الجمعة 22 نوفمبر 2024
شارك الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، في السابع من أبريل/ نسيان الحالي، في مناسبة إحياء ذكرى الإبادة الجماعية في عام 1994، في نفس اليوم الذي دخلت فيه الإبادة المستمرة التي تمارسها إسرائيل ضد الغزيين شهرها السابع. وتجلى الوجه الأسوأ لإسرائيل في خطبة دفاع هرتزوغ عن بلده في المحفل، وتبرير الجرائم التي ترتكبها بلاده في نرجسية تتلائم مع سلوك الكيان الإسرائيلي.
تحمل المناسبة دلالة ورمزية خاصة تستدعى التذكير بمكانة فلسطين التاريخية في القارة. فمنذ السبعينيات، تبنت العديد من الدول الإفريقية خطًا مؤيدًا لفلسطين في المحافل الدولية، واعترفت جلها بفلسطين كدولة مستقلة. وشكلت عملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وما أعقبه من رد إسرائيلي بارتكاب إبادة جماعية، اختبارًا مهمًا لموقف فلسطين/إسرائيل في أفريقيا. فتاريخيًا، كانت أفريقيا تقف مع الحقوق الفلسطينية، حتى عقد الستينيات، حيث قامت غولدا مائير، وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك (ورئيسة الوزراء لاحقًا)، بـ"اختراق" القارة. لكن سرعان ما توترت العلاقات بعد حرب عام 1973، ما أفضى إلى طرد إسرائيل بشكل شبه كامل من أفريقيا. واستعادت إسرائيل علاقاتها، بشكل تدريجي، مع الدول الإفريقية في حقبة الثمانينيات. وشهدت هذه العلاقات فقزة أخرى خلال حكومات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الأخيرة،. فقد زار أفريقيا خمس مرات (أكثر من أي رئيس وزراء إسرائيلي آخر)؛ وافتتحت إسرائيل عددًا من السفارات والمكاتب الاقتصادية الجديدة في القار، خاصة في شرق إفريقيا. كل ذلك لم يحل دون تأييد غالبية الدول الافريقية، حتى الآن، لكل القرارات التي تدين إسرائيل، منذ بدء الإبادة المستمرة على غزة. وصوت مجلس الأمن في الاتحاد الافريقي، في القمة الأفريقية عام 2024، لصالح إجراء تحقيق دولي مستقل في الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الإنساني الدولي في غزة، واستخدام إسرائيل للأسلحة المحظورة دوليًا في استهداف المستشفيات والمؤسسات الإعلامية في حربها على القطاع.
جانب الرئيس الرواندي، بول كغامي الصواب، في كلمته، وهو المتهم أيضًا بارتكاب مجازر في حدود الكونغو (في دعمه لحركة «23 مارس» المتمرّدة في شرقي جمهورية الكونغو الديموقراطية المجاورة)، بقبوله مثل هذه التصريحات في محفل يتفرض أن يكون وفاء لأرواح ضحايا أفارقة. فتخليد ذكرى ضحايا الإبادات الجماعية ليس مقامًا لتبرير إبادات جديدة، وإنما فرصة مثالية لتذكرها والتنديد بها. ولا يمكن للمرء إلا أن يأخذ من قبيل نكتة غير مضحكة أن يلقى هرتزوغ إكليلًا من الزهور على النصب التذكاري للإبادة الجماعية في رواندا، بينما دولته ترتكب مجازر موثّقة بالصوت والصورة، في مشاهد مؤلمة تملأ الشاشات ووسائل التواصل، وتتراكم كل ساعة. بطبعية الحال، لا يمكن فصل ذلك عن الموقف الرواندي الرسمي، الذي اخترقته إسرائيل منذ عقود، فقد اجتمع هرتزوغ مع كغامي، ومع كبار الشخصيات في رواند، في لقاءات خاصة لمناقشة مسألة الرهائن، و"تسليط الضوء على ضرورة الحرب المشتركة ضد الإرهاب في جميع أنحاء العالم"، التي تبقى أحد منافذ إسرائيل لتحقيق مصالحها في دول تعاني من الصراعات الطائفية والعرقية.
عندما يلقي الرئيس بول كاغامي اللوم على تقاعس المجتمع الدولي في السماح بحدوث الإبادة الجماعية، ويسمح في الوقت نفسه بالتواطئ مع الإبادة الجماعية في غزة، باستضافة رئيس الدولة التي تتولى ارتكابها، فإنه حتما يضل الطريق، كما أنه لا يحترم مناسبة الذكرى التي يلملم المجتمع الرواندي جراحها. زيادة على أنه يتحالف مع نظام كان شريكًا مع حكومة الهوتو في تنفيذها الإبادة الجماعية للتوتسي؛ فقد ظهرت تقارير مختلفة توثق أن الحكومة الإسرائيلية قدمت دعمًا عسكريًا، بما في ذلك التزويد بالأسلحة، لنظام الهوتو خلال الحرب الأهلية الرواندية التي استمرت أربع سنوات، ما بين عامي 1990 حتى 1994.
ثمة تقاطع واضح بين الإبادتين إذن، وهي الفرجة. ففي وقت حدوث الإبادة الجماعية في رواندا، وتزايد الأدلة على الفظائع، التزم المجتمع الدولي الصمت، وتجاهل الإبادة الجماعية، بل أنكر الرئيس الأمريكي وقتذاك، بيل كلينتون، اعتبار عمليات القتل الجارية هناك إبادة جماعية، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى ضغوط سياسية وقانونية تحتم على الولايات المتحدة التدخل، وتفرض على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إرسال قوات لوقف المذبحة. لكن بعد أربع سنوات من الإبادة الجماعية، سيذهب كلينتون إلى رواندا لتقديم اعتذار يدعي فيه أنه وغيره من إدارته "لم يقدروا تمامًا العمق والسرعة التي اجتاحكم بها هذا الإرهاب الذي لا يمكن تصوره". لكن الحقيقة أن التقارير حول حجم عمليات القتل كانت تتدفق من السفارة الأمريكية في كيغالي.
بالنسبة لإدارة كلينتون، كما يظهر من حالة بايدن الآن، تبقى حياة الأفارقة/الفلسطينيين أقل أهمية من المخاطر السياسية الداخلية، المتعلقة بإعادة انتخاب إداراتهم. كان كلينتون يخشى بعد الفشل الساحق لعملية تدخله العسكري في الصومال، عام 1993، في العملية المسماة بـ "إعادة الأمل"، من أن أي تدخل أجنبي آخر سيؤثر سلبًا في إعادة انتخابه. أما الفرنسيون في رواندا، فقد سارعوا إلى إنقاذ أنفسهم وحيواناتهم الأليفة، دون أن يحركوا ساكنا لوقف الإبادة ضد التوتسي. بل بالعكس من ذلك، انغمست فرنسا في أوهامها الاستعمارية بشأن مناطق النفوذ، ودعمت حكومة الهوتو المتطرفة التي قادت الإبادة الجماعية. أخيرا، اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إبان الذكرى السنوية للإبادة الجماعية، بأن بلاده وحلفاءها كان بوسعهم وقف الإبادة، لكنهم كانوا "يفتقرون إلى الإرادة للقيام بذلك"، على الرغم من أن الأدلة على الجريمة كانت تحدق في عيونهم.
يظل نشازا أن تشارك دولة ترتكب بهذا الحجم المعلن من المجازر في غزة بهذه الذكرى الأليمة. وغالبا مركب النرجسية والعنصرية العرقية هو ما يدفع إسرائيل بالذهاب إلى أقاصي ممارسة سخرية من هذا القبيل. لكن يجب أن نعرف أن الإبادة الجماعية في رواندا، مهدت الطريق لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، في عام 2002، ذات الولاية القضائية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وكانت بمثابة حافز لتأسيس "مبدأ المسؤولية عن الحماية"، الذي تبنته كافة البلدان في الأمم المتحدة عام 2005. ويلزم هذا المبدأ الحكومات بالعمل ضد التهديدات المباشرة بالإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية.
على نقيض رواندا، التي تروج من قبل المنظمات الدولية، أنها الوجه الأفريقي الصاعد، رفعت جنوب أفريقيا، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، دعوة ضد إسرائيل، بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة في محكمة العدل الدولية. ونصت جنوب أفريقيا في قضيتها أمام المحكمة على أن تصرفات إسرائيل هي عن قصد، وتصل إلى حد الإبادة الجماعية. واستندت في دعواها إلى التصريحات المتكررة التي أطلقها مسؤولون إسرائيليون، وأحيانًا بلغة تشبه ما حدث في رواندا، بأن الهجوم على غزة كان أكثر من مجرد ملاحقة لحماس، ويرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. الرئيس الإسرائيلي نفسه، إسحاق هرتزوغ، حدد ذلك بصريح العبارة بقوله إنه لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة، وأن "الغزيين بأكملهم يتحملون مسؤولية عمليات 7 اكتوبر".
كان الصحفي كريس ماكجريل من بين الصحفيين الذين غطوا إبادة رواندا، وكتب مؤخرًا مقالة في صحيفة الغارديان، يقول فيها أن التحقيق الذي تجريه المحكمة الجنائية الدولية أمر يستحق الإشادة، لكن سيكتمل بعد فوات الأوان لإنقاذ أولئك الذين ما زالوا يواجهون القنابل والرصاص والمجاعة في غزة. و"يتعين على حلفاء إسرائيل أن يفعلوا ما هو أكثر من مجرد القلق والارتقاء إلى مستوى الدروس التي يزعمون أنهم تعلموها في رواندا". ففي اعترافه المتأخر بالذنب، قال كلينتون "يجب علينا ألا نخجل أبدًا مرة أخرى في مواجهة الأدلة". لكن يبدوا أن الولايات المتحدة لم تتعلم الدرس بعد، وكذا بقية المجتمع الدولي المتفرج.