الجمعة 22 نوفمبر 2024
كانت السنغال على موعد مع التاريخ، يوم الأحد 24 مارس/ آذار، بإجماعها على التصدي للمخاطر المتربصة بواحدة من أعرق التجارب الديمقراطية في غرب إفريقيا، مسدلة الستار على فصل شديد التوتر في التاريخ السياسي الحديث للبلد، امتدت قرابة ثلاثة سنوات، بتنظيم تاسع انتخابات رئاسية في البلاد، ذلّلت الطريق أمام انتقال سلمي للسلطة إلى المعارضة، في سياق طبعته الاستثنائية على أكثر من صعيد.
بدء من توقف التقويم الانتخابي لفترة وجيزة، عقب إعلان الرئيس ماكي سال تأجيل الانتخابات، وما تلاه من معركة قانونية انتهت بقرار المجلس الدستوري القاضي بإجراء الانتخابات، قبل مطلع شهر أبريل/ نسيان، موعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي. وليس انتهاء بفوز المرشح باسيرو ديوماي فاي، بعد حملة انتخابية دامت عشرة أيام، تلت خروجه من السجن، حيث أمضى 11 شهرا بتهمة إهانة مسؤول ونشر معلومات كاذبة.
ينسج السنغاليون مجددا قصة متفردة، وهذا ليس بغريب عنهم، فهناك تولى رجل مسيحي، ليوبولد سانغو، رئاسة دولة ذات أغلبية مسلمة (97٪) لعقدين من الزمن (1960- 1980)، قصة ملهمة من النضال والكفاح الديمقراطي السلمي، في محيط إقليمي مضطرب، تطغى فيه القوة ولغة السلاح، حيث كان مسرحا لثمانية انقلابات عسكرية، خلال أربع سنوات فقط. فما السر وراء صلابة الديمقراطية السنغالية يا ترى؟ وهل من دروس في التجربة السنغالية للأفارقة؟
واحة ديمقراطية صامدة
وسط مشهد سياسي غاية في التعقيد، قوامه ارتباك كبير داخل النظام الحاكم، وخلاف حاد بين المؤسسات (الحكومة/ القضاء...)، عرفت السنغال تنظيم انتخابات رئاسية بين 19 مرشحا رئاسيا، بتكلفة إجمالية بلغت 14 مليار فرنك افريقي، حظيت بإشادة من المراقبين المحليين (1568) والدوليين (899) على حد سواء، فقد اتسمت المحطة الانتخابية بالهدوء، وتمتعت بدرجة عالية من الشفافية. ما يجعل العنف المتزايد في البلاد، في الآونة الأخيرة، بأنه مؤشر يفيد اعتراض الشعب على الزج بالبلاد في نفق السلطوية المظلم.
تبقى نسبة المشاركة الدليل الأبرز على ذلك، فقد بلغت، وفق رئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، 62٪ من أصل 7,3 مليون شخص، تم تسجيلهم في قوائم التصويت، في دولة بتعداد سكاني يبلغ 18 مليون نسمة. وشهدت مراكز الاقتراع بالخارج، البالغ عددها 807 مركزا، بدورها مشاركة واسعة للجالية السنغالية في هذا الاستحقاق الانتخابي. ما يعكس تطلعات الشعب السينغالي، في الداخل والخارج، إلى التغيير السياسي في البلد، بأسلوب سلمي وعبر المؤسسات التي أظهرت صلابتها.
شكل قبول كافة الأطراف المشاركة في النزال الانتخابي ميزة هذه الواحة الديمقراطية، فبمجرد إعلان النتائج بادر بقية المرشحين، بما فيهم الرئيس المنتهية ولايته، الذي لم يشارك في الاستحقاق الرئاسي في سابقة تاريخية، إلى تهنئة مرشح المعارضة؛ باسيرو فاي الذي كسب الاستحقاق في الجولة الأولى، وبنسبة 54٪ من الأصوات، متقدما بفارق كبير على مرشح الائتلاف الحاكم؛ أمادو با الذي حصل على 35٪ من الأصوات.
هكذا صار المرشح "الاحتياطي" في حزب "باستيف" (الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة) رئيسا للدولة، رغم محاولة وزارة الداخلية مبكّرا قطع الطريق عن زعيم المعارضة الأول (عثمان سونكو) لتسجيل حضوره في السباق الانتخابي، بإعلانها، نهاية شهر يوليو/ تموز 2023، حلّ حزب باستيف، بموجب مرسوم، بالتزامن مع صدور أمر قضائي بحبس زعيمه، بعد توجيه اتهامات جنائية إليه، بسبب دعواته المتكررة إلى التمرد ما أسفر عن سقوط ضحايا. حزب ترى فيه النخبة الحاكمة تهديدا مباشرا لها، ولمصالح باريس حليفها التقليدي، وتعتبره امتدادا لحركة "يانا مارا" (لقد اكتفينا)، التي قادت حراكا شعبيا شبابيا قويا في السنغال، عام 2011، رافعة شعار "ليس هناك محتوم، هناك فقط مسؤوليات مجهورة".
من المعارضة إلى الحكم
لأول مرة ينجح مرشح معارض في الفوز بالرئاسة في السنغال، فباسيرو فاي شاب لم يأكل يوما من طاولة السلطة ولا شرب من معين الخارج، ابن أصيل للبيئة المحلية؛ تعليما وتكوينا وخبرة. فضلا عن كونه حديث العهد بالمسؤوليات، فالرجل لم يسبق أن اضطلع بأي منصب حكومي في مسيرته، سوى مهاما في الحزب الحديث في الساحة السياسية في السنغال، حيث يصفه مقربون بكونه "مهندس المشروع".
خاض باسيرو حملة انتخابية ملهمة، شعارها "من أجل سنغال ذات سيادة وعادلة ومزدهرة"، بسقف تطلعات مرتفع جدا، فالرجل يكافح من أجل مشروع يعد بتحولات عميقة تنحاز نحو التنمية في البلاد، فالتغيير الاجتماعي واستعادة القرار الوطني والإصلاح الاقتصادي وإعادة تقييم عقود الاتفاقيات مع الدول الأجنبية... يعد الرئيس الجديد إذن بتدشين صفحة جديدة في تاريخ السنغال، تقطع مع دابر تراكمات وإرث الحقبة الاستعمارية. ما جعل صحف دولية (لوموند الفرنسية مثلا) تصف فوزه ب "الزلزال السياسي في السنغال"، فما أكثر الأصوات التي اعتبرت مصالح فرنسا هناك على المحك.
لا شك في طموحات الرئيس الشاب بتحقيق رغبات الناخبين الساخطين من تردي الأوضاع في البلد، الطامحين إلى التغيير السياسي والاقتصادي. لكن حسابات الحكم تختلف عن تقديرات المعارضة، وبدا ذلك خطاب الرجل المعتدل بعد الفوز، ففي أول تصريح له سعى إلى طمأنة شركاء بلاده قائلا: "أود أن أقول للمجتمع الدولي ولشركائنا إن السنغال ستحتفظ بمكانتها دائما، وستظل البلد الصديق والحليف الآمن والموثوق لأي شريك سينخرط معنا في تعاون شريف ومثمر للطرفين".
قد يكون خطاب الطمأنة خطوة ذكية تمنح باسيرو فرصة لإعادة بناء الرؤية الدبلوماسية أخذا بعين الاعتبار الخيارات المتاحة والهوامش الممكنة، فمؤسسة الرئاسة، على أهميتها، ليست سوى متدخلا واحدا ضمن أخرين لهم تأثير ووزن في بنية القرار، لا سميا السياسة الخارجية، فمهما تكن النية في إحداث انقلاب ثوري في هذه السياسة، تبقى محكومة بآراء مؤسسات مثل الجيش والأمن والنخب الاقتصادية...
أمام الرئيس فرصة مثالية للإبداع في السياسة الداخلية، بإعلاء المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وتحويل محاربة الفساد إلى ممارسة سلوكية في البلد، وليس مجرد إجراء انتخابي، حيث أقدم على نشر إعلان عن ممتلكاته. فضلا عن العمل على تحسين الأوضاع المتدهور في البلد؛ بالحد من الفقر (2/3)، وتخفيض معدل البطالة (20٪)، والعناية بالقرى والأرياف التي خبِرها جيدا أيام الأحاد والعطلة الرسمية.
مؤكد أن السنغال على أعتاب مرحلة جديدة، بتولي زعيم حزب معارض مقاليد السلطة في البلاد، ما يمثل مؤشرا على طي صفحة نظام الرئيس ماكي سال الذي تأثرت الديمقراطية كثيرا في ولايته الثانية، حيث تراجع تصنيف البلاد في جل المؤشرات الدولية، فقد تقهقرت على سبيل المثال إلى المرتبة 104 في مؤشر حرية الصحافة.
دروس سينغالية للأفارقة
يعد سقف التوقعات المرتفع سلاحا ذو حدين بالنسبة للرئيس والشعب معا، فالسعي لتحقيقها سيضع على خطوط التماس مع أكثر من جهة في داخليا وإقليميا ودوليا، وتزيد التحديات التي تواجه الرجل الأمر تعقيدا، فأمامه تركة ثقيلة ورثها عن النظام السابق، ينغي تصريفها بسلاسة وهدوء دون قلاقل، ما قد يشكل تشويشا على مشروع البديل الذي وعد به الرئيس للانتقال إلى السنغال الجديدة.
مهما تكن التحديات المحدقة بالتجربة الديمقراطية في السنغال تظل حبلى بالدروس والعظات لجيرانهم في المنطقة ولبقية شعوب القارة الإفريقية.
أولا: قدرة الشعوب على صناعة مصيرها بأيديها، متى أمنت بالحلم وكافحت من أجل تحقيقه. فها هم السنغاليون الذين يتقاسمون مع الأفارقة الكثير من الأشياء يقلبون الطاولة على النظام ومن يدعمه "ماما فرنسا"، مصممين على تدشين حقبة جديدة في تاريخ البلاد، بمنح ثقتهم لمناضل سياسي مغمور خارج مربع السلطة والأحزاب التقليدية. هكذا انتصرت إدارة الشعب على مشروع "انقلاب ناعم" أوشك على إلحاق البلاد بقائمة دكتاتورية منطقة غرب افريقيا.
ثانيا: ضرورة التمسك بالبناء المؤسساتي والدستوري حتى في أصعب اللحظات، فهو السبيل الأسلم للفكاك من الأزمة، فالصلابة المؤسساتية حالت دون مساعي الرئيس ماكي سال توظيف أجهزة الدولة لصالحه؛ بدء من الانتقال من المعارضة، وصولا إلى خرق المقتضيات الدستورية بشأن الزمن الانتخابي. عبث أوقفه القضاء بإعادة الأمور إلى مسارها الصحيح، ما يجعل ثقافة المؤسسات ركيزة في أي تجربة ديمقراطية.
ثالثا: الاستثمار في هوامش الفعل والإمكان، كما فعل سونكو وباسيرو، فالديكتاتورية ليست قدرا محتوما، والفوضى والعنف ليست الخيار الوحيد، فالتغيير الحقيقي يأتي من أعماق المجتمع، بكسب أصوات الشعب عبر صناديق الاقتراع، ومن الجولة الأولى في الانتخابات. وليس بركوب الدبابات وإراقة الدماء وتمزيق البلاد، للاستيلاء على السلطة، بعد تحصيل الدعم الخارجي بدعوى مواجهة نفوذ خارجي أخر.
رابعا: النفود الأجنبي ليس قدرا محتوما على الأفارقة، ما لم يجد وكلاء محليين يحمون مصالحه، وهو ما بدأ في الانحصار بمنطقة غرب افريقيا، لا سميا مع الهيمنة الفرنسية الذي انطلق في السنغال بداية القرن السابع عشر (1624)، حيث قرر الجيل الصاعد من الشباب؛ نخبة وعامة، (62٪ تقل أعمارهم عن 25 عاما) وضع نهاية لمسلسل طويل من الاستغلال باسترجاع حقوقهم المسلوبة.
قصة نجاح جديدة للديمقراطية في افريقيا تكتب في أعماق القارة، على غرار قصص عديدة ملهمة طالها النسيان، فالإنسان الإفريقي، بحسب الغرب المهيمن، لا ينبغي أن يُمنح فرصة الإحسان بالذات والفعل والإنجاز، فتوليد الشعور بالتبعية لديه هو السر لضمان التحكم فيه. حقيقة تمرد عليها السنغاليون بإصرارهم على جعل بلاد التيرانغا واحة للديمقراطية في محيط عاصف.