الخميس 14 نوفمبر 2024
تتوافر القارة الإفريقية عموما على ثروات طبيعية مهمة، الأمر الذي دفع العديد من القوى الإقليمية والدولية إلى تعزيز حضورها في المنطقة، بأشكال مختلفة أمنيا وعسكريا وسياسيا واقتصاديا.. أي من خلال وجود قواعد عسكرية كثيرة غير معلن عنها، أو عبر التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، عند وجود صراعات داخلية أو حدودية، أو من خلال وجود بعض الشركات الكبرى التي تحاول استنزاف الثروات الطبيعية التي تتمتع بها القارة. لذلك تعتبر هذه الأخيرة منطقة استراتيجية، لأنها ثاني أكبر قارات العالم بعد المنطقة الأسيوية.
تقع منطقة القرن الإفريقي التي تتشكل من الصومال وجيبوتي وإرتيريا وإثيوبيا، في الجزء الممتد على اليابسة غرب البحر الأحمر ومنطقة خليج عدن، ويمكن أن تتسع وتشمل مناطق أخرى بالنظر إليها من زوايا أخرى سياسية واقتصادية مثل: كينيا والسودان وجنوب السودان وتنزانيا وأوغندا. فقد كانت هذه المنطقة محط أنظار العديد من الدول، منذ عصور غابرة، بسبب موقعها الاستراتيجي الذي يطل على العديد من الطرق التجارية الدولية برا وبحرا. ولعل ما زاد من أهميتها، هو محاذاتها لمنطقة حوض النيل وشبه الجزيرة العربية التي تزخر بموارد نفطية هائلة، إلى جانب مرور العديد من البضائع والسلع ذات الصلة بالأسلحة وناقلات النفط . بذلك تتحكم دول هذه المنطقة في طريق التجارة العالمية، ما جعلها منطقة تنافس من قبل العديد من القوى الإقليمية والدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا - التي ارتفع منسوب العداء اتجاهها من قبل الدول الإفريقية في الآونة الأخيرة- وإسرائيل والهند واليابان وتركيا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربي وإيران..
تُمثل منطقة القرن الإفريقي أهم الممرات البحرية على الصعيدين الإقليمي والدولي، فهي تزخر بثروات طاقية ومعدنية مهمة على رأسها النفط والغاز والذهب، وكذا احتياطات كبيرة من المعادن التي تستخدم في الصناعات الكبرى كاليورانيوم. فضلا عن الثروة المائية المهمة التي تتوفر عليها المنطقة، خصوصا وأنها تعتبر المنبع الرئيس لنهر النيل.
لكن، وبالرغم من الموقع الاستراتيجي الهام لدول هذه المنطقة، إلا أنها تعاني العديد من المشاكل التي لا زالت تتخبط فيها كالمجاعة، واعتماد بعضها على المساعدات الخارجية (كإريتريا). فضلا عن انعكاس العديد من النزاعات الحدودية والصراعات المرتبطة بالموارد الطبيعية على الموقع الاستراتيجي للمنطقة، إضافة إلى مشكل القرصنة البحرية في السواحل الصومالية.
لذا عملت مجموعة من القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة والصين وروسيا.. على إحداث قواعد عسكرية وقواعد بحرية، خدمة لمصالحها، وتقوية نفوذها في ظل التنافس القوي على المنطقة، تحت غطاء مواجهة القرصنة البحرية والإرهاب والحروب الأهلية.
الولايات المتحدة الأمريكية
عملت الولايات المتحدة الأمريكية على جعل منطقة القرن الإفريقي سوقا لمنتجاتها، إلى جانب محاولاتها الرامية اكتشاف النفط، لتعمد بعد ذلك إلى استغلال النفط السوداني. كما أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، أواخر عام 1994، مبادرة القرن الإفريقي الكبير من أجل حل الصراعات والأزمات، لكنها فشلت في ذلك. وبعدها قامت بوضع بعض القواعد العسكرية ك"أفريكوم"؛ التابعة لوزارة الدفاع الأمريكي بعد أحداث ١١ سبتمبر/أيلول عام 2001، بذريعة محاربة الإرهاب والقرصنة.
سبق وأن أعلن وزير الخارجية الأمريكي بلينكين، في 6 يناير/ كانون الثاني 2022، تغيير المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان، بتعيين ديفيد ساترفيلد، مبعوثا خاصا جديدا في المنطقة، بعد خبرته وتجربته الدبلوماسية الهامة، رغم شغله منصب سفير الولايات المتحدة الأمريكية في تركيا من جهة. ومن جهة أخرى، لأن أمريكا لم تحقق مبتغاها في المنطقة، سيما في ظل التنافس القوي مع الصين وروسيا، اللتين فرضتا نفسيهما من خلال استثمار احترامهما لمجموعة من المبادئ، المتصلة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والالتزام بمبدأ وحدة أراضي الدول وغيرها من المبادئ الأخرى المنصوص عليها في الميثاق الأممي.
رغم وجود قاعدتي مومباسا ونابلوك البحريتان في كينيا، وقاعدة أربا مينش الجوية للطائرات بدون طيار، منذ عام 2011، في إثيوبيا، والقاعدة الأخرى المعلن عنها والموجودة في جيبوتي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية فشلت في تدبير العديد من الأزمات التي حدثت في منطقة القرن الإفريقي، وبخاصة بعدما غاب التوافق الأمريكي- الإثيوبي حول كيفية تسوية النزاع في تيغراي، كذلك الأمر بالنسبة لما يجري في السودان، إلى جانب تصاعد الأزمة السياسية الصومالية، ولا ننسى عمليات تفجير سفارتي أمريكا سابقا في كينيا (نيروبي) وتنزانيا (دار السلام) سنة 1998. كلها محطات تبرز صعوبة تدبير واشنطن لتحديات المنطقة، والتعامل بشكل جيد مع قضاياها، ولا ننسى أيضا دور كل من روسيا والصين في كبح تمدد أمريكا وهيمنتها.
الصين
اضطلعت الصين، خلال فترة تفشي وباء كورونا، بأدوار مهمة عند تقديمها العديد من الأجهزة والمعدات الطبية، لتقوية حضورها في مجموعة من المناطق الإفريقية، ويدخل نشاطها في إطار قوتها الناعمة المتصلة باستخدام العديد من الآليات الثقافية والعلمية إلى جانب تقديم المساعدات. لأن العلاقات الدولية ترتكز على مقولة مأثورة، مفادها "ليست هناك صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، وإنما هناك مصالح دائمة". من ثمة، فالصين إلى جانب القوى الدولية الأخرى، تتنافس على المنطقة، من أجل خدمة مصالحها العليا، والتأثير في النظام الدولي، ليكون نظاما متعدد الأقطاب.
عرضت الصين عبر مبعوثها الخاص إلى القرن الإفريقي وساطتها في النزاعات القائمة في المنطقة، كالنزاعات العرقية والخلافات الحدودية. إضافة إلى تنزيل مبادرة "الحزام والطريق" التي تضم 41 دولة من أصل 55 دولة أفريقية، خدمة لأنشطتها التجارية وتأمين مشروعها. وإحداثها لأول قاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2017. بذلك تحاول الصين، بين الفينة والأخرى، المزاوجة بين ما هو استثماري وأمني عسكري في المنطقة، في ظل التوتر الحاصل بين إثيوبيا والصومال، فضلا عن ارتفاع وتيرة تهديدات الملاحة الدولية في البحر الأحمر، بعدما استهدف الحوثيون السفن التجارية في منطقة باب المندب بسبب الحرب في قطاع غزة، مما أثر على حركة المرور الدولية.
روسيا الاتحادية
أظهرت روسيا اهتمامها بمنطقة القرن الإفريقي في مجالات متعددة، فبين روسيا وإريتريا علاقات متينة، لأن هذه الأخيرة كانت من بين الدول التي عارضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المطالب بسحب القوات الروسية من أوكرانيا. علاوة على أن موسكو تعتبر المورِّد الأساسي للسلاح إلى إريتريا، ولا ننسى الدعم الذي قدمته روسيا لإرتيريا في الأمم المتحدة، خلال المواجهة مع أثيوبيا، بمعنى آخر هناك دعم متبادل بين الطرفين من خلال مواقف صريحة تؤيد بعضها البعض. تأتي العودة الروسية إلى هذه المنطقة في سياق حماية تجارتها الدولية، وحاجتها إلى التأييد الإفريقي لحربها على أوكرانيا. ناهيك عن سعي موسكو إلى إنشاء قواعد عسكرية في منطقة البحر الأحمر، لتقوية نفوذها في المنطقة على المستويين العسكري والاقتصادي، لضمان بيع أسلحتها وتأمين صادراتها النفطية.
إن وجود القوى الدولية الكبرى في منطقة القرن الإفريقي (الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا..) يشترك في نقطة أساسية هي خدمة مصالحها، ومحاولة التنافس فيما بينها من أجل نظام دولي متعدد الأقطاب، من خلال الصعود الصيني والعودة الروسية، بدل القطبية الأحادية التي تزعمتها الولايات المتحدة الأمريكية، منذ انهيار المعسكر الشرقي بداية تسعينيات القرن الماضي.