الخميس 21 نوفمبر 2024
يتحدث الخبراء عن أن "القارة الإفريقية هي مخزن المعادن البديلة لأزمة الطاقة التي تواجه الدول"، فتقرير صادر عن معهد حوكمة الموارد الطبيعية "NRGI" تحدث عن امتلاك القارة ما لا يقل عن 1/3 احتياطيات العالم من المعادن بالغة الأهمية لانتقال الطاقة، ما يجعلها ركيزة أساسية في التحول الطاقي عالميا.
في ذات السياق، أفادت دراسة للبنك الدولي بأن إنتاج الطاقة النظيفة اللازم لإبقاء التدفئة العالمية أقل من 2 درجات مئوية، بحلول منتصف القرن، يحتم زيادة في إنتاج الجرافيت والليثيوم والكوبالت لتبلغ 3,1 مليار طن، بحلول عام 2050، ما يمثل زيادة قدرها %450 عن مستويات عام 2020.
من الشمال إلى الجنوب، كما في الشرق والغرب والوسط، وحتى في الجزر، تحتضن القارة الافريقية احتياطيات هائلة من المعادن، فالتقديرات تفيد بأنها خزان عالمي لأكثر من 90٪ من البلاتين و80٪ من الكولتان و70٪ من التانتالوم و60٪ من الكوبالت، و46٪ من احتياطي الألماس و40٪ من احتياطي الذهب و12٪ من احتياطي البترول و8٪ من الغاز الطبيعي...
أهَّل ذلك عدة دول في افريقيا إلى صدارة قوائم الإنتاج والتصدير على الصعيد العالمي، فالمغرب مثلا يمتلك 70٪ من احتياطي الفوسفات في العالم، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية 70٪ من الكوبالت عالميا، وتتوفر جنوب افريقيا على نسب جد مهمة من المعادن؛ فلديها 46٪ من الإيثريوم و22٪ من المنغنيز و35٪ من الكروم.
قبل 10 سنوات، أطلق البنك الدولي بالتعاون مع الاتحاد الافريقي، مبادرة باسم "خريطة المليار دولار"، في إشارة لميزانية المسح الجيولوجي المعني بالاكتشافات، وذلك قصد رسم خريطة حديثة للموارد المعدنية الإفريقية، مستثمرين في ذلك مستجدات التكنولوجيا المتقدمة.
انتظر الأفارقة النتائج، بعد مرور خمس سنوات، وفقا البرنامج المعلن عنه. لكن الكشوفات تأجلت بدعوى جائحة كورونا، وهو ما لم يستسغه الكثيرون، ممن عادوا إلى النبش في الأرشيف الاستعماري لإحياء مصطلحات مثل: "الكنز المجهول" الذي استخدمه الجيولوجي الفرنسي مارسيل روبولت لوصف المعادن في مستعمرات فرنسا، و"الصيد المحروس" الوارد في تقارير البلجيكيين، للدلالة عن الموارد المخفية في مستعمراتهم الأفريقية.
بذلك، يبقى أحدث تحيين لخريطة المعادن في القارة، وثيقة 2008 "الموارد المعدنية والتنمية في افريقيا"، الصادرة في باريس عقب الأزمة المالية العالمية، التي رصدت نسب مئوية لما في أعماق القارة قياسا للاحتياطيات العالمية؛ %85 من البلاتين، و%80 من الكروم، و%75 من الفوسفاط الصخري، و%60 من الكوبالت، و%40 من الذهب، و%30 من البوكسيت...
عمد خبراء فرنسيون، في الآونة الأخيرة، إلى إعادة تصنيف المعادن، التي تعد عناصر محورية في مستقبل العالم، أربعة أصناف كبرى، فإلى جانب المعادن النفسية (غانا، السودان، مالي، بوركينافاسو)، هناك الأحجار الكريمة، مثل: الزمرد والياقوت والماس (مدغشقر، وافريقيا الوسطى، وناميبيا، وجنوب افريقيا)، والمعادن الصناعية كالبوكسيت والنحاس (غينيا، زيمبابوي، الكونغو)، ثم المعادن الاستراتيجية من قبيل: الكولتان والكوبالت والليثيوم التي تنعت بذهب القرن 21 لدورها في صناعة التكنولوجية المتقدمة.
كان البحث عن الثروات والموارد عاملا محورية، إلى جانب عوامل أخرى، في تكثيف الحملات الاستعمارية على البلدان الافريقية، فالقارة في أعين الأوروبيين لمن يدخلها أولا، وفي ذلك كتب، فيكتو هوغو؛ أديب التنوير الإنساني، يقول: "في القرن التاسع عشر، جعل الأبيض من الأسود إنسانا؛ في القرن العشرين، سوف تجعل أوروبا من إفريقيا عالما. إعادة إنشاء افريقيا جديدة، جعل افريقيا القديمة طيعة الانقياد إلى الحضارة، ذلك هو المشكل، وأوروبا سوف تحله".
منذ بزوغ فجر الثورة الصناعة بأوروبا، ساهمت افريقيا بالنصيب الأكبر من الموارد الطبيعية (الذهب والفضة والنحاس والحديد...) والبشرية (اليد العاملة)، من أجل بناء مجد أوروبا الصناعي والتجاري على مدار قرون. فكانت المستعمرات في افريقيا مستباحة أمام الامبراطوريات الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا واسبانيا وإيطاليا وهولاندا وبلجيكا...)، التي قسمت الدول كأنها بصدد تقسيم كعكة.
تتجه افريقيا لتكرار ذات السيناريو مع ثورة التصنيع التقني والتكنولوجي، فالكثير من هذه الابتكارات مرتبطة بجملة من المعادن لا تتوفر بكميات وافرة إلا في القارة الافريقية. فالمعادن الصناعية مثل الألومينيوم والنيكل والمنغنيز والكروم وغيرها أساسية في المخطط العالمي للتحول من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المنخفضة الكربون.
كثر الحديث مؤخرا عن معدن الليثيوم في القارة، الأساسي في صناعة البطاريات السوق العالمية الصاعدة، حيث يتوقع أن تقفز من 5,3 مليار دولار عام 2023 إلى 13,8 مليار دولار عام 2027. هكذا تحدث تقرير المسح الجيولوجي البريطاني لعام 2021 عن "موارد الليثيوم وقدرتها على دعم سلاسل توريد البطاريات في إفريقيا". من جهتها، هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي، أفادت بأن زيمبابوي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغانا وناميبيا ومالي لديها مجتمعة 4,38 مليون طن منه.
يتوقع خبراء وكالة الطاقة الدولية ارتفاع حدة المنافسة على المعادن الحيوية في أفريقيا، وزادت مخرجات قمم الدول الكبرى؛ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى الصين وروسيا ومرورا بالهند واليابان، وليس انتهاء بكوريا الجنوبية، مع بلدان القارة الإفريقية، تأكيدا لهذه التوقعات. فالمؤشرات تفيد بأن الطلب العالمي على النحاس سيترفع بنسبة %40، والنيكل والكوبالت بنسبة %60 حتى %70، فيما تبلغ النسبة لمعدن الليثيوم %90 بحلول عام 2040.
توقعات تنذر، بحسب مراقبين وخبراء، بعودة سيناريو "لعنة الموارد" إلى إفريقيا، فتزايد الطلب على المعادن، وحتى امتلاك احتياطات مهمة، لا يضمن استغلالها بنجاح، بل قد يأتي بمفعول عكسي، حيث تفتح الباب للاحتراب الداخلي. فقد كان الذهب سببا وراء حرب دارفور في السودان، عام 2013، بعدما اشتد الصراع على مناجم الذهب في جبل "عامر"، مخلفا 1000 ضحية وأكثر من 150 ألف نازح.
وحدث في الكونغو، وبالتحديد منطقة كيفو أو المعروفة ب"القرية العالمية" شرق البلاد، التي فقدت 6,4 مليون قتيل ما بين 1998 و2021. ولا تزال المعادن توقد النيران في الكونغو، وتحديدا في الشرق، حيث توجد أكثر من 100 جماعة مسلحة. الكونغو؛ هذا البلد الفقير عالميا، رغم كونه أغنى دولة في العالم من حيث الموارد، إذ قدرت دراسة لمؤسسة "Global EDGE" للدراسات المالية، قيمة الرواسب غير المستغلة من المعادن الخام في البلد بأكثر من 24 تريليون دولار أمريكي؛ ما يعادل الناتج الإجمالي الأميركي.
يمثل الصراع على المعادن في القارة صورة معبرة لظاهرة جيواقتصادية، تكشف التماس بين السياسية والاقتصاد في العالم، كما يشكل هذا التنافس، فرصة أمام الدول الإفريقية للعب على التناقضات بين القوى الكبرى، لجني لتعظيم المكاسب وجني الثمار.
وإن كاد يصبح، في الآونة الأخيرة، شكلا من أشكال الاستعمار الجديد للقارة الإفريقية، أو تكالبا ثالثا على إفريقيا. ألم يصرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل عقد من الآن، لوكالة الأنباء الروسية، بأنه "ليس من قبيل الصدفة اتجاهنا نحو افريقيا؛ فقد أصبحت بشكل متزايد قارة للفرص، وتمتلك موارد هائلة وجاذبية اقتصادية".