الخميس 14 نوفمبر 2024
يخلد الأفارقة والعالم في 25 ماي/آيار، يوم افريقيا، احتفالا بذكرى إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية. تخليد سنوي، يشكل مناسبة لاستحضار محطات جبارة للقادة الأفارقة لتشكيل منظمة للتكامل الإقليمي، فحظيت إثيوبيا بشرف الإعلان الرسمي عنها عام 1963، وتتواصل مسيرة العمل المشترك التي رسمها الأباء المؤسسون وناضلوا من أجلها، ويستكمل الأحفاد المشوار وأعينهم على المستقبل.
تتجدد الذكرى هذه السنة، بعد أكثر من ستة عقود من الاشتغال الإفريقي المشترك، ما يعد محطة مثالية للتقييم أكثر من الاقتصار على الاحتفال فحسب. وهي كذلك لحظة لتأكيد أهمية فكرة العمل الإفريقي الموحد لمقاربة التحديات التي تواجهها دول القارة، كما تمثل فرصة لجرد المكاسب والإخفاقات، وهي بالتأكيد وقفة لإعادة طرح أسئلة العمل الإفريقي وتحدياته.
من إنهاء الاستعمار إلى العمل الإفريقي
عقب موجات الاستقلال في خمسينيات القرن العشرين، تنامت فكرة الاتحاد بين الدول الإفريقية المستقلة حديثا، لدعم شقيقاتها التي تناضل في سبيل الاستقلال، ومن أجل بناء الدولة الوطنية الإفريقية والتصدي لتحديات المرحلة، فعقِدت المؤتمرات واللقاءات التي أجمعت على راهنية الفكرة وأهميتها، وتحققت الرؤية في 25 ماي/ آيار 1963، باديس أبابا، إذ توافق قادة ثلاثين دولة مستقلة على الإعلان عن تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية.
بدأت المنظمة بفلسفة عامة ترمي إنهاء الاستعمار، وتعزيز الوحدة والتضامن والتكامل والتعاون الإفريقي، إذ جاءت في خضم موجة استقلال الدول الإفريقية، وبعد 3 سنوات على القرار الأممي لتصفية الاستعمار، واستكمالا لمخرجات مؤتمر الدار البيضاء، في يناير/ كانون الأول 1961، لتحرير القارة من الاستعمار والتفكير الجماعي في العمل الإفريقي.
كان استكمال استقلال باقي الدول المستعمرة فكرة محورية في خطة الأباء المؤسسون للمنظمة، لكنه لم يلق بضلاله على التعاون الجماعي، إذ كانت التحركات متسقة مع محاولاتهم لتعزيز التعاون والتكامل والوحدة بالقارة.
هكذا، نصت المنظمة الفتية في ميثاقها على العمل الإفريقي وآليات تعزيزه، ورحبت بانضمام الدول المستقلة حديثا، لتنطلق مسيرة البناء والتعاون، بيد أن العمل المشترك كان تحت ضغط الحرب الباردة، التي كانت مناطق القارة مسرحا لها. كما تقاطع مع موجة الانقلابات العسكرية، ما شكل أولى العقبات أمام تعزيز أواصر هذا العمل، فقد ظل، طوال سنوات عديدة، أسير الاصطدام الإيديولوجي داخل أروقتها، حيث أنهكت سنوات انحياز هذه الدول إلى أحد المعسكرين جهود التعاون الجماعي.
حملت نهاية الحرب الباردة أفاقا لبداية نظام عالمي جديد، لكنها قطعا لم تكن انفراجة للعمل الإفريقي؛ إذ برزت التهديدات الأمنية الداخلية مع تنامي موجات الحروب الأهلية، فبقيت دول القارة عاجزة، وللمفارقة، إلى جانب الأمم المتحدة وهيئات أخرى، في التصدي لهذه التحديات. دفعت هذه الأوضاع بالجميع نحو التفكير في ضخ دماء جديدة في منظومة العمل المشترك، وأيقن الأفارقة أن الحاجة ماسة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي، بالإعلان عن وفاة منظمة الوحدة الإفريقية وولادة الاتحاد الإفريقي.
من منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقي
عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، برزت الأعراض الجانبية لانتصار المعسكر الغربي، في إعادة تشكيل النظام الدولي وهيكلة السياقات الإقليمية. كما تعقدت القضايا السياسية والشؤون الدولية، متغيرات جمة كان فرصة للتفكير حول المستقبل، ومحددا لنقاش إفريقي داخلي ممتد، كان إعلان سرت (ليبيا) الجواب النهائي له، بالتوافق على تغيير المنظمة إسما وهوية وأهدافا. فتمت المصادقة على ميثاق الاتحاد الإفريقي عام 2001، ودخل حيز التنفيذ بعد سنة، ليعوض بذلك "الاتحاد الإفريقي" ما سمي سابقا "منظمة الوحدة الإفريقية"، ليحمل لوائها بنفس ورؤى جديدة، في رحلة الأفارقة نحو مجابهة التحديات وتعزيز التكامل.
أعاد هذا التحول بناء المنظمة، بإعادة تغير فلسفتها، فحملت أسئلة أخرى عن الإندماج والتكامل الإقليمي، وتعزيز التنمية المستدامة ودعائم السلام والأمن والاستقرار، وتهيئة الظروف اللازمة لتمكين القارة من لعب دورها المناسب في الاقتصاد والتنمية، وفي الحياة الدولية. ساهم هذا التحول في توسيع الانشغالات بكافة القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية، خدمة للشعوب الإفريقية، بما يكفل للقارة حضورا وتأثيرا على فضاءات تتجاوز حدودها الجغرافية.
يتقاطع تجديد فلسلفة المنظمة مع توسيع هياكلها وتطوير آلياتها، فبقي مؤتمر رؤساء الدول والحكومات المحدد الأعلى لتوجهاتها، مع تعزيز محورية مفوضية الاتحاد التي عوضت الأمانة العامة. تكريسا لضمان مشاركة كاملة للشعوب في التنمية والتكامل، تم إنشاء برلمان عموم إفريقيا، ومجلس للسلم والأمن. فضلا عن مؤسسات متخصصة، وهيئات جديدة مثل: محكمة العدل التابعة للاتحاد، ومؤسسات مالية وهيئات استشارية. كما أطر الاتحاد تفاعلاته باتفاقيات ومعاهدات وبرتوكولات وتوصيات، وعززها بخطط وبرامج واستراتيجيات.
على المستوى العملياتي، بقي التكامل الاقتصادي الرابط الأساسي للتعاون الإفريقي، على أساس التضامن والتكامل القاري، وإن ظلت محدودية المبادلات الداخلية تسائل العمل الإفريقي في هذا السياق. ولأجل إعطاء دفعة للعمل، تمت المصادقة على إنشاء منطقة التبادل الحرة القارية الإفريقية، مع الرهان على اتحاد جمركي وسوق موحدة وبنك مركزي وعملة مشتركة.
أما بالنسبة للأمن والاستقرار الذي اعتبر منطلقا أساسيا للتحرك، ولا يرتبط بعمل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد، كنسخة لمجلس الأمن الدولي، إنما بفلسفة عامة لعمل للاتحاد ككل، في سبيل إرساء الاستقرار والتعاون قصد التصدي للتحديات الأمنية، وإدارة الصراعات والتدخل في الأزمات الأمنية بالقارة، فقد ساهم في نشر قوات عسكرية لاستتباب الأمن؛ كبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال، (المعروفة اختصارا اميسوم)، وعوضت ببعثة انتقالية، (المعروفة اختصارا اتميس)، وتركز على دعم الحكومة الصومالية وتدريب قواتها لتعزيز الاستقرار وتسهيل العمليات الإنسانية، امتدت مهامها لمدة خمسة عشر سنة. والبعثة المختلطة للاتحاد الافريقي والأمم المتحدة في دارفور، (المعروفة اختصارا يوناميد)، كعملية مشتركة بين الاتحاد والأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في منطقة دارفور. كما أرسى الاتحاد لدعائم للانتقال السلمي للسلطة، ودعم الشرعية والحل السلمي للنزاعات، بدور بارز لمفوضية الاتحاد في مجال مراقبة الانتخابات، وتطوير مهام مجلس السلم والأمن لتعزيز السلام والاستقرار بالقارة، ودور لجنة الحكماء بالاتحاد الافريقي لتقديم الاستشارة لمجلس السلم ورئيس المفوضية في المسائل المتعلقة لدعم جهودهم في منع النزاعات وتعزيز السلم والأمن والاستقرار في أفريقيا.
يبدو أن تزايد التحديات اقتضى تطوير الآليات، ما أثارت دعوات ومطالب بإعادة إصلاح مؤسسات الاتحاد. فتشكلت لجنة شاملة لإعادة إصلاح المؤسسة، وكانت ثمرة نقاش طويل لإعادة الهيكلة وتعزيز التكامل، أفضى إلى تكليف الرئيس الرواندي؛ بول كاغامي، بقيادة خطة الإصلاح، وتعزيز الحكامة والشفافية بأروقة المؤسسة. كما حاولت الخطة مراجعة عمل المؤسسات والهيئات سعيا إلى تجاوز الجمود المؤسساتي، وتعزيز الاستقلال المالي، لكن تلك المساعي اعترضتها تحديات عديدة، فرضت تغيير القيادة، حيث تولى الرئيس الكيني، ويليان روتو، مسؤولية استكمال خطة الإصلاح خلفا لكاغامي.
العمل الإفريقي بين السياسة والاقتصاد
حمل تجديد الاتحاد نفسا جديدا ورؤى متعددة لإعادة إرساء دعائم التكامل والتعاون والتنسيق المشترك في كافة المجالات، ولم يكن لتبرير فكرة معمر القذافي الطوباوية التي ظل وفيا لها بتشكيل حكومة للاتحاد الافريقي. كما لم يكن استنساخا لتجربة الاتحاد الأوروبي، بل جاء لمسايرة التحولات الهيكلية لعالم معاصر، بانشغالات جديدة تتجاوز الاقتصادي إلى محددات أخرى، وبرؤية لتعزيز التكامل الإفريقي-الإفريقي، خدمة لمصالح دول القارة وطموحات شعوبها.
لقد كانت رؤية التعاون السياسي رائدة في قيادة توجهات الاتحاد، وتعززت مع تنامي الاستقطابات الداخلية والخلافات، ومحاولات القوى الإقليمية قيادة دفة الاتحاد. فطرحت "رؤية 2063" المسماة "افريقيا التي نريد" كمشروع طموح للاتحاد، تضمنت خطة خمسينية لإفريقيا موحدة ومندمجة مستقرة، قوامها رؤية سياسية بطموح لتأهيل الاتحاد كلاعب مؤثر وقوي في العلاقات الدولية والمنظومة الدولية.
يبدو أن الادعاءات بفشل المنظومة تبالغ في المقارنات، ولا تستحضر المكتسبات التي تحققت. فما كان للعمل الإفريقي المشترك أن ينجح، لو لم يستند على قاعدة صلبة ومبادئ راسخة. صحيح، تمت محدودة في النتائج التي تحققت، خلال عقدين وأكثر من العمل تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، ناهيك عن الإكراهات التي تسربت لمنظومته، إلا أن كل ذلك يتضاءل أمام استمرار مسيرة التحدي والبناء. المؤكد أيضا أن العمل الإفريقي محدود أمام حجم الانتظارات وأمال الشعوب، وأمام صعوبة الموازنة بين الخطط المرسومة والأهداف التي لا تتناسب مع ما تحقق على أرض الواقع.
يتأكد هذا الاستنتاج بسرعة، بمجرد استقراء الأهداف المرحلية لخطة الاتحاد 2063، في المراجعة الأولى لها، وتقييم التقدم المحرز، حيث يظهر بأن التحديات التي تعوق تحقيق هذه الخطة، تتراوح ما بين محدودية الموارد وعدم الاستقرار... إضافة لتحديات غير تقليدية؛ من قبيل: تداعيات جائحة كورونا والكوارث الطبيعية؛ بسبب الاحتباس الحراري، وعودة التنافس الدولية بقوة حول القارة، في صراع القوى الكبرى على إعادة تشكيل النظام العالمي.
وعليه، تنشغل دول القارة بهاجس تحقيق حلم العمل الإفريقي المشترك؛ فحتمت على الاتحاد الافريقي السير على نهج منظمة الأمم المتحدة، بتضخم مؤسساتها وتوسيع مجالات العمل والاهتمام بكل القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية، دون الانشغال بتجاوز تحديات غياب الفعالية وتنفيذ قرارات المنظمة، ووفاء الدول بالتزامتها في علاقاتها مع المنظمة، وهذا ما يؤكده محدودية إصلاح المؤسسة. وفي السنوات القليلة الأخيرة، تضاعفت الرهانات على العمل الإفريقي، بالحديث عن "الموجة الثانية لاستقلال الدول الإفريقية"، لاسيما في منطقة الساحل، بعد موجة الانقلابات العسكرية الأخيرة. فأعادت هذه المطالب، إلى الواجهة، إحياء أسئلة الهيمنة والتنافس وفرض الأجندة الخارجية، دون أن تنهي أسئلة ضعف مؤسسات الاتحاد وتراجع مشاريع الاندماج، مما يؤكد بأن الشعارات والنوايا وحدها لا تكفي للتكامل والعمل المشترك.
لقد عوض "يوم إفريقيا" الاحتفال "بيوم الحرية الإفريقية"، كما فرضت التحولات الدولية والإقليمية حتمية تغيير "منظمة الوحدة الافريقية" إلى "الاتحاد الإفريقي". لكن بقيت الآمال معلقة نحو افريقيا مزدهرة ومستقرة وواعدة، وفي خضم التحولات الراهنة، وفي ذكرى تأسيس المنظمة، أليست الحاجة ملحة لإعادة مسألة العمل الافريقي برؤية ونفس جديد؟