الجمعة 22 نوفمبر 2024
يُهيمن استخراج المعادن الحرجة المطلوبة لتأمين ريادتها الصناعية على إستراتيجية كوريا الجنوبية تجاه بلدان قارة أفريقيا. وبرز ذلك خلال أعمال القمة الكورية الجنوبية - الأفريقية الأولى، التي استضافتها العاصمة الكورية، سيول، في 4 و5 من شهر يونيو/ حزيران الجاري، بحضور رؤساء دول وحكومات ووزراء من 48 دولة أفريقية، واُختتمت بتوقيع نحو 50 اتفاقية أولية ومذكرة تفاهم وإطار عمل بين الجانبين.
بادر الرئيس الكوري الجنوبي، يون سيوك يول، بالتعهد برفع مساهمة بلاده التنموية في القارة إلى عشرة مليارات دولار، بحلول عام 2030، إلى جانب توفير 14 مليار دولار لتمويل الصادرات إلى القارة، وتشجيع الاستثمار الكوري الجنوبي في دولها، مُغلفًا ذلك بمسحة "تعاطفية" عن مشاركة بلاده المعاناة مع دول القارة حتى وقتٍ قريب، والإشارة إلى تعاون "جنوب - جنوب".
جاءت القمة في وقت يتزايد فيه التنافس الدولي على القارة، التي تراها الدول الصناعية الكبرى مصدرا للموارد الطبيعية، لا سيما المعادن الحرجة والنادرة، محور التنافس العالمي لضمان التفوق في عصر الثورة الصناعية الرابعة، وكسوق استهلاكي كبير، يضمّ 1.421 مليار نسمة، يمثّلون 17.8% من سكان العالم، وفق تقديرات العام 2022.
يوفر تحليل نوعية الاتفاقات الثنائية التي وُقعت على هامش القمة، وموقع الطرف الأفريقي على خريطة الثروات الطبيعية، مدخلاً لفهم الأهداف الكورية الجنوبية. تأتي البداية مع دولة تنزانيا، بمشاركتها بوفد رفيع المستوى تقدمته الرئيسة سامية حسن، التي كانت واحدة من أبرز الضيوف الذين وصلوا مبكرا إلى سيول، فزيارتها الرسمية بدأت منذ 31 مايو/ أيار حتى اليوم الأخير للقمة. وقام وفدها بالتوقيع على عدد من التفاهمات والاتفاقيات، شملت: إعلان بدء المفاوضات بشأن اتفاقية شراكة اقتصادية (EPA)، واتفاقية تمويل لمشاريع بنية تحتية بقيمة 2.5 مليار دولار، واتفاقية تمويل بناء مستشفى في زنجبار بقيمة 161.4 مليون دولار، ومذكرتي تفاهم بشأن الاقتصاد الأزرق، والتعاون في استخراج وإضافة قيمة على المعادن الإستراتيجية مثل: الكوبالت والنيكل، فضلًا عن ذلك، تمتلك تنزانيا احتياطات كبيرة من خامات البوكسيت والغرافيت.
وقعت كوريا مذكرة تفاهم مع مدغشقر للتعاون في استخراج وإضافة قيمة على المعادن الإستراتيجية، وفي العام الماضي وقع البلدان مذكرة تفاهم لتعميق العلاقات التجارية الثنائية. جدير بالذكر أنّ معدن النيكل مثّل نسبة 95% من صادرات مدغشقر السنوية إلى كوريا الجنوبية، بقيمة بلغت 150 مليون دولار. وقعت سيول على هامش القمة أيضا، اتفاق تمويل بقيمة مليار دولار لمشاريع تنموية في موزمبيق، التي تعتبر سيول رابع أكبر وجهة تصديرية للسلع، بقيمة 466 مليون دولار، وبنسبة 5.63% من صادراتها، وفق إحصاء عام 2023، وتشمل معظم الصادرات مواد خام منها، الفحم ومنتجاته والوقود والزيوت المعدنية.
كما وقعت كوريا مع أوغندا اتفاقية لمنح قرض بقيمة نصف مليار دولار، لتمويل مشاريع في البنية التحتية. ولا تزال أوغندا مجالًا بكرًا في استخراج الموارد الطبيعية من نفط ونحاس وذهب وفوسفات وحديد. كما أنّها شريك قريب من كوريا الشمالية، العدود اللدود لسيول. لذا قد تُفهم الاتفاقية، في أحد جوانبها، كرسالة سياسية ترمي سيول من ورائها العمل على تحجيم العلاقات الخارجية لشقيقتها وعدوتها الشمالية، عبر تقديم بدائل مالية وتجارية وعسكرية للدول التي تربطها علاقات مع الأخيرة.
يظهر مما سبق، أن كوريا الجنوبية تستهدف دولًا أفريقية تتمتع بوفرة في المواد الخام النادرة والحيوية، لتأمين توريد المواد اللازمة للصناعة، فيما لم يرد شيء خلال أشغال القمة يفيد عزمها مشاطرة خبراتها في التصنيع مع دول القارة.
أكد البيان الختامي المشترك للقمة على الحاجة إلى توسيع التعاون ومشاركة المعرفة، لتعزيز تطوير الصناعات المتعلقة بالمعادن الحيوية. ويتضح ذلك من المعادلة الكورية المتسندة إلى موارد القارة من ناحية، وتقدمها التكنولوجي من ناحيتها، وتم التعبير عن هذا التوجه في اجتماعات المؤتمر الوزاري السابع للتعاون الاقتصادي الكوري الأفريقي (KOAFEC)، في سبتمبر/ أيلول الماضي، حيث صرح نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد والمالية الكوري؛ تشو كيونغ-هو، بأنّه "إذا تم الجمع بين الصناعة التكنولوجية المتقدمة في كوريا وإمكانات النمو في أفريقيا، فسيكون ذلك تحالفًا قويًا من شأنه أن يقود إلى تعافي المجتمع الدولي". وفي سياق قريب؛ عقّب أستاذ الاقتصاد في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة، كيونغ مين كانغ، على مخرجات ذلك المؤتمر، بأنّ "سيول تهدف إلى تقليل اعتمادها الكبير على الصين، فيما يتعلق بالمعادن الأساسية، واحتواء نفوذ الصين في سلسلة توريد التصنيع العالمية".
حلت التجارة بين كوريا الجنوبية وأفريقيا ثانيةً في جدول أعمال القمة، وكان لها تعهد بقيمة 14 مليار دولار، لمعالجة محدودية حصة القارة من التجارة والاستثمار الخارجي لكوريا، والتي لا تتعدى 1 - 2%، بحجم تبادل تجاري بلغ 20.45 مليار دولار في عام 2022، واستثمارات تراكمية مُقدرة بنحو 9.2 مليار دولار في عام 2019. فضلا عن هذه المحدودية، ثمة خللٌ في التوزيع، حيث تستأثر مصر بحصة الأسد، بقيمة 3.9 مليار دولار من التبادل التجاري، و800 مليون دولار من الاستثمارات، تليها جنوب أفريقيا بحجم تبادل تجاري بلغ 3.16 مليار دولار، في العام ذاته، مع هيمنة للموارد الخام.
على هامش القمة، وقعت سيول مذكرتي تفاهم لبدء المفاوضات حول اتفاقيات تجارية ثنائية مع تنزانيا والمغرب. ويرى نجوفي كيتاو، السفير الكيني السابق لدى سيول، بأنّ أفضل رهان هو الدفع نحو اتفاقية تجارة حرة جماعية أفريقية مع كوريا الجنوبية، كي تحظى صادرات القارة الزراعية بفرصة للمنافسة. كما إنّ تعهد سيول بتوفير 14 مليار دولار لزيادة صادراتها إلى القارة، سيعمق من اختلال ميزان التبادل التجاري لصالحها، على حساب دول القارة التي لا تتوفر على الموارد لدعم الصادرات، فضلًا عن محدودية السوق الكورية أمام المنتجات الزراعية والاستهلاكية الأفريقية، إذ يبلغ عدد سكانها 51.6 مليون نسمة فقط.
يتضح من مبادرة "حزام الأرز الكوري" أنّ معظم الدول التي تستفيد منها لديها احتياطات متفاوتة من المعادن الحرجة النادرة، ومنها: غانا والسنغال وكينيا وغامبيا والكاميرون وأوغندا وغينيا. وعلى المستوى القاري، قدمت كوريا تمويلًا بقيمة 600 مليون دولار بموجب اتفاق الاستثمار في الطاقة مع بنك التنمية الأفريقي في عام 2021، وقبيل القمة بأشهر، وقع الطرفان اتفاقًا جديدًا للتمويل بقيمة 28.6 مليون دولار.
سيول في موضع المساءلة حول الشراكة مع القارة، بالاستناد إلى التزامها المُعلن في عام 2006، خلال فعاليات "المبادرة الكورية لتنمية أفريقيا"، والمؤتمر الوزاري للتعاون الاقتصادي الكوري الأفريقي، والمنتدى الكوري الأفريقي (KOAF )، إذ بعد مرور 18 عامًا على تلك الانطلاقة، لم تزد محفظتها الاستثمارية عن تسعة مليارات دولار، ولم يظهر الزخم النسبي في العلاقات بين الطرفين، حتى العام 2021، بالتزامن مع احتدام التنافس الدولي على الثروات المعدنية النادرة والحرجة، لمواكبة التغيرات الهائلة في الصناعة التكنولوجية والتقنية.
في المجمل؛ ثمة قصور في استجابة الدول الأفريقية للاستفادة من تنافس الشراكات الدولية على القارة، حيث لا تتحقق الكثير من التعهدات على أرض الواقع، بسبب تبني حلول لا تتناسب مع ديناميكيات الواقع الأفريقي، فمعظم دول القارة تفتقر إلى الشروط الأساسية لتحقيق الاستفادة المثلى من التعاون الجماعي، مثل الاستقرار السياسي، والاقتصادات المتطورة، والمؤسسات والهياكل المستدامة التي تتسم بالكفاءة والشفافية، والبنية التحتية اللازمة. ويبقى النظر إلى القارة كوحدة اقتصادية أمرًا مناقضًا للواقع، فهي وإن نجحت، بخلاف قارات أخرى، في تأسيس تعاون سياسي قاري وإقليمي، فما يزال أمامها طريق طويل لبناء وحدة اقتصادية، تمكنها من التفاوض بصوت واحد مع القوى الدولية التي تتنافس على ثرواتها الطبيعية.