الجمعة 22 نوفمبر 2024
شهدت جنوب افريقيا في 29 ماي/ أيار الماضي، انتخابات تشريعية منذ نهاية زمن الفصل العنصري، شارك فيها 28 مليون ناخب مسجلين في القوائم من بين السكان البالغ عددهم 62 مليون نسمة. وذلك لاختيار 400 عضو في الجمعية الوطنية (البرلمان)، و430 عضوا في الهيئات التشريعية لدى الأقاليم التسعة للبلاد، في سابع محطة انتخابية مفصلية في تاريخ البلاد، بحسب مراقبين للأوضاع في بيرتوريا.
عرفت هذه الانتخابات مشاركة قياسية، بدخول 70 حزب سياسي و11 مرشحا مستقلا، يسمح لها بالمشاركة لأول مرة في تاريخ البلاد، بعد توقيع الرئيس سيريل رامافوزا على قانون يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات العامة، في حدود 200 مقعد فقط. واتسمت كذلك بتسجيل أدنى مشاركة في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية، والتي كانت عند عتبة 58,63٪، ما يشكل تراجعا بنسبة 7٪ عن انتخابات عام 2019، حيث بلغت النسبة 66٪، وقرابة 15٪ عن استحقاقات 2014 (73٪).
أثبتت صناديق الاقتراع توقعات المراقبين، فالنتائج النهائية التي أعلنتها لجنة الانتخابات، كشفت فقدان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم للأغلبية في البرلمان، لأول مرة منذ 30 عاما، بعد تراجع حزب الزعيم نيلسون مانديلا بنسبة 17,5٪، فقد اكتفى 40٪ من مجموع الأصوات عوضا عن 57,5٪ التي حازها في انتخابات عام 2019. بهذه النتيجة يفقد الحزب 71 مقعدا في البرلمان، حيث تراجع إلى 159 مقعدا فقط بعدما كان يشغل، في آخر استحقاق، 230 مقعدا في البرلمان.
تقهقر منح الأحزاب المنافسة فرصة تعزيز موقعها في المشهد السياسي من الخزان الانتخابي لحزب المؤتمر، فحصد التحالف الديمقراطي؛ أكبر أحزاب المعارضة، 21,72٪ من الأصوات؛ ما يعادل 87 مقعدا في البرلمان. وجاء "رمح الأمة"؛ الحزب الفتي في الساحة السياسة، بقيادة الرئيس السابق جاكوب زوما، في المركز الثالث، بنسبة 14,83٪، بمجموع 58 مقعدا في البرلمان. وتمكن حزب "المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية" من ضمان 39 مقعدا بكسبه 9,52٪ من إجمالي أصوات الناخبين.
تدشن جنوب افريقيا، بهذه النتائج، منعطفا آخر في مسارها السياسي، فهذه المحطة الانتخابية حسب زعيم حزب التحالف الديمقراطي؛ جون ستاينهاوزن، كانت "السبيل لإنقاذ جنوب افريقيا بكسر أغلبية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي". زعيم "المناضلين من أجل الحربة الاقتصادية؛ جوليوس ماليما، من جهته، اعتبرها لحظة مفصلية في تاريخ البلاد "أنهت أحقية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في أن يكون الحزب الوحيد المهمين في الساحة".
حزب المؤتمر الوطني الحاكم تلقى النتيجة بكثير من الارتياب، بعدما أدرك أنه مجبر على تقاسم السلطة، فلا سبيل لضمان الاستمرار في الحكم سوى تشكيل حكومة ائتلافية في جنوب افريقيا. ما جعل ماروبين راموكجوبا؛ أحد كبار المسؤولين في الحزب، يقول: "أنا فعلا مصدوم. لقد فتح ما حدث أعيننا لنقول، أنظروا، نحن نفقد شيئا ما، في مكان ما".
تفاوتت القراءات حيال التغيير الطارئ على الخارطة السياسية في البلاد، فرأي يربطها بموقف حزب المؤتمر الجريء من الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث تقدم بشكوى ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، متهما إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة. مثلت هذه الانتخابات، حسب هؤلاء، اللحظة المثالية لمعاقبة الحزب على موقفه ضد إسرائيل، بدعم الدول الغربية لأحزاب المعارضة ضد الحزب الحاكم، وتحريض المنابر الإعلامية ضده بعنواين منحازة لتوجيه الناخبين، من قبيل: "على أعتاب تغيير سياسي" و"لقد تكلم الشعب"...
يذهب أصحاب الرأي الثاني، إلى أن تأثير السياق الدولي ضعيف جدا، فما جرى يكتسي طابعا قاريا، إذ سبق دول إفريقية عدة جنوب إفريقيا إليه، فتراجع نسبة تأييد حركات التحرر في افريقيا بات ظاهرة عامة في القارة. ففي ناميبيا؛ جارتها في الجنوب والشرق، تراجع الدعم الشعبي لحزب سوابو (المنظمة الشعبة لجنوب غرب افريقيا) الذي يقود البلاد منذ الاستقلال عام 1990. كما تقلص تأييد حزب زانو الجبهة الوطنية في الزيمبابوي، رغم تجديد قيادته بتنحية الزعيم التاريخي روبير موغابي، فالتجديد للرئيس إيمرسون منانغاغوا لولاية ثانية في رئاسيات أغسطس/ آب الماضي، لم يتعد نسبة 52,6٪ من مجموع الأصوات.
واعتبر آخرون أن هذا التراجع وثيق الصلة بتقلبات الأوضاع داخل البلد، ما أجج السخط الشعبي المتنامي ضد الحزب، فنسبة تأييده في آخر انتخابات محلية بجنوب افريقيا، عام 2021، لم تتجاوز 46٪ وطنيا. بذلك تكون هذه النتائج، مجرد تأكيد لاتساع دائرة التذمر من تدبير الحزب الحاكم، فثاني قوة اقتصادية في القارة تسجل واحدا من أعلى معدلات البطالة في العالم، فقد بلغت، خلال سنوات حكم رامافوزا، نسبة 32,9٪ من إجمالي عدد السكان.
وبالموازاة مع ذلك، ارتفعت نسب الجريمة بشكل غير مسبوق في البلد، وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 8800 دولار عام 2012 إلى 6190 دولار عام 2023، ليعود بذلك إلى ما كان عليه عام 2005. ناهيك عن اعتماد 47٪ من السكان على الرعاية الاجتماعية المقدمة من الدولة، كل هذا دفع شريحة واسعة من الناخبين إلى الإحجام عن تأييد الحزب، بالتصويب لأحزاب أخرى أو الامتناع عن التصويت، بسبب الفشل الذريع في تحقيق أهدافه.
يتجه المشهد السياسي في جنوب افريقيا نحو التعقيد، فحزب نيلسون مانديلا مقبل على تقاسم السلطة، في خطوة غير مألوفة بالنسبة له، ما يعقد معادلة الحكم في البلاد بفرض المزيد من الحسابات والتسويات، وحتى التنازلات، مع شركائه في الائتلاف الحكومي. وزاد تصريح زعيم المؤتمر الوطني؛ سيريل رامافوزا، عزمه التوجه نحو تشكل حكومة وحدة وطنية، عقب لقاء الأحزاب السياسية، الصورة غموضا والتباسا. فمشاركة الأطياف السياسية بتلويناتها المختلفة في الحكومة، مغامرة غير مسحوبة العواقب، لأنها إعلان عن السير بلا بوصلة مرجعية، لتضارب مواقف الأحزاب المشاركة في العديد من القضايا داخليا وخارجية؛ بدءا من سياسة الدعم الاجتماعي وانتهاء بالقضية الفلسطينية.