الخميس 14 نوفمبر 2024
خلّف وباء كورونا تداعيات صحية وأمنية واقتصادية واجتماعية.. خطيرة، لن تتعافى دول العالم منها إلا بعد مرور فترة ليست بالهينة، بعدما أبرز الوباء الاستراتيجيات الأمنية الشاملة المعتمدة من قبل الدول، والتي لم تحسن تعاملها معه، في معظم الحالات، بسبب فجائيته، وغياب التعاون والتنسيق وانعدام التحالفات، ناهيك عن عدم وجود استراتيجيات خاصة بمواجهة هذه الأمراض والأوبئة، والقضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان، وبحماية كرامته. عكس الاستعدادات القائمة نحو أي تهديد عسكري قد يطال الدول، والذي يحظى بأولوية كبرى، من خلال رصد ميزانيات ضخمة من أجل التسابق نحو التسلح.
دفعت الظرفية التي تفشى فيها الوباء إلى وضع سياسات أمنية شاملة، خصوصا وأن الأمن الوطني للدول لم يعد يقتصر فقط على كل ما هو تقليدي، متصل بالحروب والعمليات الإرهابية والجريمة المنظمة، أو ما يسمى بالقوة الصلبة، بل حاول، بشكل أو بآخر، اختبار قدرات وجاهزية الدول في استراتيجياتها الصحية والأمنية والتعليمية والغذائية... الأمر الذي أثار تساؤلات متصلة بمستقبل مفهوم الأمن الوطني واستراتيجيات الدفاع، في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة. فهل يقتصر على التهديدات الأمنية التقليدية؟ أم يشمل مختلف التهديدات الأخرى، في إطار الأمن الشامل، من أمن صحي وغذائي ومعلوماتي واقتصادي؟ ثم ألم يحن الوقت بعد لترتيب أولويات الدول، وإعادة النظر في مختلف استراتيجياتها تحقيقا لأمنها الشامل؟
تقوم مرتكزات الأمن الوطني للدول على توفير الحماية لكافة مواطنيها وأراضيها واقتصادها، ومختلف مصالحها باختلاف مقوماتها وإمكانياتها. لذلك، فقياس مؤشر الأمن الوطني مرتبط بقدرات الدولة على إيجاد حلول للأزمات والكوارث التي تمر منها، بهدف تحقيق أمنها الشامل. هكذا فرضت الجائحة إعادة ترتيب الأولويات، بشأن مختلف التهديدات التي تتعرض لها البلدان، مما ضَيَّق التعريفات التقليدية للأمن، وفرض تجاوزها نحو تعاريف واسعة، تسمح بإدراج مختلف التهديدات ضمن هذا المفهوم، في ظل تزايد التحديات العالمية الراهنة.
أكدت التحليلات التقليدية أن الأمن مرادف لتخفيف المخاطر العسكرية والردع الفعال للحرب بين الدول، وفي تسعينيات القرن الماضي، وسّع بعض المحللين، في ردهم على الإبادة الجماعية في إفريقيا والبلقان ومختلف الأزمات الإنسانية، الحديث عن الدراسات الأمنية، فأصبح "الأمن البشري" مفهوما يركز على الرفاه العام للأفراد داخل المجتمع. ومع مرور الوقت، بدأ الخبراء والباحثون يقيّمون الأمن، من خلال الصحة، وتأثيرات التغيرات المناخية، والأمن الغذائي وأمن الطاقة، ما يفرض دمجها في تخطيط الأمن القومي الذي لا زال قائمًا ومركزا، إلى حد كبير، على مفاهيم الأمن الكلاسيكية.
زاد الوضع صعوبة، بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الوطني للدول، في مختلف بقاع العالم، كما هو الشأن بالنسبة لمنطقة القرن الإفريقي. فالبلدين المتحاربين يصدّران مواد غذائية وطاقية هامة تستفيد منها العديد من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، حيث تحظى الطاقة والغذاء بالنصيب الأوفر من الاهتمام الدولي، لما خلفته من أزمات كبيرة في العديد من مناطق العالم كمنطقة القرن الإفريقي.
ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وبخاصة القمح، على اعتبار أن روسيا وأوكرانيا من أكبر الدول المصدرة له، فضلا عن أسعار المحروقات التي ارتفعت بدورها في الظرفية الراهنة، علما أن الحرب لم تنته بعد، ما يوحي بتأثيرات متعددة الأبعاد، وبعيدة المدى في الوقت نفسه، خصوصا وأن روسيا من القوى الدولية الكبرى التي تتنافس على منطقة القرن الإفريقي إلى جانب الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
زاد عناء دول منطقة القرن الإفريقي من صعوبة التوفر على الغذاء، بعد التأثر بجائحة كورونا، وما خلفته الحرب الروسية الأوكرانية، لا سيما وأن البلدين المتحاربين ينتجان مواد زراعية مهمة كالقمح. وتعد "روسيا أكبر مصدِّر للقمح في العالم بنسبة 18% من الصادرات العالمية، برسم عام 2023، فيما تحتل أوكرانيا المرتبة السادسة بين الدول المصدرة للقمح، خلال نفس العام، بنسبة 10% من الصادرات العالمية. فضلا عن ذلك، يساهم البلدان معا بما يقارب 80% من صادرات الذرة والشعير وبذور اللفت وزيت عباد الشمس إلى الأسواق العالمية، منذ عام 2018. وتعد روسيا واحدا من أكبر مصدري الأسمدة النيتروجينية والبوتاسيوم والفوسفور. في هذا الصدد، نشير إلى أن الصومال مثلا ترتكز على روسيا وأوكرانيا، في أكثر من 90% من وارداتها من القمح.
تعرف بعض الدول مثل: كينيا وإثيوبيا والصومال مشاكل غذائية كبيرة، مما اضطر مواطنيها إلى البحث عن قوت يومهم، في ظل هذه الظروف السيئة التي تؤثر بشكل أو بآخر على صحتهم. وقد سبق للمدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي؛ ديفيد بيزلي، عام 2022، أن زار الصومال التي تعاني من مشكل الجفاف، وبخاصة مدينة بارديري الجنوبية، حيث التقى بالعائلات – المكونة من رجال ونساء وأطفال يعانون من سوء التغذية- الذين أجبروا على مغادرة منازلهم، والسفر لمسافات طويلة وأماكن بعيدة، بحثا عن المساعدات الإنسانية. وتخللت زيارته المنطقة تأكيدات على وجود أزيد من 7 ملايين شخص يعانون من مشكل سوء التغذية، وإقراره بضرورة التحرك الآني "على العالم أن يتحرك الآن لحماية المجتمعات الأكثر ضعفا من خطر انتشار المجاعة في القرن الأفريقي. لا تبدو هناك نهاية في الأفق لأزمة الجفاف، لذلك يجب أن نحصل على الموارد اللازمة لإنقاذ الأرواح، ومنع الناس من الانزلاق إلى مستويات كارثية من الجوع والمجاعة".ما يفيد باستمرار أزمة الجفاف، وتداعياته على الأنشطة الزراعية والرعي، تأكيد برنامج الأغذية العالمي، عام 2022، بأن 213 ألف شخص يواجهون ظروفا شبيهة بالمجاعة.
يزيد عدم هطول الأمطار لمواسم متعاقبة الأمر تعقيدا، وهو ما لم تشهده المنطقة منذ ما يقارب 40 سنة؛ ما أدى إلى تضرر عدد من أقاليم المنطقة من التصحر والجفاف (شرق وجنوب إثيوبيا وشرق وشمال كينيا ثم جنوب ووسط الصومال). وقد قدر البنك الدولي عدد الرعاة بما بين 12 و22 مليون شخص في القرن الأفريقي وحده، حيث يشكلون الكتلة السكانية الرئيسة في المناطق القاحلة وشبه القاحلة، التي تغطي ما يقرب من 60% من مساحته. ترتب عن الجفاف الذي ضرب -ولا زال- منطقة القرن الأفريقي نفوق أكثر من 13 مليون رأس ماشية، ما بين 2020 و2022، بسبب نقص المياه والأعلاف، ما أفقد أصحابها مصدر دخلهم الوحيد، وشكل تهديدا على استمرار حياتهم، وفقا لسيريل فيراند قائد فريق القدرة على الصمود لشرق أفريقيا في منظمة الأغذية والزراعة.
يعاني 7 ملايين طفل من سوء التغذية، بما في ذلك 1,7 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، حسبما أكدته اليونيسيف، عام 2022. الأكثر من ذلك أن 7 دول هي: جيبوتي وإثيوبيا وكينيا والصومال وجنوب السودان والسودان وأوغندا يعانون من بعض الأمراض والأوبئة المعدية مثل الحصبة والكوليرا والملاريا، في ظل ظروف النظافة شبه المنعدمة وضعف وجود قنوات الصرف الصحي.
يتسبب مشكل سوء التغذية في دفع الناس نحو النزوح والهجرة، بحثا عن قوتهم اليومي إلى جانب المراعي، فضعف وجود الأغذية والخدمات الصحية يمكنه أن يؤدي إلى تزايد عدد الأمراض المتفشية في البلاد، لذا يبقى الحصول على مياه الشرب والغذاء من الأولويات الكبرى، من أجل تجنب مجموعة من الأوبئة والوفيات التي ارتفعت في أوساط الأطفال. في هذا السياق، أطلقت منظمة الصحة العالمية نداء، يوم الجمعة 10 مارس/ آذار 2023، لجمع 178 مليون دولار لدعم المساعدة الإنسانية عبر البلدان السبعة المتضررة، في منطقة القرن الإفريقي السالفة الذكر.
أكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، مطلع عام 2023، وصول ما يقرب من 100 ألف لاجئ إلى مناطق نائية، متأثرين بالجفاف في إثيوبيا، بعد فرارهم من نزاع على الحدود في مدينة لاعانود، وجلهم من النساء والأطفال وكبار السن. إذ يعيش حوالي 30 مليون من النازحين داخلياً واللاجئين وطالبي اللجوء في إفريقيا عموما. وفر من شرق إفريقيا والقرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى تحديدا ملايين الأشخاص، بسبب الصراعات والعنف والظواهر المتعلقة بالمناخ. واستضافت المنطقة، بمتم عام 2021، ما يقارب 4.9 مليون لاجئ وطالب لجوء، و12 مليون نازح داخليا، في حين وصل أكثر من 80 ألف شخص إلى مخيمات داداب للاجئين في كينيا عام 2022، هربا من استمرار حالة انعدام الأمن في الصومال والجفاف الأخطر منذ عقود.
أشارت منظمة إيغاد، في بيان صادر عنها في يونيو/ حزيران 2023، إلى العديد من الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، والتي تندرج ضمن أجندة أعمالها لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة -النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا- الأزمة السودانية ومشكل تيغراي- علما أن غياب الاستقرار له أثر مباشر على العديد من التحديات التي تعانيها المنطقة كمشكل سوء وانعدام التغذية..
تقع مسؤولية كبيرة على هيئة "إيغاد" لإعادة ترتيب أولوياتها، لوضع قضية الأمن الغذائي على رأس الحاجيات، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خصوصا وأن الإنسان يعاني في منطقة القرن الإفريقي من عدم القدرة على تلبية حاجياته من الطعام والشراب اللازمَين لتوفير الحد الأدنى من كرامته. وما يزيد الأمر صعوبة، بشأن سوء وانعدام التغذية، هو تزايد النزاعات ومشكل التغير المناخي، فضلا عن غياب استقرار الوضع الاقتصادي إلى جانب ما أفرزته جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. لكل ذلك تبقى مواجهة هذه التحديات رهينة بالتنسيق والتعاون بين دول المنطقة، لتحقيق سبل العيش الكريم لمواطنيها، وبالتالي ضمان أمن غذائي مستدام حاضرا ومستقبلا في إطار "الحق في الأغذية".