الجمعة 22 نوفمبر 2024
علاقة الصوماليين مع إثيوبيا معقدة؛ ومذكرة التفاهم أثارت مخاوف تاريخية بشأن علاقتهم مع جارتهم الكبرى
كانت الابتسامات تملأ أديس أبابا في يوم رأس السنة الجديدة عندما خرج رئيس صوماليلاند موسى بيحي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد بعد لقاء ثنائي، وجلس الزعيمان قبل أن يعلنا عن اتفاقهما على مذكرة تفاهم تضعهما على مسارٍ يحقق تطلعاتهما الوطنية. تطرَّق موسى بيحي للتفاصيل القليلة التي نعرفها حتى الآن؛ وقال إن إثيوبيا ستستأجر قاعدة بحرية على خليج عدن، وأن صوماليلاند ستتخذ أول خطوة كبيرة في سعيها لإقامة دولة مع اعتراف إثيوبيا باستقلالها عن الصومال. وأثناء ترحيبه بالاتفاق؛ قال آبي أحمد لحشد من المسؤولين من كلا الجانبين: "هذه هي الأخبار الجيدة التي نحملها لشعبي إثيوبيا وصوماليلاند وجميع الأشخاص المحبين للسلام والتنمية في أول أيام هذا العام الجديد".
على الرغم من عدم إعلان التفاصيل الكاملة للمذكرة؛ إلا أن البيانات التي صدرت في وقت لاحق تفيد بأن صوماليلاند وافقت على استئجار إثيوبيا لمنفذ بحري طوله 20 كيلومترا لإقامة قاعدة بحرية، وفي المقابل ستحصل هرجيسا على حصة من الخطوط الجوية الإثيوبية التي تُعتبر شركة الطيران الرئيسة كثيرة الأرباح في إثيوبيا. وأضاف بيحي أيضا أن إثيوبيا "ستصبح أول دولة تعترف بصوماليلاند"، وهو ما سيؤدي - في حال تحققه على أرض الواقع - إلى خسارة الصومال لما يقارب من ثلث أراضيها. وقد وصف مسؤولون في مقديشو عقد الإيجار هذا بأنه "استلحاق وضمّ" لسبب ربما يتعلق بإشارة إثيوبيا إلى أن العقد سيكون عقدا "دائما"، في حين ذكرت صوماليلاند أنه سيستمر لمدة 50 عاما فقط. وأشادت وزارة الإعلام في صوماليلاند بالاتفاق ووصفته بأنه "يغير وسائل اللعبة"، كما وصفته وزارة الخارجية في صوماليلاند بأنه "إنجاز دبلوماسي مهم"، وفي إثيوبيا صرَّح وزير الريِّ بيرهانو لينجيسو في حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي: "الاعتراف عملة ثمينة"، وكان هناك ابتهاج على الجانبين حيث خرج الناس إلى شوارع أديس بابا وهرجيسا للاحتفال.
ولكن كانت هناك عاصفة في مقديشو - عاصمة الصومال - تهدد بنسف الاتفاق الوليد وإرغام إثيوبيا في نهاية المطاف على التراجع عن خطابها. في ذلك المساء؛ قالت الصومال إنها ستعقد اجتماعا طارئا لحكومتها وجلسة مشتركة مع البرلمان. وبحلول صباح اليوم التالي؛ أعلنت الحكومة الصومالية رفضها لصفقة الميناء ووصفتها بأنها "لاغية وباطلة"، وصرَّحت بأن ما حدث هو عمل "عدواني" من جانب إثيوبيا، وبدأت في استنفاد جميع القنوات الدبلوماسية للحصول على الدعم من شركائها. وقال أحد الدبلوماسيين من المنطقة لچيسكا: "إن لاحتجاج الصوماليين دويٌّ ضخم في كل مكان". وفي حين أصدرت الهيئة الإقليمية لشرق إفريقيا (إيغاد) بيانا هزيلا يوازن بين مصالح مختلف أعضائها، وأعرب كل من الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية عن دعمهما لسلامة أراضي الصومال، محذرين من أية محاولة متهورة لتغيير الحدود. كما حذت حذوهما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتان حذرتا من أن الصفقة ستعزز حركة الشباب، وبذلك أظهرت عدم قدرتهما على رؤية أية قضية في إفريقيا خارج العدسة الأمنية.
وقد أدَّى الاتفاق - الذي ليس ملزما قانونيا حتى الآن لأي من الجانبين - إلى تأجيج التوترات في جميع أنحاء القرن الأفريقي، ونتج عنه انقسام الجماهير في الصومال وصوماليلاند وإثيوبيا. وتجسد ذلك بشكل كبير خلال مقابلة متلفزة تعرض أثناءها رجل كان يدافع عن الاتفاق لهجوم على الهواء مباشرة، مما يكشف عن الطابع السطحي للتقارب الدبلوماسي بين الإثيوبيين والصوماليين. تاريخ الصومال مع إثيوبيا يشوبه نوبات متكررة من الصراع العسكري. فمن جهة؛ يتهم الصوماليون في كثير من الأحيان جارتهم الكبرى بأنها تُخفي مخططاتها الإمبريالية لإخضاع بلادهم في محاولتها للوصول إلى منفذ بحري؛ ومن جهة أخرى؛ تخشى إثيوبيا أطماع الصومال الوحدوية في شرق البلاد الذي يسكنه الصوماليون.
كان رد فعل مقديشو عنيفا بصورة ساهمت في ارتفاع حدة العواطف القومية الصومالية في جميع أنحاء القرن الأفريقي؛ بل وأدت لاحقا لخسارة موسى بيحي لأحد قادة حكومته. فأثناء استقالته من منصبه احتجاجا على الاتفاق؛ أشار وزير دفاع صوماليلاند عبد الغني محمد عطية إلى ما أسماه احتلال إثيوبيا للأراضي الصومالية. وأضاف عطية في مقابلة مع قناة Horyaal TV: “العدو الأول الذي ابتلى الله به الشعب الصومالي في القرن الأفريقي هو إثيوبيا. وكل صومالي يدرك ذلك سواءً كان صغيرا أو كبيـرا”. وفي خطاب ألقاه عقب صلاة الجمعة؛ أشار الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود - بطريقة تستحضر شبح الغزو العسكري عام 1977 - إلى أن حدود الصومال على امتداد المحور الشمالي الجنوبي مع إثيوبيا لم تعرف الاستقرار، حتى أن أحد مستشاري الرئيس حذر من أن الحرب كادت أن تكون قاب قوسين أو أدنى في مقابلة مع صحيفة الغارديان.
قليل من المحللين يأخذون هذا الأمر على محمل الجد؛ فالتهديد بالحرب الصومالية أشبه ما يكون بتحذير رجل مجنون يهدد بإطلاق النار على نفسه إذا لم يستجب محاوروه لطلبه. وبالنظر لمناورة حركة الشباب لاستغلال الوضع؛ فإنه لم يعد أمام الرئيس حسن شيخ محمود خيارات كثيرة. فقد دعا علي محمود راجي "ديري" الصوماليين إلى "النهوض دفاعا عن وطنهم"، وكما أشار بحق وزير الدولة الصومالي حيرسي في مقال نُشر مؤخرا في صحيفة شرق أفريقيا؛ فإن "حركة الشباب بدأت بالفعل في التلاعب بالمشهد الحالي وهي تستعد لتجنيد الشباب باسم الدين والوطنية الصومالية". ما تفعله إثيوبيا يقوض جهودها التعاونية مع قوات الأمن الصومالية لتخليص جارتها من حركة الشباب؛ المنظمة التي ينبغي التشديد على أنها تشكل أيضا تهديدا لأديس أبابا.
من المحتمل أن آبي أحمد يراهن على أن وجود حركة الشباب يرجع جزئيا إلى وجود القوات الإثيوبية في الصومال في المقام الأول - كما ألمح نائب رئيس الوزراء الصومالي نفسه مؤخرا - وأن سحبهم لن يؤدي إلا إلى تشجيع المنظمة على مهاجمة الأراضي الإثيوبية، لذا فتهديدات حركة الشباب لن تُحدث فرقا على أية حال. وخلافا لادعاءات المسؤولين الصوماليين؛ فإن هزيمة حركة الشباب ليست وشيكة وسوف تقاتلها إثيوبيا في المستقبل المنظور مهما حدث، ويمكن لإثيوبيا استغلال الانقسامات الصومالية والسلوك القتالي لصالح مشروع منفذها البحري. آبي أحمد هو تاجر الفوضى؛ ولن يُصاب بالأرق بسبب الصراع المتصاعد في الصومال، كما أن إثيوبيا لا تشعر بالانزعاج إزاء دعوة الصومال حلفاءها في أنقرة والقاهرة إلى دعمها؛ أعظم قوتين رائدتين في الشرق الأوسط. كلاهما وعدا بأنهما سيقفان إلى جانب الصومال لدرجة توقيع تركيا لاتفاقية دفاع، وبعد وقت قصير من توقيع الاتفاقية قام وزير الدفاع الصومالي عبدالقادر محمد نور بالتقاط صورة مع الأخوين هالوك وسلجوق - مخترعي طائرات الدرونز التركية الشهيرة "البيـراقدار" - في رسالة مبطنة إلى آبي أحمد.
لكن المخاطر أعلى في صوماليلاند. ومن باب الإنصاف لموسى بيحي؛ فإن فترة حكمه جاءت في حقبة صعبة بعد توليه لمنصبه في هرجيسا. نضج جيل من سكان صوماليلاند وهو يغذي الآمال بمشروع الاستقلال الوشيك الذي لم يخرج إلى النور؛ فقد دخل المشروع في غياهب معارك السياسة الحزبية في الولايات المتحدة، معزِّزا علاقاته مع الجمهوريين المتطرفين على حساب العلاقة مع الديمقراطيين، الانحياز إلى أحد الجانبين في الأزمة الخليجية والحرب الباردة التي خاضتها الولايات المتحدة مع الصين خلق لهرجيسا أعداء أقوياء بلا داع أو ضرورة، فضلا عن جائحة كوفيد التي أوقفت الحياة مؤقتا وقوضت الناتج الاقتصادي العالمي، وكذلك سوء إدارة بيحي للصراع في لاس عانود الذي أدى لخسارة بلاده ما يقرب من ثلث أراضيها. سِجِلُّ أداء موسى بيحي ليس مبهرا بالنظر إلى المعايير التي وضعها أسلافه الذين قطعوا خطوات كبيرة قبل أن يقوموا بتسليم المسؤولية له، فالرجل ليس لديه الكثير ليقدمه خلال فترة ولايته باستثناء تطوير ميناء بربرة، ولا يبدو راضيا عن كونه الرئيس الذي حافظ على ثبات القارب في بحار مضطربة. لم يخرج السودان ولا إثيوبيا من عهد ترامب في وضع أفضل؛ فقد انهار أحدهما وخاض الآخر سلسلة من الحروب ضد شعبه، وتعزيز المكاسب الحالية التي حققتها صوماليلاند كانت ستُعتبر إنجازا عظيما لو أن بيحي مارس التفكير من منظور تاريخي أوسع.
قد يُنظر إلى قرار موسى بيحي بالتوقيع على هذه المذكرة على أنه المعادل الجيوسياسي لتسديدة هدف الفوز في لحظات الضغط العالي التي اشتهر بها ستيف كاري هداف الدوري الأمريكي لكرة السلة للمحترفين، ولكن على عكس كاري، ربما أخطأ هذا القرار إصابة الهدف إلى حد بعيد. مرَّ عامان على ولايته، ومع تزايد الضغوط من أجل إجراء انتخابات فمن غير المرجح أن يتذكر سكان صوماليلاند فترة ولايته باعتزاز إذ لم تتحقق توقعاتهم بشأن التقدم في ملف الاستقلال. وقد أثار قراره أيضا معارضة محلية واسعة النطاق هي الأولى من نوعها في جمهورية تتمتع بسلام نسبي وولاء المجتمعات الخاضعة لسيطرتها، واندلعت احتجاجات كبيرة بعد أسبوع من الاتفاق في بوراما مع انتشار شائعات - غذَّاها جزئيا مسؤولون صوماليون - مفادها أنه سيتم تسليم ممر بري إلى إثيوبيا يربط الساحل بحدودها. وقد أعربت مجموعة من السياسيين في مجلس الحكماء في صوماليلاند عن معارضتهم للصفقة، مما أدى إلى تقويضها بشكل أكبر. وفي بيان مشترك قرأه نور عمر ريالي، قال شيوخ منطقة أوْذال: "إن الناس في منطقتي أوْذال وصالال لا يقبلون منح إثيوبيا منفذا بحريا أو ممرا بريا" في صوماليلاند.
لكن الخطر الأكبر هنا هو تراجع إثيوبيا عن الجانب الأكثر أهمية في هذه الصفقة وهو الاعتراف باستقلال جمهورية صوماليلاند، فقد ألمح المسؤولون الإثيوبيون إلى دعمهم للاعتراف لكن لم يصرح أي مسؤول كبيـر علنا بذلك. أكثر ما رأيناه هو ما نشره ميسغانو أرجا مواش - وزير الدولة للشؤون الخارجية الإثيوبي - في حسابه على منصة إكس (تويتر سابقا)، حيث قال إنه "يرحب" ببيان صوماليلاند الذي يزعم أن إثيوبيا ضمنت الاعتراف الدولي. وقد أوضح وزير خارجية صوماليلاند عيسى كايد التداعيات الخطيرة التي تواجه إثيوبيا في حال عدم تلبية مطلبها الرئيس، محذرا آبي أحمد من أنه "لن يحدث شيء" بدون الاعتراف بالاستقلال.
كما هو الحال مع جميع رميات كرة السلة التي تسبق اللحظة الأخيرة لانطلاق صافرة نهاية المباراة؛ حيث إما أن تسقط الكرة في شباك الخصم وتستمتع بمجد انتزاع النصر من بين فكي الهزيمة أو تخاطر بإثارة غضب زملائك في الفريق الذين ربما كانوا يحبذون أسلوبا آخر قد يسمح برمية أفضل؛ فإن هذا هو حال بيحي. إذا نجح فإنه سيكون قد قدم أكبر مساهمة في انتشال صوماليلاند من عزلتها الدولية - وهو الإنجاز الذي سيعزز مكانته في تاريخ جمهورية صوماليلاند والمنطقة - ولكن إذا فشل فسوف تتفاقم الانقسامات المتنامية في صوماليلاند بشأن مستقبلها وبصورة قد تشجع الميل التوسعي للقوة الأعظم في القرن الأفريقي. وكما حذر نور الدين فارح في مقالته البديعة عن الطريق إلى البحر؛ فإن "اللاعبين على الساحة السياسية في شبه الجزيرة الصومالية قد يكونون مختلفين، لكن ذلك لن يحول دون استمرار إثيوبيا في المطالبة بالوصول إلى الساحل بطريقة أو بأخرى".