الخميس 21 نوفمبر 2024
سعت الصين، خلال الأعوام الأخيرة، عبر التغلغل في اقتصاديات الدول الإفريقية، سواء عبر تمويل مشروعات في هذه الدول، أو نقل بعض التكنولوجيات الحيوية، إلى المحافظة على مكانتها، من خلال التوقيع على عقود اقتصادية واستثمارية تشمل شتى المجالات، وهو ما عزّز مركزية الصين في تنمية هذه القارة، التي تحتاج، بحسب التقديرات الأخيرة لــ "بنك التنمية الإفريقي" (AFDB)، من 130 الى 170 مليار دولار سنوياً، لتطوير بنيتها التحتية والحفاظ على نموها الاقتصادي.
لكن ما يثير القلق، بحسب خبراء؛ هو أنّ الاستثمارات الصينية تنطوي على جوانب خطيرة؛ حيث تسعى الصين إلى إغراق الدول الفقيرة بالديون، ومن ثم تشرع في الاستحواذ على الأصول الوطنية الإستراتيجية لتلك البلدان عندما تتخلّف عن سداد الديون.
يعود مصدر 20% من إجمالي الديون الخارجية للحكومات الإفريقية إلى الصين؛ أي أكثر من نصف إجمالي الديون السيادية الإفريقية المستحقة للحكومات الأجنبية، وفق "ـThe Jubilee Debt Campaign"، وهي هيئة رقابة مقرّها المملكة المتحدة.
ووفقا لإحصاءات الديون الدولية الصادرة عن البنك الدولي، في عام 2017، شكلت الائتمانات الثنائية الرسمية من الصين 62% من الاعتمادات الرسمية الثنائية، أو حوالي 23% من إجمالي الديون العامة والمضمونة من القطاع العام في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. وفي عام 2018، بالنسبة للدول الإفريقية منخفضة الدخل الأربعين، وصل الدين الصيني إلى 60% من الإقراض الثنائي، و17% من الديون العامة والمضمونة من القطاع العام في هذه المجموعة الفرعية من البلدان. وتشكل البنوك التجارية الصينية أيضاً جزءاً من الصورة، وسيتم إدراجها في هذه البيانات باعتبارها دائنين خاصين غير رسميين، حتى لو كانت مملوكة للدولة.
وقد وضع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في منتدى عام 2018 حول التعاون الصيني الإفريقي، الذي عقد في بكين، الاستثمار هدفاً، وقرضاً بقيمة 60 مليار دولار إضافي لإفريقيا، ما يشير إلى أنّ تدفق التمويل من غير المرجح أن يتناقص في وقت قريب، وهو أمر يثير مخاوف كبيرة بتزايد الآثار السلبية للديون الصينية على البلدان الإفريقية. فكيف أصبحت الاستثمارات الصينية في إفريقيا مصائد ديون؟
استحواذ الصين لميناء مومباسا الكيني
أفادت صحيفة "أفريكان ستاند"، في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020، عن خطورة تعرض كينيا لخطر فقدان أحد وأهم أصولها الاستراتيجية الوطنية؛ بسبب تراكم الديون الصينية عليها، وبعد مرور بضعة أشهر فقط، بدأ الصينيون في التحرك للاستيلاء على ميناء "مومباسا"، في مطلع مايو (أيار) عام 2021 ، إثر فشل كينيا في سداد القروض الضخمة المقدمة من المقرضين الصينيين.
منحت الصين كينيا قرضا يبلغ خمسة مليارات ونصف المليار لتطوير سكة حديد تربط مدينة مومباسا بالعاصمة نيروبي، واضطرت كينيا لرهن أكبر وأهم مرفأ بها "ميناء مومباسا" للحكومة الصينية، وذلك بسبب قروضها المتراكمة.
من شأن الاستحواذ الصيني على ميناء مومباسا أن يترك آثاراً سلبية على الاقتصاد الكيني؛ حيث سيضطر الآلاف من عمّال الموانئ الكينيين إلى العمل تحت إمرة المُقرضين الصينيين، كما سيتم إرسال إيرادات الميناء مباشرة إلى الصين حتى سداد مبلغ الديون.
وتدين كينيا بأكثر من 6 مليارات دولار للصين، أكبر دائن لها. وكان الجزء الأكبر من هذا الدين لتمويل خط السكك الحديدية الذي بنته الصين بطول 700 كيلومتر بين مومباسا ونيروبي. وكان المصممون الصينيون قد وعدوا في البداية بأن تدفع السكك الحديدية تكاليفها بنفسها، لكن ذلك لم يحدث، مما ترك الحكومة في مأزق الديون.
إلى جانب الأموال المستحقة للبنك الدولي وغيره من المقرضين متعددي الأطراف، سيعادل ديون كينيا 67% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2024، وفقًا للخزانة الوطنية الكينية. وهذا أعلى بنحو 50% مما كان عليه قبل عشر سنوات عندما وقعت كينيا على مبادرة الحزام والطريق الصينية وأطلقت موجة من الاقتراض المرتبط بالبنية التحتية.
بذلك تنضم كينيا إلى سريلانكا، التي هي الأخرى خسرت أحد أصولها الإستراتيجية الوطنية لصالح الصين؛ ففي أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، تنازلت سريلانكا رسمياً عن سيادة الميناء الإستراتيجي على ساحل هامبانتوتا، جنوب الصين، لمدة 99 عاماً، بعد فشلها في الالتزام بدفع قروض صينية تصل 1.1 مليار دولار.
وصف المحلل السياسي الكيني، أتانغو مهامات، في تغريدة له على منصة إكس، الاستحواذ بأنّه نتيجة متوقعة من "دبلوماسية فخّ الديون الصينية"، قائلاً: إنّ "القروض الصينية تُمنح في كثير من الأحيان مقابل أصول مادية مهمّة من الناحية الاستراتيجية لبلدانها".
مطار زامبيا الدولي بيد الصينيين
فقدت زامبيا بدورها مطار "كينيث كاوندا" الدولي لصالح الصين؛ في أيلول (سبتمبر) عام 2020، بسبب عجزها عن سداد الديون الصينية. ومن المتوقع أن تكون شركة "ZESCO"، التابعة لشركة الطاقة في زامبيا، من بين ضحايا الاستحواذ الصيني بعد التخلف عن سداد القرض، حسبما يشير تقرير صادر عن "Africa Confidential"، حيث يقول التقرير: إنّ "زامبيا تجري محادثات مع الصين من أجل إقناع الصينيين لعدم استحواذ شركة الكهرباء".
ومن دواعي القلق الرئيسة لصندوق النقد الدولي؛ أنّ إستراتيجية الصين تتمثل بتشجيع المديونية أولاً، ومن ثم الاستحواذ على الأصول الوطنية الاستراتيجية عندما يتخلف المدين عن السداد. ورأت صحيفة "لوساكا تايمز" الزامبية، في عددها الصادر بتاريخ 24 فبراير ( شباط) 2019؛ أنّ "هذا الحدث يمثل أكبر خسارة للسيادة الوطنية منذ الاستقلال".
حصلت زامبيا خلال فترة حكم الرئيس الأسبق إدغار لونغو (2015-2021) على ما لا يقلّ عن 8 مليارات دولار أمريكي لتمويل المشاريع الصينية. ديون يرى مراقبون، أنّ خزينة الدولة الزامبية غير قادرة على سدادها، ما يجعل خطر الاستيلاء على أصول وطنية أخرى أمراً قائماً.
مخاطر تعمل الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس هاكيندي هيشيليما على التخفيف منها، بإعلان تخليها، صيف عام 2022، عن مشاريع جديدة بتكلفة ملياري دولار تجنبا لمزيد من الديون التجارية. ناهيك عن قيام رئيس زامبيا، في سبتمبر/ أيلول 2023، بزيارة رسمية إلى الصين، وتتصدر إعادة هيكلة الديون أجندة جدول الأعمال.
جيبوتي ضحية محتملة للديون الصينية
تعدّ جيبوتي؛ البلد الواقع في القرن الإفريقي، في قلب مشروع "الحزام والطريق"، والذي يعزز أهداف بكين التجارية والعسكرية. يمثل طريق القطار السريع الذي يربط إثيوبيا بجيبوتي، بتمويل صيني، إحدى خطط مبادرة "الحزام والطريق" العالمية، وهي مزيج من الإستراتيجية الاقتصادية والسياسة الخارجية، والهجوم الساحر الذي يغذيه سيل من الأموال الصينية، كل ذلك بهدف رسم توازن جديد لتحالفات العالمية.
تنفّذ الصين مشروعات أخرى كبيرة في البنية التحتية في جيبوتي، إلى جانب مشروع السكة، بعضها من خلال الشركات المملوكة للدولة، منها: مشروع جيبوتي الدولي للمناطق الصناعية، ومراكز تصنيع عدّة. تسعى الدولة ذات الحزب الواحد جزئياً، بقيادة الرئيس إسماعيل عمر غيلة؛ نحو تنفيذ برنامج لتطوير البنية التحتية بقيمة 12.4 مليار دولار، يتم تمويل معظمه من خلال قروض من بنك التصدير والاستيراد الصيني.
وتعطي الصين أهمية خاصة لجيبوتي، بسبب موقعها الإستراتيجي، وأيضاً بسبب تواجد قوة عسكرية أمريكية هناك، تضمّ 4000 عسكري؛ فالصين لا تريد أن تكون واشنطن هي الوحيدة التي تسيطر على طرق الملاحة؛ لأنّ هذا يمكن أن يعارض مصالحها، ويعيق توصيل الموارد الأولية. ذلك ما دفع الصين إلى إنشاء أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي، لتكون بذلك قد ضربت بعرض الحائط أحد أبرز الثوابت التي كانت تدافع عنها، وهو عدم التدخل عسكرياً في شؤون الدول الأخرى.
والصين هي أكبر دائن لجيبوتي، إذ تبلغ ديونها أكثر من 1.4 مليار دولار، أي ما يعادل حوالي 45% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفقا لصندوق النقد الدولي.في سياق متصل، يعيش 79% من الجيبوتيين في فقر، بينما يعيش 42% في فقر مدقع، وفق برنامج الغذاء العالمي، ويبلغ عدد سكان البلاد حوالي مليون شخص، وتمثل الثروة الحيوانية مصدر الرزق الرئيس لثلث السكان، وتستورد جيبوتي 90% من الأغذية من الخارج.
وقال صندوق النقد الدولي في تقريره: إنّ "إستراتيجية سلطات جيبوتي للاستثمار في البنية التحتية لتحويل الاقتصاد ووضع البلاد كمركز لوجستي وتجاري، يوفّر فرصاً كبيرة للنموّ الاقتصادي والتنمية. ومع ذلك؛ فقد أدّى تمويل هذه الإستراتيجية من خلال تراكم الديون إلى ضائقة ديون، الأمر الذي يشكل مخاطر كبيرة على اقتصاد البلد.
الصومال بدورها في القائمة الصينية
وفي الصومال أيضاً؛ أعلن بنك "Exim" الصيني، في ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 موافقته على إعطاء قرض بقيمة 200 مليون دولار لإعادة بناء ميناء مقديشو. مقابل ذلك؛ تمنح للبنك حقوق حصرية في الصيد على ساحل الصومال، وسيحتفظ بملكية جزئية للميناء حتى يتم سداد القرض بالكامل. واشتهر الساحل الصومالي بالقراصنة الذين عملوا على اختطاف السفن بشكل منتظم، وقد تغيّر هذا الآن، وأصبح الساحل الصومالي، الغنيّ بالثروة البحرية، عرضة لأنشطة الصيد الصينية غير المحدودة.ووفقاً للمبادرة الصينية لتعليق خدمة الدين، فإن الدين الصيني البالغ 83.9 مليون دولار أمريكي، يمثل أقل من أربعة في المائة من إجمالي الديون في الصومال، حيث أكبر الدائنين هم إيطاليا والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، وجميعهم دائنين للصومال. وهي دولة فقيرة مثقلة بالديون ولم تبدأ عملية تخفيف ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون إلا في مارس/آذار 2020
وفي أواخر السبعينيات، نفذ الصينيون وأكملوا ما كان يعتبر ثاني أكثر مشاريعهم طموحًا في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والمعروف باسم "الطريق الصومالي بين الشمال والجنوب". كما شاركت جمهورية الصين الشعبية في بناء المستشفيات والمصانع وقدمت قروضًا كبيرة للصومال.
حرب تجارية عالمية
ضمن سياق الحرب التجارية العالمية؛ ينظر الغرب إلى العلاقة الصينية الإفريقية الناشئة بنوع من الخوف والحذر؛ فأوروبا مثلاً ترى تأثيرها الاقتصادي يتراجع بشكل كبير في معظم البلدان الإفريقية، بعد أن كانت الشريك التجاري الأول في القارة لأعوام طويلة، قبل أن تبدأ دول القارة برفع تبادلاتها التجارية مع الصين.
تشير دراسة أجرتها "وكالة ماكنزي الأمريكية"، إلى أنّ أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حالياً في إفريقيا، وتتحدث بعض المصادر عن وجود 2500 شركة صينية في القارة، 90% منها شركات خاصة، فيما توقعت الدراسة نفسها أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من إفريقيا، بحلول عام 2025، إلى 440 مليار دولار؛ أي بزيادة قدرها 144%.
تحقيقا لمزيد من الأهداف السياسية؛ تركّز الصين في مشاريعها التنموية على المناطق التي يعيش فيها القادة الأفارقة، الذين تتهم حكوماتهم بالفساد، من أجل استغلال أوضاع هذه البلدان، وتجنّب الرقابة القضائية على نشاطاتها، والتدخل في الشؤون السياسية، وهي بسبب ذلك قد اتخذت من إرهاق الدول الإفريقية بالديون وسيلة لخلق آلية للحصول على النفط أو إدارة الموانئ والمطارات مقابل ضخّ الاستثمارات.
ما يثير القلق من حالة التوافق بين العملاق الصيني والقادة الأفارقة الغارقين في الفساد؛ أنّ هذا التعاون الاقتصادي بين الطرفين قد لا يخلو من غرض سياسي للصين في إفريقيا، مما يُهدّد آفاق التنمية المستقبلية فيها، فيما ترى الصين أنّ استغلالها للموارد الإفريقية، خاصة المعادن والطاقة، ما هو إلا استثمار اقتصادي لا تحصل عليه بالمجان، وإنما تدفع فاتورته من ضخّ أموالها في الدول الإفريقية على شكل قروض ومشاريع تنموية، إلا أنّ الصين تستفيد من حالة الفساد في القارة في توريط البلدان الإفريقية في عقود استثمارية ضخمة، وهو ما ينعكس سلباً على سيادة القارة، واقتصادها، واستقلالية مواردها، على المدى البعيد.