الجمعة 22 نوفمبر 2024
في عالم تتصاعد فيه التحديات الأمنية، تطغى أخبار ضحايا الصراعات المسلحة والحروب الأهلية على مجمل التغطية الإعلامية للأحداث العالمية، لكن قبل النشرة الإخبارية أو خلالها تتسرب أخبار عن ضحايا آخرين دون أن تكون المواجهات العنيفة سببا لهم، إنما يسقطون بسبب الأحوال الجوية المتقلبة، في حرب صامتة تحصد الأرواح، تغيب عنها التغطية اللازمة، رغم أنها جديرة بذلك.
لئن كان هذا التحدي المناخي عالميا، إلا إن تداعياته تتعاظم بإفريقيا، وترتفع فاتورة مواجهته بتقاطعه مع تداعيات الصراعات السياسية والنزاعات المسلحة والانقلابات العسكرية بالقارة، وتعتبر الشرق الإفريقي مثال صارخ على تعقد معضلة الأمن والاستقرار بجانب تحديات التغيرات المناخية المتفاقمة.
التحدي قادم وقائم
تشير دراسات برنامج الأمم المتحدة للبيئة واللجنة الدولية للتغير المناخي، بأن تغير المناخ الناجم عن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، هو نتيجة لزيادة تركيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، واختلال العلاقة بين الإنسان والطبيعة، كنتيجة لتأثير السلوك البشري (تصنيعا واستهلاكا واستنزافا للموارد الطبيعية) سلبا على النظام المناخي. فقد ساهم النشاط الصناعي المكثف، بزيادة غير طبيعية للغازات الدفيئة بالغلاف الجوي، ما انعكس سلبا على التوازن الطبيعي، وتغيرات متطرفة في الطقس.
في السياق ذاته، تصاعدت في السنوات الأخيرة النشرات التحذيرية والبيانات العلمية عن تحولات قادمة، تنبئ بتهديدات وجودية جديدة، متخطية حدود خط برانت، عنوانها الخطر الوشيك من ظواهر مناخية قاسية؛ كالمخاوف من فيضانات مفاجئة أو موجات جفاف خطيرة أو حرائق... تحديات تتوزع مُهددة نصف سكان العالم بحلول 2030، لكن بدرجات متفاوتة بين دول العالم؛ فصُنفت دول العالم الثالث (العالم النامي)، كأكبر متضرر من هذه التغيرات المناخية.
وعليه، تتعاظم بكل مناطق القارة السمراء، وليس الشرق الافريقي ببعيد عنها، وتجسدها تحذيرات من التقلبات المفاجئة للأحوال الجوية، وتعززها أرقام المراكز العلمية التي تدق ناقوس الإنذار عن تضاعف العواصف والأمطار والفيضانات المرتبطة بظاهرة النينو؛ فقبل سنوات سُجِلت مئات الضحايا وخسائر مادية بسبب السيول المفاجئة، وتكررت في السنة الماضية، ما ساهم بالإضافة لخسائرها في تعقيد الأوضاع الإنسانية؛ فقد وثقت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نزوح الألاف من اللاجئين والنازحين بسببها، قدرتهم بأكثر من 795 ألف شخص في الصومال، وأكثر من 40 ألف أسرة بأثيوبيا، وغيرهم في كينيا وعدد من المناطق الأخرى. تجددت في الأيام الأخيرة، مخلفة ضحايا وخسائر فادحة في البنية التحتية بكينيا وأوغندا وتنزانيا وبوروندي، وكل المؤشرات تنبئ باستفحالها سنة بعد أخرى.
هذه الظواهر المتطرفة، لا تعني بأن المنطقة تجاوزت تحدي الجفاف الشديد، فقد اعتبرت 2020 أطول وأشد فترة جفاف، منذ أكثر من 70 سنة، على أكثر من 20 مليون شخص، وعقدت مسار التحولات الإقليمية والدولية من وطأتها على الساكنة، لاسيما تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، لتتفاقم أزمة الأمن الغذائي بسبب نقص المواد الغذائية، وارتفاع أسعارها. ولئن ساهمت التوافقات العالمية في تجاوز بعدها السياسي، فإن تحدياتها الطبيعية لا تزال تتفاقم كل سنة، ليبدو أننا لم نعد أمام حرب صامتة، بل حرب حقيقية وعدو خفي، يقصف بعشوائية، ويدمر بلا انتقائية.
لقد تشابكت تحديات المناخ بهذه المناطق الاستوائية، ويٌرجح استمرار تواتر ظواهر المناخ المتطرفة في المستقبل، ما جعل دولها الأشد ضعفا عاجزة أمام تغير المناخ، وزاد استفحال الأزمات السياسية والاقتصادية وتصاعد الصراعات العنيفة بالمنطقة من تفاقمها، لتلخص بشكل عام انعدام الأمن الإنساني بالمنطقة، وتفاقم حالة عدم الاستقرار.
مواجهة التحدي بين العالمية والمحلية
أمام هذا الواقع المترابط، أضحى التحدي المناخي يتطلب أجوبة دولية جماعية، لذا بات مفهوم البيئة وتحدياتها يحضر بوثيرة أكثر، على طاولة النقاشات الصاخبة في السياسة العالمية، منذ نهاية القرن العشرين، حيث برزت أهمية الأمن البيئي ومحورية التصدي للتهديدات الإيكولوجية. شكل تنظيم "المؤتمر الدولي حول البيئة البشرية" في ستوكهولم، في يونيو/ حزيران 1972، إلى جانب مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية المنعقد بريو دي جانيرو، في يونيو/ حزيران 1992، أبرز المحطات التي سعت لإقرار سياسات عالمية مشتركة في المجال البيئي. كان أساسها محورية ربط البيئة والتنمية المستدامة، وتواصلت المؤتمرات الدولية لمقاربة الموضوع عبر محادثات دولية مكثفة، تُوّجت بالمصادقة على اتفاق باريس عام 2015، كإطار للعمل الدولي لمقاربة مختلف التحديات البيئية.
في كل حرب ترسم قواعد الاشتباك، وفي "الحرب ضد التغيرات المناخية" لا قواعد تُرسم؛ مجرد خطط تكتيكية، بينما التحديات المناخية في تعقد مستمر. يمكن تشبيه الأمر بحرب شاملة (برية وبحرية وجوية)، كناية عن المؤشرات الدالة على ارتفاع مستوى التغيرات المناخية، بمختلف النظم البيئية (الأرضية والبحرية والجوية). شمولية التحدي تستلزم مجابهة شاملة، أقلها أن تستنفر الدول كل قواها من أجل البقاء، لكن يتأكد أن التحرك العالمي العملي لا يزال ضعيفا، كما لا يتناسب إطلاقا مع حجم الشعارات المرفوعة، وإن كان مستواها عاليا بالقارة السمراء، جسَّدته الشعارات الأممية لتحقيق افريقيا مزدهرة وقادرة على الصمود في وجه التغيرات المناخية.
إن تقييم هذه المواجهة يؤكد حجم حصيلتها الهزيلة، ما يجعل أي تعويل على التحرك العالمي فادح الخسائر، ليبقى الرهان على التحركات الإقليمية، فبمقدورها أن تساهم في تدارك الفرص الضائعة. بهذا، قد يبدو مبررا حجم التطلعات المرتقبة من مقاربة الاتحاد الإفريقي، لاسيما في أعقاب أول قمة افريقية حول المناخ بنيروبي في الفترة من 4 إلى 6 سبتمبر/أيلول 2023، وإعلانها العمل بشكل عاجل لخفض الانبعاثات تتويجا لتحركات المنظمة، منذ سنوات؛ بأبعاد استراتيجية وبخطط تنموية وبرامج الهيكلية وشراكات عالمية، والتي تبدو رغم ذلك محدودة، وللمفارقة، تتقاطع مع محدودية مساهمة القارة في ظاهرة الاحتباس الحراري، بأقل من 4% من الانبعاثات العالمية!
وفي الشرق الافريقي، تحظر الهيئة الحكومية للتنمية المعروفة "IGAD" باعتبارها مقاربة جماعية سباقة بالمنطقة، كانت بدايتها التصدي للتحديات التنموية ومحاربة الجفاف، بعد مراجعة ميثاقها عام 1996، ثم ارتقت رؤيتها لتعزيز الأمن الغذائي ودعم التنمية وإدارة تغير المناخ والسلام والأمن. لكنها انحرفت لسياقات الأمن الصلب، بمحاولات لتسوية السلمية وحل النزاعات الإقليمية كمحاولتها المحدودة في الأزمة السودانية. إلى جانبها، تحاول مجموعة دول شرق افريقيا "EAC" الرهان على التكامل الاقتصادي كرؤية لمنطقة مزدهرة، مستقرة وآمنة، يؤكده الترحيب بانضمام الصومال، وإن تراجعت فعالية تحركات قوتها الاحتياطية "EASF" للتصدي للتهديدات الأمنية، كما تبقى محدودة في توجيه بوصلتها لمواجهة التحدي المناخي.
بين هذا وذاك، تبقى أسئلة عديدة عالقة يتطلب الوقوف عندها، لعل أبرزها مدى قدرة دول المنطقة؛ فردية وجماعية، التصدي لهذه التحديات أمام محدودة المقاربة العالمية لواقع التغيرات المناخية، وتفاقم معضلتها؟
التكيف والقدرة على الصمود
تتحدد عند هذه المستويات معالم معادلة معضلة البيئة المعقدة، فالإنكار لا يجدي أمام الوقائع، والتصدي الجماعي محدود والعواقب تتعاظم، و"تكلفة" هذه الحرب عالية التكلفة، وككل حرب تقتضي قواعد الاشتباك إعادة بناء الخطط العسكرية، عقب كل معركة رابحة أو خاسرة على حد سواء. وفي خضم هذه الحرب الصامتة، يبدو أن الجميع مطالب في البداية باستحضار أهمية الخنادق والسواتر الترابية في الحروب، لحماية الجنود وتعزيز الخطط الدفاعية، كما تأكد منذ الحرب العالمية الأولى. كما يبدو أن تعزيز التكيف سيشكل أولى الخنادق في الحرب مع التحديات المناخية، فالرهان في الأخير هو التخفيف والتكييف مع التغيرات المناخية لاستحالة توقيفها، بإجراءات لتقليل الانبعاثات، وحتى تغيير السياسات، بهدف المرونة مع آثار التغيرات.
يرتبط مبدأ التكيف مع بناء القدرة على الصمود والتعافي سريعا من آثار الكوارث والأزمات المتكررة، وإن بدا أن البلدان والمناطق الأكثر عرضة للتغيرات هي الأقل قدرة على التكيف، كما يتضح ميدانيا من خلال بطء مسلسل التمويلات. ما يجعل منطقة شرق إفريقيا، حسب مؤشر ND-GAIN لاستعداد الدول لمواجهة تغير المناخ، من الدول الأكثر ضعفا أمام هذه التغيرات، والأضعف استعدادا للصمود والتكيف، نتيجة محدودية التمويلات الدولية في المجال، بالرغم من تفعيل الصندوق العالمي للمناخ في قمة دبي للمناخ 2023، والتعهد بمضاعفة التمويلات لدعم الدول النامية.
هكذا، يفتح تحدي تمويل التكيف والصمود إشكالات أخرى في منطقة هشة، كالشرق الإفريقي ذات الاقتصاديات المحدودة، التي تحذق بها الأزمات السياسية والاجتماعية فضلا عن التحديات الإقليمية. إن حاجة دوله إلى التمويلات لدعم بنيتها التحتية للصمود، وابتكار حلول للتكيف مع التغيرات المناخية، تؤكده المطالب الجماعية في إعلان نيروبي للقمة الإفريقية كدعوة لتعبئة المزيد من رؤوس الأموال للتنمية والعمل المناخي، وإعادة هيكلة ديون افريقيا. كما يقتضي استثمار آليات محلية، تجسدها عدة مبادرات كمحاولات بنك التنمية الإفريقي وصناديق الاستثمار في افريقيا إطلاق مبادرات إقليمية محلية، للمساهمة في مكافحة تغير المناخ، وكمثال عنها مبادرة عملية الانتقال العادل على أساس مشاورات للتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، ومقاوم للمناخ في المنطقة، استطاعت تمويل أكثر من 400 مشروع في 72 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل.
في الحروب تلعب الخنادق والأسوار أدوارا محورية، إلا أنها قد تنقلب تحديا؛ لاسيما في فصل الشتاء، حيث تتحول إلى مجرد حفر عميقة محبطة لصلابة الجنود أو مقابر لهم، ولكي لا تتحول الخطط العالمية للتكيف إلى ذلك، يَعِد صندوق المناخ الأخضر كآلية لمساعدة البلدان النامية في الاستجابة والصمود والتكييف، بدعم المشاريع والسياسات بهذه البلدان، على غرار مساهمة عدة دول بتمويلات، من بينها تعهد الولايات المتحدة بثلاثة مليارات دولار من العام 2024 حتى 2027.
لكن تُطرح تحديات أخرى وتفتح معارك جانبية، كالمعارك التمويلية، فتنهك الجيوش وتؤخر موعد الحسم والانتصار، وتتعقد مساراتها بعد أن أضحت محل مزايدات دولية، كما أن ما يُقدم من استثمارات وتعهدات ما يزال أقل من المطلوب، لتتطلب طرق جديدة ومبتكرة لتمويل إجراءات التكييف ودعم الصمود والاستدامة، غير أن تفعيل ذلك يبقى بلا إجابات كافية وبرامج محددة. لذلك، يصعب الحديث عن مستقبل لهذه السياسات المناخية التكيفية وحدود القدرة والصمود، مادام المال هو المحدد لها.
في النهاية، يبقى من المؤكد صعوبة التأثير على صناعة القرار السياسي في مفوضات المناخ المتعدد الأطراف للتصدي للظاهرة، ليكمن الحل في المجتمعات المحلية والشعوب الأصلية، كأولى جبهات الصمود والتكيف. هذا الأمر يتنامى ببعض المناطق كأمريكا اللاتينية وغيرها، ويبدو أن شرق افريقيا تحتاج بدورها لهذا الأمر. ودون ذلك، الرهان على الآليات الرسمية سيكلف الكثير، فكل حرب تأثيراتها تكون طويلة، والتصدي لها يبدأ بعد وقف إطلاق النار. مؤكد كذلك أن القضايا المناخية لا تحتمل التأخير، لكن يبقى الأمل، وبه يمكن تحقيق النصر، وكل تحرك مهما كان محدودا يكفل الانتصار في هذه الحرب الصامتة.