المحلي يمتاز بقربه وتفهمه لقضايا المجتمع، والقدرة على معالجتها. كما أنّه يفهم عمل المؤسسات الحكومية التي تدرج في وظائفها، بخلاف المغترب الذي يعود من أوروبا وأمريكا، ويتولى مناصب عليا، بينما كان قبل عودته سائق تاكسي أو عامل نظافة، وفق قوله.
جانب آخر يوضحه لـ"جيسكا" بأنّ "المواطن المحلي يعيش مع أهله ومجتمعه، ويسكن معهم ويأكل معهم، وليس بينه وبينهم هاجس ثقافي أو حاجز أمني، ويستثمر راتبه في الداخل. بينما المغترب فور استلام الدفعة الأولى من الراتب ينفقها في شراء بيت في كينيا. بمعنى آخر، غالبية الموظفين من المغتربين أتوا إلى البلد لاكتساب الأموال فقط، وقلة قليلة منهم من يحمل فكرة المواطنة، ويشارك المجتمع همومه".
ويشدد المحاضر في جامعة "غرين هوب" على ضرورة أنّ يحضر مسؤولو الحكومة المؤتمرات الدولية بجوازات سفرهم الصومالية، وليس بجوازات سفر دول أجنبية، لأنّ هذا في حد ذاته خرقًا لسيادة الدولة، وفق رؤيته.