الأربعاء 20 نوفمبر 2024
لا يستقيم الحديث عن الأدب الإفريقي دون الحديث عن أدباء أفارقة، فهما وجهان لعملة واحدة، فمسيرة هذا الأدب في سيرة أدباء هذه القارة، رغم السجال الكبير حول ماهية الأدب الأفريقي؟ أ هو كل متن كتب عن افريقيا بصرف النظر عن جنسية كاتبه ولغة كتابته أم أن شرط الانتماء لهذه الرقعة الجغرافية ضروري، لتنحصر بذلك الدائرة على أبناء وبنات القارة الإفريقية دون غيرهم.
شرط الانتماء للقارة لوحده غير كاف، بل لا بد من العيش داخل القارة حتى يتحقق الوصف كاملا. فالكتابة عن افريقيا، بحسب هؤلاء، لا تكون إلا باستيفاء شرط المعاشرة والمعايشة، وما يعقب ذلك من مشكلات عادة ما لا تواجه سوى الكتاب الأفارقة، فلكي "تكون كاتبا في افريقيا، فإن ذلك يتضمن التغلب على تحديات كثيرة، والتحايل على عقبات نادرا ما يصادفها الكتاب في الغرب".
عن مختلف العقبات التي لا يعرف عنها أدباء الغرب شيئا، يحدثنا الأكاديمي الأمريكي تشارلز ريموند لارسون، المختص في دراسة الأدب الإفريقي، في كتابه "محنة الكاتب الإفريقي"، بأسلوب سردي ممتع في أربعة فصول، أشبه برحلة ترصد بواكير تشكل الأدب الإفريقي. أحيانا يتعدى السرد نحو الاشتباك مع قضايا الأدب الافريقي، بأسلوب دفاعي عن أدب افريقيا، معترضا على الأحكام النقدية لبعض القراء من غير الأفارقة، ممن يجهلون مقصد الكاتب، أو لا يعرفون شيئا عن أحوال الكتابة والنشر ومعاناة الكتاب في افريقيا.
اللغة سؤال الأدب الافريقي المؤرق
يعترض المؤلف عن الأصوات القائلة بأن "الرواية شكل أدبي مستورد، ولم يكن له وجود في التراث الإفريقي، فالأدب الإفريقي الحقيقي هو الأدب الشفاهي". كما يقلل من السجال المحتدم حول لغة الكتابة، معتبر أن "السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان الأفارقة يستطيعون الكتابة بالإنجليزية، وإنما ما إذا كان ينبغي عليهم ذلك، هل من الصواب أن يهجر المرء لغته الأم، ويتجه إلى لغة أخرى؟ الأمر أقرب إلى الخيانة العظمى، كما يولد شعورا بالذنب".
في المقابل، يُذكِر المؤلف بتجربة شعراء الزنوجة، ممن كانوا يدرسون في فرنسا، في ثلاثينيات القرن الماضي، الذين اختاروا الكتابة باللغة الفرنسية. طارحا السؤال حول دواعي هذا الاختيار؛ هل يوجهون أعمالهم إلى أقرانهم في الوطن – في القارة – أم إلى عموم الأوروبيين، آملا في أن تكون قصائدهم وخطابهم الشعري سببا في التعجيل باستقلال بلدانهم. قد يكون هؤلاء على دراية بهذه المسألة، فكانت نصوصهم محبوكة لاستهداف الجبهتين معا، ما يثير سؤالا حول إمكانية الكتابة لجمهورين متناقضين؟
هكذا يكون الاعتقاد السائد، على مدى خمسين عاما تقريبا، لدى عدد من الكتاب والنقاد، بأن العمل الأدبي الإفريقي لا يعتبر كذلك ما لم يكتب بإحدى اللغات الإفريقية، وإسنادا إليه اعتبر تيار رائعة "شريب نبيذ النخيل" (1952) للروائي النيجيري آموس توتيولا خارج دائرة الأدب الافريقي الحقيقي؛ لأنها مكتوبة بالإنجليزية، فيما عُدت رواية "غابة الألف شيطان" (1939) لرفيقه في الوطن دانيال فاغونوا عن نفسه الثقافة، من صميم هذا الأدب، فقط لأن اليوروبا لغتها الأصلية.
تحولت المسألة اللغوية لدى كتاب أفارقة إلى سلاح في معركة التحرير، وربما حتى التأسيس لأدب إفريقي حقيقي من منظورهم، كما هو الحال مثلا لدى الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو؛ "أعتقد أن كتاباتي بلغة الكيكويو، أو بلغة كينية، أو بلغة إفريقية، جزء لا يتجزأ من النضال الكيني، ونضال الشعوب الإفريقية ضد الاستعمار؛ ففي المدارس والجامعات كانت لغاتنا الكينية لغات القوميات المتخلفة التي تتكون منها كينيا مقترنة بصفات سلبية عن التخلف والرجعية والامتهان والعقاب، كان المقصود أن نخرج كارهين للشعب والثقافة وقيم اللغة بسبب ما نتعرض له من امتهان وعقاب كل يوم".
قد لا يتكون اللغة بذات الهالة التي أضفيت عليها، حتى كادت تشعل فتيل حرب قد تأتي على قائمة من روائع الأدب الإفريقي، لأن اللغة التي يستخدمها الكاتب، ليست هي العامل الحاسم في تحديد هويته القومية. فصمويل بكيت مثلا كان يكتب بالفرنسية، ولكنه لم يكن أقل إيرلندية بسبب ذلك. كما أن فلاديمير نابوكوف كتب عددا كبيرا من رواياته باللغة الإنجليزية ولم يكن بذلك الخيار أقل روسية.
تيوتولا مثال عن آلام المبدعين
يسرد الكاتب مآزق أكبر من العائق اللغوي لدى الكتاب الأفارقة، مستثمرا في ذلك قربه الشديد من هؤلاء، بحكم خبرته في التدريس بأفريقيا أولا، ثم كأستاذ للأدب الإفريقي في عدد من الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية. فبسط في الكتاب أسرارا عن حياة ومعاناة كُتاب أفارقة مع دور الطباعة والنشر من جهة، ومتاعبهم مع الأنظمة الحاكمة التي تبذل الغالي والنفيس لإسكات أي صوت يرفض مسايرة على أنغام الاستبداد، ساردا تفاصيل ومعطيات قلما يجدها القارئ في مؤلف آخر.
سرد لارسون القصة المؤلمة للروائي النيجيري آمولاس تيوتولا؛ أحد الآباء المؤسسين للواقعية السحرية، التي تقدم مثالا صارخا عن وضع كاتب ذائع الصيت في الغرب، عاش حياة مملوءة بالإحباط والإهمال، حتى أن الرجل توفي دون أن يملك ما يسدد به نفقات دفنه، ما اضطر أسرته وأصدقاءه لجمع التبرعات. قامة أدبية كبيرة تسند لها وظيفة بسيطة في مديرية العمل في لاغوس، حيث يبحث عنه من يرغب نيل توقيع لروايته (شريب نبيذ النخيل)، وحكى الكاتب طرفة دارت بينهما بعد توقيع الإهداء، حيث قال: "أعتقد أنك عندما تصل إلى هناك، إلى الولايات المتحدة، ستكتب لي رسالة؛ قلت: "نعم! ولكن لماذا؟" قال: لأعرف أنك لم تنسني".
تلك سيرة مبدع "شريب نبيذ النخيل" التي وصف الأديب الكندي إريك رايت لغتها بأنها "مكتوبة بإنجليزية ليست إنجليزية هذا العالم"، أما الشاعر الإنجليزي ديلان توماس فكتب مراجعة نقدية للرواية من بين ما ورد فيها: "هذه القصة المحكمة، المحتشدة، المروعة، الفاتنة من سلسلة قصص مكتوبة بإنجليزية فتية، لكاتب من غرب افريقيا، عن رحلة "شريب نبيذ النخيل"، عبر كابوس من المغامرات العجيبة العصية على الوصف، يقدمها ببساطة وعناية، وأسلوب يقف له شعر الرأس".
استطاع تيوتولا أن يقبض على ذكريات من التراث الإفريقي كي يخلدها بالكلمة المكتوبة. وكان في أواخر أيامه، يجيب عندما يسأله أحدهم لماذا يكتب؟ معتبرا نفسه كإنسان يريد أن يحافظ على بقاء ثقافته: "لا أريد أن يموت الماضي، لا زريد لثقافتنا أن تختفي. هذا ليس جيدا، نحن نضيع (عاداتنا وتقاليدنا)، وأنا أحاول أن أستبقيها في الذاكرة".
في متاهات النشر والقمع والنفي
يتحدث المؤلف عن "مجاعة كتب خطيرة في افريقيا"، فإفريقيا القرن العشرين مجتمع أضحت "مجتمع بلا كتب"، فالكثير من الأفارقة لا يستطيعون الوصول إلى المواد المكتوبة بلغاتهم. طبعا، لم تكن المشكلة أبدا في عدم وجود كتاب في القارة الافريقية، ولا في قلة عددهم، المشكلة هي نقص الناشرين المخلصين للكتاب والكاتب الإفريقي.
يدرك الناشرون الأفارقة أن الكتب الحسية التي تتناول الحب والجنس والجريمة والعنف، ما يروق للقارئ الإفريقي، كما هو الحال بالنسبة لأي قارئ آخر، لذا تتصدر هذه المواضيع قائمة انشغالات دور النشر، ما يعرض إبداعات خارج هذه الدوائر للتجاهل والتهميش. ناهيك عن تركيز اهتمام هؤلاء على دخول سوق النشر المدرسي، باختيار الرواية ضمن مقرر المناهج الدراسية، ما يسمح برفع نسبة مبيعات هذا العمل أو ذاك. خيار يكون ثمنه إخضاع الإبداع لمقص الرقيب، فلا يمكن اعتماد العمل إلا بعد "تنقيته" من جانب الدوائر الحكومة المكلفة بالفحص والرقابة.
الأمر ليس مجرد قضية اقتصادية، ولكنها الأنظمة الفاسدة، فحسب رواية الكاتب الليبيرلي سيميليه كوردر "وجد كثير من الكتاب، والصحفيين والمعلمين أنفسهم محاصرين بمشكلات كثيرة، وكان يلقى القبض عليهم، ويعتقلون ويسجنون بسبب كتاباتهم الناقدة للحكومة أو للقيادات السياسية، فكلاهما النظامان العسكري أو المدني كان قاسيا في معاملة الكتاب والصحفيين بالرغم من أن القادة العسكريين كانوا هم الأكثر وحشية في التعامل مع «أصوات المثقفين المنشقين»".
سجن الكتاب الأفارقة كانت عملية متكررة، ومنتشرة بالدرجة التي أدت إلى ظهور جنس أدبي فرعي، محوره قصص وتقارير وحكايات طويلة كتبها مبدعون، قضوا فترات في سجون بلادهم. أما النفي فلازمة لاحقت معظم الكتاب، فأغلب الإبداعات كتبت في المنفى؛ داخل القارة أو في الغرب. وسبق لروائي الغيني كامارا لاي أن وصف حرية الإبداع بقوله: "لا أحد في افريقيا اليوم لديه الحرية لكي يكتب ما يريد، لا أحد حر؛ لأن الحكام الأفارقة لديهم حساسية شديدة، ولن يستمعوا لشعرائهم، ولا الذين يسبق تفكيرهم السياسيين بسنوات".
كانت انخراط أدباء افريقيا بنفس نضالي، في قضايا شعوبهم أولا، وهموم القارة بوجه عام، في توتر العلاقة بين المثقف والحاكم، فكتب الكاتب النيجيري كين سارو ويوا؛ أحد ضحايا هذه الأنظمة قبل إعدامه شنقا، "عندما يكون الأدب في ظرف دقيق، كما هو الحال في نيجيريا، فمن المستحيل، أن يكون منفصلا عن السياسة، والحقيقة أن الأدب لا بد أن يكون في خدمة المجتمع بأن يغمس نفسه في السياسة، بأن يتدخل فيها، وينبغي ألا تكون كتابة الكتاب لمجرد التسلية أو للنظر بذهول إلى المجتمع. لا بد أن يقوموا بدور اقتحامي، لا بد من أن يكون الكاتب هو الإنسان الفاعل".
مجتمعات بلا كتب، مجتمعات بلا قرار، مجتمعات بلا كتاب، بلا مثقفين في ظل النزوح الكبير لهم نحو الغرب. كيف سيكون شكل المستقبل في قارة المستقبل؛ فإفريقيا بإجماع خبراء الاقتصاد وأهل السياسية هي الأمل لبقية شعوب كوكب الأرض.